المثل يقول: المال السائب يشجع على السرقة، هذا المال الذي لا رقيب عليه ولا حسيب له غير الحكومة كجهة اعتبارية، وادق وصف يمكن ان يوصف به انه (عام)، أي أن ملكيته تعود لعامة الشعب، من خلال تجربة اغترابنا وسفرنا لبلاد الله الواسعة لاحظنا أن ممتلكات الدول العامة هي الاكثر أماناً وتأميناً ومراقبة من قبل الحكومات، فالأمن والجيش والشرطة وموظفو البلديات بهذه البلدان، ليسوا مثل رصفائهم بالسودان الحبيب، فعلى مدى تاريخ الحكومات المسماة بالوطنية (زوراً) وجدنا اكثر الاشياء اهمالاً هي تلك المتعلقات العامة والخاصة بكل الناس، حتى أن هيبة هذه المؤسسات العامة فقدت رونقها وبريقها تدريجياً بفعل النظرة القاصرة وغير الوطنية، فبعد اسقاط دكتاتورية مايو لم يخطر على ذاكرة احد منا محاكمة مشهودة وجادة لرموز فساد ذلك العهد البائدالأول، بل كانت جلسات صورية عرضتها شاشات التلفزيون، خرجبعدها ائمة الفساد وأكلة المال العام الى بلاد الله الواسعة دون سجن او مصادرة لما اكتنزوه، وشاعت حينذاك مقولة (عفا الله عما سلف)، التي تقابلها اليوم دعوات بعض المتواطئين مع رموز فساد الحكومة المدحورة لعقد المصالحات بينهم وبين هؤلاء الفاسدين، تخيل معي عزيزي القاريء تراكم ثقافة التواطوء والتراخي والتكاسل والتلاعب، وعدم الضرب بيد من حديد القانون على ايدي وارجل الساعين بين الناس بالتباهي والتفاخر بأكل المال العام.
الاتهامات المتبادلة بين مقرر لجنة ازالة التمكين ووزيرة المالية السابقة، حول تصريح الأول فيما يتعلق بامر القبض الصادر بحق الثانية بسبب شبهات فساد، تجعلنا نتساءل أين تقرير المراجع العام لسنة عشرين عشرين؟، ولأي الجهات تم تقديم هذا التقرير لا سيما وأن المجلس التشريعي لم يؤسس بعد؟، وهل يمكن للناس ان يضمنوا ويثقوا في الجهازين التنفيذي والسيادي بابداء حياديتهما التامة، في حال ناشت سهام المراجع العام احد الوزراء التنفيذيين او واحد من الاعضاء السياديين؟، لقد كان من الأوجب على حداة ركب الانتقال ان كانوا ثوريين حقاً أن يعجلوا بتكوين برلمان الثورة، الذي بالضرورة ان يضم بعض ابطال لجان المقاومة والرموز الوطنيين والقانونيين الشرفاء الذين لا تشوب سمعتهم ونزاهتهم شائبة، من سمح بخلو جهاز الدولة من هذا الجسم الرقابي والتشريعي القومي؟، ومن ذلك الذي دعم غياب برلمان الثورة عن مسرح الحكم وشئون ادارة الدولة عامين متتاليين من تاريخ الخلاص من الدكتاتورية؟، ما تكشف لنا هو ان التنسيق بين دواوين الرقابة والمحاسبة والنيابة والشرطة مفقود تماماً، مما احدث فوضى هذه التصريحات الصادرة من اعلى قمم اجهزة الدولة، وهذا بحد ذاته يمثل عيباً معيباً في مؤسسات الحكم الانتقالي ادى الى بروز رؤوس هذه الخيوط التي من الممكن ان تجر مرحلة الحكم المؤقتة برمتها الى الهاوية.
الشركات الحكومية الكبرى التي تدير انتاج الذهب والبترول والمعادن النفيسة، وكل المؤسسات صاحبة الموارد المالية الجالبةللعملة الصعبة، يجب ان تكون الرقابة المالية والادارية عليها كبيرة ومستمرة، وأن لا تتجاوز المدة الزمنية للتقارير الدورية المقدمة من مديريها التنفيذيين لوزارة المالية ورئاسة مجلس الوزراء الثلاثة اشهر، وأن لا يتم تعيين مدراءها العموميين من قوائم السياسيين ذوي الاختصاصات البعيدة كل البعد عن نشاط هذه الشركات، فما اهلك البلاد الا التحاصص الذي نحا بالمهنية والكفاءة والتخصص والخبرة جانباً، وهو شر البلايا الموروثة من انظمة الحكم المعطوبة البائدة، التي رأينا فيها استهتاراً واضحاً بأهمية الزراعة والصحة العامة للأنسان والبيئة، فقد كانت وما تزال الوزارات المنوط بها ادارة هذه المناحي من الحياة تمنح كترضيات للجماعات السياسية الصغيرة الحجم التي لم تجد حصتها من الكعكة، احدى هذه الوزارات تعمل من أجل انقاذ حياة الناس ورعايتهم الصحية ليزيدوا من كفاءتهم الانتاجية، والثانية صميمة في رفد الخزينة العامة بعائدات منتج رأسمالي منافس على مستوى العالم.
تصريحات مقرر لجنة ازالة التمكين ذكّرتني باولى اعترافات المرحوم حسن الترابي بوجود فساد في اوساط جماعته قبل ان يودعوه السجن، حينها اقر بأن نسبة الاعتداء على المال العام بلغت(بضع بالمائة)، وكمايقولون ان اول الغيث قطرة، فالحديث الذي ادلى به الرجل الاقوى في اللجنة الواجب عليها تفكيك تمكين حزب المؤتمر الوطني البائد، سيكون له ما بعده والمثل يقول:(العود كان مافيهو شق مابقول طق)، فهل نحن موعودون باخبار مثيرة للرأي العام في مقبل الأيام؟، لا شك أن هذا العام اللاحق للعام الكورورني الماضي سيضع الحاكمين باسم الثورة والثوار داخل (فتيل) الأحرار الذين سيكملون المشوار، ومن ظن أن الثورة نامت عينها يكون كمن لا يريد أن يعتبر بجوقة الدكتاتور التي اصبح رموزها قليلي الحيلة نحيلي الجسد شاحبي اللون، يستجدون قضاء الحاجة من داخلقفص الاتهام، استغرب لمن تسول له نفسه الاعتداء على مال الشعببعد التضحيات الجسام التي قدمها صغارنا اليافعين، الا يتعظ امثال هؤلاء المتلاعبين والمتهاونين بروح الثورة وعزيمة ابطالها الراكزين !!، أم ان جرثومة الفساد قد دب دبيب نملها في نفوس بعض حكامنا الجدد؟!.
اسماعيل عبد الله
10 ابريل 2021