ما من شك أن كل البلدان التي تنشد التقدم و الإزدهار , تولي أهمية قصوى للحفاظ على موروثها من العادات و التقاليد الإجتماعية و الثقافية , وتبذل قصارى جهدها عبر أجهزة الضبط الإجتماعي من شرطة و أفراد حراسات أمنية , في حماية المجتمع والحد من وقوع الجرائم التي تقشعر لها الأبدان , مثل الإنتهاكات المتعلقة بالتحرش الجنسي بالنساء و جرائم إغتصاب الأطفال , فإنه من أكثر ضحايا هذه الجرائم هم من فئتي الأطفال و النساء , واذا اردنا أن نقيس مستوى تحضر وتمدن شعب من الشعوب , علينا أن ننظر إلى ماهية القوانين المنوط بها الحفاظ على حقوق المرأة و حماية الطفل , ومدى الأمن و الأمان اللذان تحققهما هذه القوانين المختصة في شئون النساء و الأطفال , فعندما تجد بلداً ما نسائه يكابدن المشاق للحصول على حقوقهن , ويعانين أشد المعاناة من اجل الحفاظ على خصوصيتهن , تأكد أن ذلك البلد يقبع تحت حضيض البدائية و مسكون بكل أسباب الرجعية والأمية الحضارية , في كثير من البلاد العربية و الإسلامية مازالت الحكومات مشغولة بقشور القضايا الاجتماعية , تاركة أس المعضلات التي تشكوا منها شعوبها , مثل الفقر و البطالة و تمدد و انتشار الأوبئة و الأمراض , فمن البديهي أن ترى في مثل هكذا بلاد , ثورة عارمة للإعلام الحكومي لمجرد ارتداء فتاة يافعة لتنورة قصيرة تسببت في إثارة غرائز الشباب و المراهقين , في الوقت الذي يعمل فيه ذات الإعلام المضلل على التعتيم الكامل لتفشي وباء مميت يحصد المئات من الأرواح , و يمارس ذات الإعلام السكوت المخجل عن آلآم الناس في صراعهم اليومي مع لقمة العيش , فهذا التناقض الكبير الواسع و الشاسع ما بين الأوهام المعشعشة في رؤوس الحكام و رموز المؤسسات الدينية , وبين واقع تحديات ومتطلبات النهضة الإقتصادية الشاملة التي ينشدها المجتمع , هو ما أفرز هذا الأداء الحكومي والخدمي المترهل في مثل هذه الدول , الأمر الذي أدى إلى تفشي ظاهرة الرشاوى والإكراميات في سلوك الموظفين الحكوميين , ففي حقيقة الأمر إنّ النظام العام لمجتمع ما و أمنه يكمن في توفير الأمن الغذائي اولاً , ثم المسكن و الدواء و التعليم , وليس كما يحدث اليوم من قيام لثورات إعلامية حاشدة , ضد التنانير القصيرة للفتيات المراهقات و تتبع ما ترتديه النساء من مناطلين محزقة , وترصد لطرائق مشيتهن في الأحياء والأسواق .
إنّ أمن المجتمع و أمانه و طمأنيته يكمن في مضمون وتوجيه الآية الكريمة : (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) , صدق رب العباد , فالمواطن لن يستشعر الأمن و الأمان في بيته بينما أمعائه تمور و تفور بسبب غلواء الجوع وفراغها مما يسد به الرمق , ولن ينضبط الشارع العام و الخوف من المصير المجهول يسيطر على قلوب الناس , و الإثنان (الجوع و الخوف) إذا ما اجتمعا في قلب رجل واحد , تيقن من أنه قد إجتمعت كل أسباب ودوافع الجريمة في هذا القلب , وبعدها لا تسأل لماذا اغتصبت بنت فلان أو كيف سرق أو قتل ابن علّان , لأن أساس الأمن المجتمعي لاتحققه السيارات المحملة برجال الشرطة , أو الشوارع الممتلئة بالشباب المدججين بالسلاح و بالهراوات , ولا بأنتشار صوامع الغلال التي افرغت من قوت الناس و استخدمت كمكاتب لرجال الأمن المجتمعي , لقد كان حري بالدولة أن تملأ الغلال بالذرة لكي يعيش الناس في مأمن من الجوع (الكافر) , لا أن تجوّعهم و تجود بهياكل مخازنهم التي كانت مخصصة لحفظ طعامهم لمؤسسة الشرطة , وتجعل منها مقار لأفراد الحراسات و للكتبة الذين يتلقون فيها بلاغات المواطنين عن المجرمين , وعن الجرائم التي يحدثها إجتماع ثنائي الخوف و الجوع , فسعي الدول و الحكومات نحو تحقيق التنمية الأقتصادية المتوازنة , هو المخرج الأوحد لشعبها من دوامة التشظي الإجتماعي , وازدياد وتيرة ونشاط بؤر ودور البغاء , و توسع دائرة الشباب المدمنين على تعاطي المخدرات , فالنمو الاقتصادي يوفر فرص أكثر للعاطلين عن العمل , ويحد من هجرة الكادر المهني المتخصص الذي يحتاجه مجتمعه , و كما هو معلوم أن تحقق مستوى معين من الرفاهية الإقتصادية يساعد على كبح جماح بعض النساء اللائي انحرفن عن السير في طريق الفضيلة , بحجة ضيق ذات اليد , و يساعد في إيقاف أمواج من الفتيات المهاجرات من بلدانهن إلى دول الجوار الإقليمي , لأجل ممارسة البغاء و التكسب منه , وذلك لحتمية وجود بدائل ممكنة ومتاحة للباحثين عن الكسب الحلال , في ظل هذا الإزدهار التنموي و الإقتصادي المفترض.
فالقوانين المختصة في الحد من الظواهر الإجتماعية السالبة , و المستهدفة الحفاظ على المظهر العام تواجه معضلات وتحديات كثيرة , خاصة في البلدان الواقع تحت ظل إدارتها أنظمة سياسية وحكومات موبوءة بداء الفساد المالي , لأن وجود الطبقة الطفيلية المستحوذة على المنفعة الاقتصادية , هو ما يعمل على رعاية إنفلات عيار المجتمع و فقدانه لتماسكه القيمي و الأخلاقي , ولأن أفراد هذه الطبقة الطفيلية لا تطالهم يد القانون نسبة لتحصنهم بالسلطة السياسية بالبلاد , فتجدهم يعبثون بأعراف و قيم المجتمع و يخرّبون البنى التحتية للتقاليد السائدة في ذات المجتمع , تماماً مثلما حدث قبل سنة و بضعة أشهر , عندما تمت عملية مداهمة لإحدى الشقق السكنية بالخرطوم , وتم ضبط أحد الأفراد الذين ينتمون إلى مثل هذه الطبقات الطفيلية , و هو مليونيراً قام بشراء عذرية عدد لا يستهان به من الفتيات , مقابل مبالغ من المال لا تقاوم إغرائها كثير من الأسر الفقيرة , فلم تطاله يد القانون و لم يلاحقه القضاء , و فر هارباً خارج البلاد بغطاء وحصانة من السلطة , لهذا السبب فإنّ أنظمة الحكم التي نخر في عظمها الفساد المالي و الإداري , لن تقدر على صون كرامة مواطنيها , فاختلال ميزان العدالة حينما يكون في رأس الهرم السلطوي , فإنّ إنهيار قيم المجتمع و انحطاطه يصبح أمراً بديهياً ولا يدعو للدهشة أو الإنبهار.
عندما نأخذ السودان كحالة وعينة تمثل البلدان التي وثقت لها الدوائر الدولية في قوائم معايير و متطلبات الحكم الراشد و الشفافية و نزاهة مؤسسات الحكم , و التي للأسف تذّيل فيها وطننا الحبيب هذه القوائم في ظل حكم الإنقاذ , نصل إلى خلاصة الحقيقة الواضحة والصافية النقية التي لا يشوبها الكدر , في أن التدهور المريع في القيم و التفسخ الأخلاقي الذي اجتاح المجتمع , هو مسؤولية الحكم الإنقاذي بالدرجة الأولى , إذ أن نظام الحكم هذا قد تخبط كثيراً و أضاع جهده في (التمكين) لفئة بعينها من محاسيبه في السلطة و المال , دون غيرها من شركائه الآخرين المتساوين معه في حق المواطنة والإنتماء للوطن , فشرّد كثيرين بدعواه الباطلة المسماة بــ(الصالح العام) , والتي كانت بمثابة حملة جائرة أضرت وفتكت بالمصلحة العامة لكافة الناس , و حتى الآن ما يزال نظام الحكم الإنقاذي يمارس القهر و الإذلال بحق النساء عبر ما أطلق عليه اسم (النظام العام) , فخرّب به المنظومة العامة لقيم وتقاليد المجتمع فاصبح (خراباً عاماً).
اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com