عمر الدقير
ثمانيةً وعشرين عاماً قضمها نظام الإنقاذ من أعمار السودانيين كما يقضُم حمارٌ قبرصي جزرةً طويلة .. ثمانيةً وعشرين عاماً قضاها السودانيون بين جمرٍ ورمادٍ وما بينهما من قهرٍ وشقاءٍ وعناءٍ ودماءٍ ودموع.
خرجت الإنقاذ، في جنح ظلام ليل الثلاثين من يونيو عام 89، من عباءة الحركة الاسلامية وجاءت بما يسمى بـ “المشروع الحضاري” محمولاً على صهوات الدبابات التي انتهكت الإرادة الشعبية التي أفرزتها الديموقراطية الثالثة، ولكن سرعان ما عصفت تحدِّيات الواقع بذلك المشروع كما تفعل رِيحٌ عاصفٌ بقارِبٍ كرتوني في لجة البحر. ولم يكن ذلك بسبب الممارسة فحسب، كما يزعم بعض رموز المشروع في مراجعاتهم، وإنما بسبب العلل البنيوية الكامنة في مشروعهم والتي أعجزته أن يُشَكِّل رافعة لأية أهداف وطنية كبرى وفي مقدمتها الحفاظ على وحدة الوطن الذي ظلَّ عصياً على التقسيم منذ إعلان استقلاله قبل أكثر من ستة عقود .. أمَّا الممارسة فقد أوغلت في الاستبداد والفساد وسوء الإدارة، بَيْد أنَّ أسوأ تجلياتها كان استهداف الدولة – الدولة بمعناها المتعارف عليه دستورياً وسياسياً وسسيولوجياً – واستباحتها حتى انحطَّت بنصابها إلى دركٍ سحيق حيث أفقدتها وظيفتها التمثيلية الجامعة واختزلتها، عبر سياسة التمكين الحزبي، في محض سلطة مشدودة إلى مصالح فئةٍ بعينها .. سلطة مطلقة تنعدم فيها آليات المراقبة والمحاسبة والمراجعة واستدراك الخطأ وتشحُّ فيها الكوابح الأخلاقية، وتحيط نفسها بسياجٍ من القوانين القمعية وتتوسل القوة المادية لتنصيب نفسها ممثلاً وحيداً للضمير الوطني وقهر الآخرين وإقصائهم وتهميشهم والتحيُّف في حقوقهم، حتى لم يجدوا بُدَّاً من تحدِّي قوانينها وقوتها واللجوء لساحاتٍ أخرى لمقاومتها ولو كان ذلك حراكاً جماهيرياً راعِفاً أو مواجهاتٍ بالنار وكُتَل الحديد يكون حصادها هلاك الأنفس وتبديد الموارد.
يدخل نظام الإنقاذ عامه الجديد بعد حوار “الوثبة” الذي صمَّمه وتحكَّم في إدارته وصياغة مخرجاته لإعادة انتاج نفسه بنسخةٍ جديدة يرفع فيها حزبه “المؤتمر الوطني” شعار “الإصلاح والنهضة” مع الإيحاء بأنه مزَّق عباءة الحركة الاسلامية التي خرج منها – كون تلك العباءة أصبحت عبئاً عليه لا سيما على المستويين الإقليمي والدولي – ومتجاهلاً معطيات الواقع التي صنعتها أياديه، وكأنه حزبٌ وصل لتوِّه إلى السلطة ولم يمكث فيها ثمانيةً وعشرين عاماً كانت هي الأعجف والأكثر عجزاً وفشلاً والأشدُّ ظلماً وإظلاماً في تاريخ الحكم الوطني !!
ليس هناك ما يحمل السودانيين على التفاؤل وتصديق خطاب “الإصلاح والنهضة” الذي تغيب عنه ثقافة النقد الذاتي والمراجعة والمحاسبة والاعتراف بالخطايا وإعلان الندم عليها، ومن حقهم – في ظلِّ هذا الغياب – أن يتساءلوا: كيف لمن حمل معاول الهدم وتلوَّثت يداه بكل هذا الخراب أن يتحوَّل إلى داعية بناءٍ وإصلاحٍ ونهوض؟؟ وكيف للسجَّان، أو مَن أمٓرٓهُ أو صفَّق له أو سكت عنه، أن يتحوَّل إلى مُبَشِّرٍ بالحرية؟؟
منذ بداية المعرفة إلى خاتمتها، إن كانت لها خاتمة، يبقى معنى النهضة في جوهره واحداً وثمة مطلوبات مشتركة للنهضة في كلِّ العصور، فهي ليست مجرَّد عرض لشعاراتٍ برَّاقة على طريقة “كلمة حقٍّ يُراد بها باطل” .. النهضة في المبدأ هي جسارة العقلانية في مواجهة نقائضها من الجهل والخرافة وغيرهما، وهي انحيازٌ للنور ضد الظلام وانتصارٌ للصدق على خداع الذات والآخرين، وهي وعدٌ بالحريَّة وليست وعيداً بالاستبداد ورهانٌ على المستقبل وليست انكفاءً على الماضي وبكاءً على الأطلال.
أمَّا الإصلاح، فإنَّ أولى خطواته هي الاعتراف بفساد الواقع ورداءته، والشرط الأساسي لتحقيقه هو إخضاع النفوس للنقد الشجاع الأمين ومراجعة منظومة القيم والمعايير والسياسات التي أفسدت الواقع .. وقبل ذلك كله، فإنَّ نجاح أية عملية إصلاح رهينٌ بوجود جذورٍ صالحة لم يتسرب إليها الفساد أو يصبها الجفاف، أمَّا حين تفسد كل الجذور أو تجف فلا بديل عن التغيير الشامل.
من حقِّنا وواجبنا أن نقول لهم كفى مراوغةً ورقصاً على الحبال، لأنَّ السَّيل جاوز الزُّبى كلَّها ولم يبق في قوس الصبر منزع .. علينا ألَّا نُصدِّق أنَّ أحداً يمكن أنْ يكون السيد المسيح والإسخريوطي في نفس الوقت، وأن نتذكر أنَّ البعوض لن يُنتج عسلاً ولو تغذَّى بكلِّ ما تنتجه مصانع السُّكَّر.
٤ يوليو ٢٠١٧