ألمواطن السوداني تذوق مرارة الذل والهوان بعد إدراج اسم بلاده في قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولم تنحصر المعاناة في أتباع ومريدي النظام الحاكم بطبيعة الحال بل تجاوزتها لتطال محمد أحمد المسكين، فألقت العقوبات الظالمة بظلالها على مجريات أموره اليومية ولم تدع جانباً من جوانب حياته إلا وأثرت عليها سلباً، تعطلت القطارات وانهارت سكك حديد السودان بتداعيات نقص قطع غيار الرؤوس القاطرة، وتبعتها الخطوط الجوية السودانية لنفس الأسباب الميكانيكية، المعاهد الفنية والمدارس الصناعية والمشاريع التنموية مثل مؤسسة ومنظمة هيئة تنمية غرب السافنا، فقدت الرعاية المهنية والمعونات الأمريكية فتركها المانحون وذلك بسبب ما كسبته أيدي الحواريين إخوان الترابي، لقد كانت أم الحماقات أن يعلن المهوسون الحرب الكلامية على أمريكا وروسيا، وأم الكوارث عندما توهم المعتوهون أنهم سيرفعون الأذان على برج البيت الأبيض، في الوقت الذي كانوا لا يملكون فيه قوت يومهم ويتوشحون البندقية الكلاشنكوف المصنوعة في روسيا العظمى ويعتلون ظهور الدبابات والمدرعات المنتجة بالولايات المتحدة، إنّه حقاً كان عصراً للهوس الديني بلا منازع.
ألعبد الفقير إلى ربه كاتب هذه الأحرف ولارتباطه بسوق الملاحة العالمية، اصطدم ذات يوم بخيبة أمل كبيرة أحبطته واحبطت معه أعمال العديد من الإخوة رفقاء درب الوطن، قبل أعوام مضت وأنا على (كاونتر) شركة (ميرسك لاين) بغرض سداد قيمة فاتورة شحن حاويتين متجهتين نحو إفريقيا، امتنع الموظف المسؤول عن إكمال إجراء عملية إيداع المبلغ، وقدم لي اعتذاراً لطيفاً موضحاً أنه غير مسموح لي بمباشرة استكمال العملية بحكم أنني واحد من رعايا إحدى الدول الراعية للإرهاب، وحتى ينقذ الموظف نفسه من حرج الأسئلة المتكررة والاستفسارات الغاضبة، مد إلي يده الممسكة بذلك المنشور الحامل لقائمة تلك البلدان المغضوب عليها (سوريا وإيران وكوريا الشمالية وليبيا والسودان وكوبا)، تأمل عزيزي القاريء كم من مواطن سوداني وكم من مواطنة سودانية قد مر ومرت بمثل هذا الموقف المحزن والمؤلم؟، وما حجم الأضرار المادية والمعنوية التي تكبدها السودانيون والسودانيات عموماً من جراء جريرة جرم جره سفهاؤهم؟، لم تترك حقبة حكم البشير صفحة من صفحات السمعة الطيبة للوطن والمواطن إلا ودنستها وداست عليها بحذائها القذر.
وهناك قصة أخرى لرجل طيب متخصص في استيراد وتصدير قطع غيار السيارات، احتجزت أمواله بالبنك المركزي لتلك الدولة الإفريقية التي يريد تصدير بضاعته إليها من موانيء إحدى الدول العربية، وطلب منه أن يجيب على اسئلة كثيرة مطبوعة على استمارة محشوة بالأستفهامات التحقيقية المملة، ولك أن تتخيل المبرر والمسوغ والدافع الذي أدى لأحتجاز المبلغ، إن قلت لك أن إسم الشركة المصدرة (الخرطوم) والكائنة بتلك الدولة العربية وأحد شركائها وهو سوداني الجنسية كانا سبباً كافياً لأن تجمد أموال الرجل المسكين، وأن لا يفرج عنها إلا بعد أن يقدم المطلوبات التي تحتوي على الأوراق والمستندات المبرأة للذمة، والمنقذة له من التورط في شبهات وعلائق الإرهاب الدولي، هكذا هي معاناة رجال الأعمال الوطنيين الذين يكدحون في سوق (الله أكبر) كدحاً حتى يلقوا ربهم، ولو سأل أحدهم كيف كانت تسير دويلة الأبالسة دولاب عملها في ظل تلك العقوبات والقيود التي صنعتها بيدها، يجيب أحد المراقبين والمتابعين فيقول: إنها كانت (مافيا) ولم تكن دولة محترمة في يوم من الأيام، عصابة مافوية أقامت تعاملاتها المالية والبنكية مع خفافيش الظلام وعتاة مجرمي المؤسسات المشبوهة و دهاقنة تجارة تبييض الأموال.
ألدراسات فوق الجامعية والتحضير لإجازة رسالتي الماجستير والدكتوراة، والمنح الممنوحة للطلاب السودانيين التي كانت تأتي من عدد لا يستهان به من أميز جامعات الغرب، أيضاً أوقفها سيف العقوبات المسلط على رقاب المقهورين، وبذلك حرمت قطاعات عريضة من الشباب هذه المنافع الأكاديمية التي كانت تحصل عليها الأجيال السابقة، وتحوز على أفضل التخصصات فيها من هذه الجامعات المشهورة مجاناً، هذا غير التعاون المستمر في مجالات البحوث العلمية بين الجامعات السودانية ورصيفاتها العالمية هذه، والذي عصفت به رياح واعاصير التعريب وحملات الترجمة غير الدقيقة إلى اللغة العربية، التي قللت من جودة وقيمة المادة العلمية للكتب والمراجع المرصوصة على أرفف مكتبات كليات الطب والهندسة والعلوم والصحة والزراعة والبيطرة، كانت ظاهرة وسابقة خطيرة وغريبة على دور العلم والتربية أسماها المهوسون (أسلمة المعرفة)، لقد كان عهداً غيهباً تسربل بجلابيب الجهل والعته والجنون وغاص في ليل الخرافة بلا دليل ولا سراج منير.
ألقول المختصر والأكثر فائدة حول الأسباب والمآلات التي اوجدت العقوبات، والأضرار الناجمة عن الدخول في دهاليز القوائم السوداء، هو قول الكاتب والصحفي المصري الساخر الراحل جلال عامر – (ترقد الطيور على بيضها ليفقس ويرقد الحكام على شعوبهم لتفطس) – وأظنه يعني الحكام الدكتاتورين الباطشين بمواطنيهم، وليس أدل على معنى (تفطيس الشعوب) من الحال والمآل الذي أوصل إليه الأبالسة الشعب السوداني، فخرج بعض هؤلاء الأبالسة مدحوراً إلى سجن كوبر ولجأ بعضهم الآخر مذعوراً إلى مدن وعواصم الأمبراطورية العثمانية، وتركوا الناس يقاومون البقاء في قائمتهم السوداء يجاهدون من أجل الخلاص من السلاسل والقيود الحديدية التي ضربها إخوة الدكتاتور البشير حول أرجلهم.
إسماعيل عبد الله
[email protected]
30 أكتوبر 2020