ألمرأ يولد على أرض السودان ويكبر ويبلغ الرشد وهو يختزن مفهوم مختزل حول هويته وانتمائه، وهذا القصور المفاهيمي آت من إخفاق وفشل الدور التربوي والإعلامي عبر جميع حقب الحكومات الحديثة، التي تغذّى عقول النشأ بمعلومات مبتورة ومبسطة ومبتسرة عن جغرافيا وتاريخ بلادهم، ويحدث ذلك بدافع الولاءات الأيدلوجية والمعتقدات الدينية، فأخضعت العملية التربوية والتعليمية والتثقيفية لللأيدلوجيا التي يتبعها الحزب الحاكم أومعتقد الدكتاتور الجاثم، ويتضح هذا الإختزال الفطير من خلال مسيرة أكبر نظامين شموليين حكما السودان – الإنقاذ ومايو، حيث وضع اليسار بصمته وأجرى الإسلام السياسي عملياته الجراحية الفاشلة على مناهج التربية والتعليم وموجهات رسالة الإعلام.
ألجغرافيا التي يرقد عليها السودان الحديث بامتداته الواسعة، هي في الحقيقة ممالك وسلطنات وشعوب وقبائل، وأول اتحاد لها كان في عهد الثورة والدولة المهدية، فقبلها كانت هذه الجغرافيا تأوي مجموعات سكانية متفرقة، تحكمها دويلات منقسمة لا يجمع بينها جامع ولا يربطها رابط، وحتى الحكومة الثورية والوطنية الأولى لهذا الكيان المتحد لم تكن ذات عمر مديد، ولم يسعفها الزمن لكي تعمل على ترسيخ الشعور والحس الوطني بذلك العمق العميق في الوجدان الجمعي لشعوب هذه الممالك المتحدة، التي وحّدها ظلم وتجبر المستعمر وتنكيل المغتصب، وهذه الهشاشة في اللحمة الوطنية لأول دولة سودانية حدت ببعض المجتمعات السودانية لأن تبدي امتعاضها من الأحتفاء بهذه الدولة الأولى برغم إنجازها الثوري والوطني وهزيمتها للمعتدي والمغتصب، وذلك بضلوع العامل الجهوي في محددات الشعور والإنتماء الوطني.
ألحس الوطني لدى السودانيين نما في عهد الأستعمار البريطاني كرد فعل طبيعي لمقاومة المستعمر، كما فعلت سائر شعوب آسيا وأفريقيا في ذلك الزمان في رفض الغزو الخارجي والنضال ضد الهيمنة والأرتهان لإرادة الغاصب، فكانت ثورة اللواء الأبيض التي قادها البطل علي عبد اللطيف إمتداد لذات النزعة الثورية التي حركت المهدويين لأقتلاع رأس غردون، فقام المستعمرون البريطانيون صناع ومحترفو السياسة في ذلك القرن بوأد ثورة اللواء الأبيض، بشق الصف الأجتماعي للسودانيين وخلق طبقة داجنة ومدجنة من رموز الطوائف الدينية والعملاء والجواسيس، والمأجورين وممثلي الرأسمالية التي بدأت تطل برأسها في العهد الإستعماري، وكما هو بديهي أن الساسة البريطانين أحفاد تشرشل دهاة في شئون الحكم والسياسة ومطبقين للقاعدة الميكيافلية (فرق تسد)، قد نجحوا في صناعة فصام كبير بين النخب السياسية والأجتماعية وبين العامة من المواطنين، الفصام الذي ظللنا نفدع ثمنه حتى اليوم.
ألمخرجات التي ورثتها الشعوب السودانية في يوم عيد استقلالها الأول، تمثلت في بقاء حالهم كما هو عليه كأقاليم تابعة وخاضعة لإدارة مركزية قابضة لا تعترف بالتنوع ولا بالاختلاف، فحاولت جميع المنظومات الإدارية المتعاقبة أن تصهر شعوب هذه الممالك القديمة في قالب ثقافي واحد له لغة واحدة هي (العامية السودانية) ترقص على إيقاع أغنية واحدة هي الحقيبة، وانعكس هذا التمركز والتمحور والتعصب في إختيار أيقونات النضال والبطولات والملاحم الوطنية بكتب ومناهج التاريخ، دون إعتبار لإرث وفلكلور وتاريخ الجغرافيا البعيدة من مركز تجمع النشا، فتركت هذه الأعتبارات الجغرافية أثرها السالب على التسامح الأجتماعي الفطري والتلقائي لدى الفرد السوداني، فاندلعت الحروب الأهلية في الجنوب والغرب والشرق بسبب سوء تناول هذا العامل الجغرافي.
ألمملكة العظيمة والعريقة التي أدهشت الرحالة الأوروبيين لما لآثارها من إثبات لحقائق تمتاز بالسبق الحضاري في النقوش والرموز المكتوبة على الصخور الداخلية لكهوف الجبال، (مملكة الداجو) وملكها (كسفروك) التي بالكاد تجد من يعلم عنها شيئاً من أجيال ماضي وحاضر السودان الحديث، لا لشيئ سوى هذا القصور في الرؤية الجغرافية للوطن الكبير، وهنالك الكثير من الممالك والشعوب التي لم يذكرها المؤرخون الوطنيون، ليس عن قصد منهم وإنما لأن (فاقد الشيء لا يعطيه)، وما بالك بالذين لم يروا انعكاس صورتهم على مرآة لوحة الوطن الجميل الذي تغنى بحبه حسن خليفة العطبرواي (ياوطني العزيز يا أول وآخر)، فعامل الجغرافيا له الأثر الأكبر على إنجاز السودان (البنحلم بيهو) والوطن (الحنبنيهو)، تلك المفردات الرومانسية التي نرددها ولا نستعد لدفع كلفة فاتورتها المتمثلة في الإقدام الفعلي للإنصهار في بوتقة واحدة.
ألصراع الجغرافي في بلادنا تبرز صورته الفاضحة معلقة أعلى درجات سلم الهرم الإداري للدولة، فالدرجات السفلى للسلم لا يراها الناس لأنها بعيدة عن مركز تسليط ضوء الإعلام المركزي، ويمكن أن ترى هذا التمظهر بشكل شفاف في ما يتعرض له رموز الجغرافيا البعيدة من استهجان وهم يتجولون على الجغرافيا المركزية، و رمزا السيادة الانتقالية (كباشي) و(حميدتي) خير مثالين لأفرازات هذا الصراع، فالأول حُرم متعة زيارة صلات قرباه يوم عيد الفطر المبارك بأقتحام لجان مقاومة حي الحتانة لمنزل مضيّفه، فنعته أفراد هذه اللجان بشتى أنواع النعوت العنصرية ذات الطابع الجغرافي على خلفية حدث فض الأعتصام الذي حدث، وهنالك من عقد المقارنة بين نواياه ولون بشرة وجهه، وآخرون وصفوه (بالــــــــعبد)، أما حميدتي فما يزال في نظر البعض مجرد رباطي برغم دوره المفصلي في إزاحة الدكتاتور، ومن قبلهما كان للمناضلين الراحلين قرنق وخليل نصيب من ذات الشتائم، إنّه عامل الجغرافيا ولا شيء غير الجغرافيا، والدليل هو أن البرهان وياسر العطا لا ولن يتعرضا لما تعرض له الثنائي القادم من الغرب البعيد وذلك بحكم إنتمائهما اللصيق بجغرافيا المركز القريب.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com