محمـد أبكر
ويأتي الحديث عن حرية الصحافة ضمن الحقوق الأساسية للكيان الإنساني في إطار ضمان سيادة الإعتراف بحرمة حقوقه وحرياته بالعموم، علاوةً على إحترام حرماته التي تكفل له تأمين حياة طيبة، وبقاء مستحق، وعيش كريم، ووجود له مبرر كافي بالإهتمام والشرف والعطاء. فحرية الصحافة – بصفة عامة – لا تنفك عن صلتها بالحقوق “الجوهرية” الضرورية للإنسان ضمن تحقيق لوازم وجوده المستحق، وتأكيد وجوديته الحقة مثل حرية الحياة أو البقاء، وحرية الإعتقاد والتعبير، وحرية الإعلام والمعرفة، وحرية الرأي والنشر والتجوال…الخ.
وأحرى دلائل لذلك لهي ما حواه ميثاق الإعلان العالمي من حقوق الإنسان عام 1948م، وأهمها: الحق في حرية الرأي والتعبير في المادة(19)، والحق في الإعلام في المادة(19)، والحق في حرية التجمع وتأليف الجمعيات في المادة(21)، الحق في المشاركة في الحكم والوظائف العامة في المادة (21). وقد أكد الميثاق الدولي لحقوق الإنسان المدنية منها والسياسية في عام 1996م على ضرورة الإعتراف بهذه الحقوق وإحترامها وسبل تحقيقها، الأمر الذي أدى إلي أن تتضمن المادة التاسعة على جواهر الحقوق والحريات الأساسية من قبيل: لكل فرد الحق في حرية الرأي، لكل فرد الحق في حرية التعبير بصفة عامة، في مقابل خضوعها – دستورياً – على قيود وإشتراطات بعينها طبقاً لنصوص القوانين ومواثيق شرف وفق إحالات ضرورية.
وقد يحتوي مجموع دساتير وقوانين دول “الأمم المتحدة” على حرية الرأي والنشر والإطلاع والإصدار(حرية الصحافة/الإعلام) – على إعتبار المفهوم الكلي والخالص لمصطلح “الحرية – إيماناً بها بالحق القدسي والوجودي الكامل في حرية كل وأي شئ أو شخص أو وجود أو رمز أو تعبير أو دلالة أو تضمين. وبالتالي فــ”حرية الصحافة” قد تأتي في صدارة أشكال “حرية الرأي والتعبير والإعلام”، القضية التي تحيل إلي توكيد أن حرية الصحافة ضمن حرية التعبير – فلسفياً – لهي النتاج الطبيعي لــ”حرية الإعتقاد والإستطلاع والمعرفة”؛ فالإنسان – على إعتبار وجوديته وطبيعته التكوينية – له كامل الحق في التفكير والتفكر والفكر بخالص الحرية ومنتهى الإستقلالية، الأمر الذي يؤدي إلي أن ” يجب ألا يحال بينه وبين نمو كيانه المعنوي، وإزدهار إنسانيته؛ فحرية الإعتقاد – في الأساس – هي أولى الحريات التي تحدد جميع الحريات الآخرى”.
ويرى “ويلبور شرام” في توكيد “حرية الصحافة” أن الأخيرة قد تتضمن ثلاث أطر ضرورية وهي: حرية المعرفة(الحق في الحصول على المعلومات اللازمة)، وما تتضمنها من لوازم وأفرع ومحددات لازمة، وحرية القول (الحق في نقل المعلومات بحرية وتكوين في أي موضوع)، بالإضافة على حرية البحث(الحق في إتصال وسائل الإتصال بمصادر المعلومات التي يجب معرفتها ونشرها)، وهذا علاوةً على المسئولية الأساسية “الدائمة” للصحافة في الدفاع عن هذه الحريات أعلاه وحمايتها – بكل الآليات والسبل والإختيارات – ضد كل تدخل أو مؤثر خارجي كان أو داخلي.بينما يعتقد “عماد النجار” – من الناحية الدستورية والقانونية – أن “حرية الصحافة” تتأطر في جوانب ثلاث وهي: عدم خضول المطبوعات لرقابة سابقة من قبل السلطة القائمة حتى في أقصوى الحالات الإستثنائية، ثم “تحديد المجال الذي يخول للمشرّع تقييد حرية الصحافة فيه؛ بمعنى ألا يكون في وسع المشرّع وضع تشريعات تُجرم شيئاً ينفع المجتمع”، بالإضافة إلي الحق – للفرد/الجماعة – في إصدار الصحف من دون إعتراض من السلطة. وبالطبع ليس هكذا بتقرير نصوص “تنظيرية” لحرية الصحافة في دفاتير دستور دولة ما أو قانون بعينه يحيل إلي الهدوء – وبالضرورة – بوجود حرية الصحافة، ووفرة سبل تحقيقها وحمايتها؛ فإذ أن حقيقة الأمر أنه لابد – في حالة التأكيد من توفر هذه الحرية – من وضع ضمانات دستورية، وتأمينات قضائية بما فيها الكفاية لدعم وإسناد وتوكيد تلك الحقوق; ومنها إقرار مبدأ الفصل بين السلطات، فالرقابة القضائية، ثم وجود نظام نيابي قائم الأحزاب مستند إلي رأي عام قوي”، فضلاً عن تمتع رجال الحكم بقدر كافي من النزاهة والكفاءة والحكمة والغيرة على مصالح الوطن.
وفي السياق ذاته؛ قد لا تكتمل الصورة الأوضح لــ”حرية الصحافة” – من الجانب القانوني- إلا في حالة ضمان ثلاث محددات أساسية وأولها: لابد من الإقرار بحق الإصدار والحصول على المعلومات وحرية نشرها للمؤسسات الإعلامية/الصحفية، وثانيها لابد – بالضرورة – من الإقرار وتأمين حرية الصحفيين في التعبير والإدلاء بالرأي بلا قيود أو إشتراطات إكراهية غير دستورية، أما ثالثها لابد من الإقرار بحق القارئ في الوصول إلي المعلومات والأخبار والحقائق بكل حرية ورغبة وإستقاء وإختيارات حرة، وبلا أي كوابل أو نصوص قسرية؛ وهكذا فــحرية الصحافة قد تأتي – بكل المقاييس والخيارات – ضمن سياق “مفهوم الحق في الإتصال”.
وهكذا – بكل الإعتبارات القيم والأخلاقية وخيارات الدساتير وإقرارات القوانين، ومواثيق الشرف – فإن حرية الصحافة لهي أهم- إن لم تكن – أقدس الحريات والحرمات الحقوقية الجوهرية لطبيعة الكيان البشري ضمن سياق القراءة والكتابة والتأمل والحكمة والإدراك، فضلاً عن سياقات الإحالات السياسية والثقافية والإجتماعية والمعرفية؛ فهذه الحرية في إطار الحق في “حرية الإعتقاد والتعبير” لهي التي تحدد وربما تُوجد كافة الحريات والحقوق الآخرى.
ومن نافلة الحديث أن مفهوم “الحرية” بالمعنى اللغوي يدل على الطبيعة العارية، والسلوك الخالص والطبع الكلي, والخلق الأول لكل موجود؛ أي شئ كان أو شخص أو رمز أو دلالة أو إشارة بعينها. وبالتالي تظل المناداة بكفالة “الحرية الكاملة” للكل لهو الديدن الدائم والصوت الذي يخفض دويه طوال مسيرة التطور والرُقي لحركة الشخصية الإنسانية؛ فهذا المحدد – كما يعلم الجميع بالغريزة – لهو خلاصة إنوجاد هذا الكائن البشري في إطار بناء إنسانيته ضمن منجزات توكيد حضارته عن سياق التمدن الأخلاقي والحسي والحدسي والجمالي; أي أنه اللازمة الجوهرية في سبيل تحقيق الإنسان عن وجوده الحقيقي وإدراكه لنفسه ومعرفته الحقة لطبيعته الكلية، وفهم نواميس الكون، وإدراك إشارات الحياة والوجود.
وبالتالي نفهم أن حرية الصحافة – على دلالة إعتراف الجميع بأهميتها البالغة أو قدسيتها الكاملة – لا تقل أهمية عن بقية الحريات أو الحقوق “الأساسية” للإنسان على وجهة تحقيق وجوده الخالص، وتحقيق إحالات بقائه الأهم والضروري؛ فهذا الحق في الحصول على المعلومات ومعالجتها وكشفها ونشرها، والإطلاع عليها، وإبداء الرأي فيها من أهم محددات تمكين “حرية الإتصال بين البشر”، وأول مطلب لسيادة مبادئ إحترام حقوق الإنسان، والإعتراف بها، والسعي نحو الدفاع عنها وحمايتها، والتضحية بالحياة في سبيل قدسيته.
وعلى الرغم من تضمين – ربما – جميع الدساتير والقوانين على حرية الصحافة/الإعلام والإقرار بحرمتها وقدسية وجودها، إلا – وفي الحلقوم مرارة التعبير وحنظل الإعتراف – أنها تُنتهك عن قصد ودراية ومنهجية بما فيها الكفاية على مرأي ومسمع الجميع سواء بيد النظام الدكتاتوري أو الديمقراطي؛ بيد أن الأخير أقل وطأةً عن الأول؛ فهذه الحرية الكل يعترف بحرمتها، ولكن على طريقته هو، إن لم يجاري طريقة الهزل و”الحبكة الدرامية الضاحكة”، وعلى وجهة التنظير الفج، والتصوير اللغوي للأحرف ليس إلا إن لم نكن نبالغ كثيراً ههنا. فإذا تم مراجعة هذه الدساتير والقوانين نجدها تقر وبكل قواها التنظيرية بحرمة هذه الحرية، وإلا وبرهةٍ فيتم مصادرة تلك الصحيفة، أو ملاحقة هذا الصحافي، أو محاسبة هذه الكاتبة، أو عدم منح هذا الممول الحق في إصدار صحيفة بعينها، أو إعطاء تلك المؤسسة الإعلامية حق الترخيص لمزاولة مهامها ومباشرة جدولة عملها، والحصول على المعلومات اللازمة وآليات معالجتها فكشفها…الخ.
وهكذه قد تعاني هذه “الحرية” من النفاق الخالص من قِبل المؤثرات الخارجية بقدر ما هو موجود داخلياً، فضلاً عن معانأتها البالغة من إذدواجية الخيارات، وتنافق المعايير والمبادئ من وجهة هذا أو ذاك، الأمر الذي أدى إلي التعود على اللإحتجاج والتنديد بإنتهاك هذا النص، أو المساس بهذه الأحكام، والتطاول على هذا الإقرار. وقد توجد مبررات خاصة وآخرى عامة تحاول تسويغها هذه القوى المؤثرة، وتلك المحددات المسيطرة عليها، أو التي تنتهك -وبإستمرار – هذه الحرية من قبيل أن الحرية “الكاملة” للصحافة قد تؤدي إلي خلق التشويش والإغلال بجدولة خيارات الحزب الحاكم، أو تجاوز الحدود الأمنية لخيارات النظام القائم، عن غير أنها قد تتعدى الخطوط الحمراء التي تتعلق بالامن الداخلي للدولة المعنية، وإحداث سوء التفاهم بين البلدان أو بين الأحزاب، عن غير شرائح المجتمع المعين، علاوةً على أن هذه الحرية كثيراً ما ترتبط بمدى كيفية سيطرة قوى المجتمع على إختيارات السياسة، وأوراق الإقتصاد، ومحددات مطلب الإجتماع الإنساني.
ولكن يبقى أن “حرية الصحافة” من أقدس الحريات الواجبة صونها والدفاع عنها، وأهم الحقوق التي يجب على الجميع الكفاح لأجلها، وينبغي على الكل النضال المستمر بغية سيادتها على مجموع البشر، وسبل توكيدها وآليات تحقيق حرمتها، فضلاً عن فهم وإدراك أنماط كيفية السيطرة على القوى المؤثرة عليها، والإحالات الداخلية والخارجية التي يمكن أن تتطاول عليها، وتمس قدسيتها، أو التقليل من شأنها الكبير، وإهمال أهميتها القصوى، وذلك لأنها – بشكل أو بأخر- المحدد الأساس في كيفية الإقرار ببقية الحريات، والمطلب الجوهري في إحترام كل بقية الحقوق ونيلها كاملةً; فهذه الحرية لهي الضامن الأول لتأمين جميع الحقوق والحرمات الإنسانية والأخلاقية والقيمية الضرورية هذه والآخرى.
وهكذا فــ”حرية الصحافة” – بطريقة أو بأخرى – ومدى الإقرار بها وحمايتها والدفاع عنها لهي المحدد الأول لبقاء الإعلام وتأمين وجود الصحافة صامدة رغم الأعاصير العاتية من قِبل الأنظمة الدكتاتورية والحكومات الشمولية القاهرة، والضامن الأكبر لتحقيق مبادئ إحترام حقوق الإنسان، والإعتراف بحرمة حرياته على جميع المستويات، علاوةً على أنها المتحكم الأساس في مدى وعي وتحضر ورُقيَّ هذا المجتمع، فضلاً عن قياس
مدى إخلاقية وعقلانية إحترام حقوق الطبيعة الإنسانية الحُرة بالكلية.
mabakarm28@gmail.com
*كاتب وصحافي سوداني – الخرطوم.