الوزارة أياً كان دورها فهي تعزز السيادة الوطنية وتخدم الاطار الذي تحوم داخله واجباتها، لذلك اجدني مختلف بعض الشيء مع من يميّزون ويُمايزون بين أولوية حقيبة دستورية على أخرى من حيث المقام، فوزارة الدفاع مثلاً ليست بأكثر اهمية من وزارة الزراعة ولا وزراة الصحة بأقل شأن من وزارة الخارجية، لكن هنالك درجة عالية من الحساسية الوطنية تتعلق ببعض الوظائف الدستورية العليا، فالمسؤولون والمسوؤلات عن الخزانة والدبلومساية والعلاقات الخارجية والدفاع والقيادة العامة للقوات المسلحة وقيادة قوات الشرطة والداخلية والأمن، هذه الحقائب لها مهام لاتقبل المناورة ويجب ان لا تخضع للمجاملة عندما يحين الوقت المستحق لتحديد من يشغلها، في الدول المحترمة رأينا المهنية والسير الذاتية المعتقة لمن يتولون مثل هذه المناصب، وجدناهم قد عملوا منذ نعومة اظافرهم في المجال ولم ينقطعوا عنه لمدى عقود، والقليل منهم من كان سيساسياً متفرغاً يقضي حياته بين منابر التراشقات الكلامية، في هذه البلدان تقضي مطابخ القرار السياسي الأيام وتسهر الليالي في عملية اختيار من هو الأكفأ لاعتلاء كرسي الوزير الأول المعني بالأمن الوطني، وتعيين المسؤول الأكبر عن رعاية المصالح الدبلوماسية العليا للبلاد في محيطها العالمي والاقليمي.
الأختيار غير الموفق الذي اجراه رئيس الوزراء مع شركاءه فيما يخص حقيبة الخارجية، بان خطله في المؤتمر الصحفي الذي انعقد بين الوزيرين النظيرين المصري والسوداني، وما اعقب ذلك من تداعيات للصورة الباهتة والملامح الشخصية المهتزة لوزيرنا، حينما لم يكن دقيقاً في الحديث عن قضية تمس كرامة الانسان، الا وهي الأرض التي يرادفها العرض في المعنى والمدلول، وحُق للشامتين بنا من البائدين ان يشمتوا اذا لم تكن حكومة ثورة الدماء والدموع بالقدر الذي طمح اليه شباب الصبّة، ولا غبار يشوبهم لو عقدوا المقارنة بين وزيرنا المهزوم ووزيرهم البائد، السامع اللامع والخطيب المفوه والدبلوماسي الوجيه الذي تجري الكلمات العربية والافرنجية على لسانه، مجرى مياه النيل الأزرق من بحيرة تانا الى البحر الابيض المتوسط، نعم، انّ الثورة ليست للبيع ولا للتحاصص لو كان القحاوطة يعلمون، ولو كان بهم ذرة ولاء لقطرة دم واحدة من الدماء الغالية للشهداء المراهقين، لأخرجوا هذه الوزارات الحسّاسة من قائمة (العوارة السياسية)، وهنا الحقوق الأدبية محفوظة للبروفسور السوداني الساخر الجميل مخترع هذا المصطلح، ويظل السؤال قائماً: لماذا يتعامل معنا قادتنا السياسيين بالطريقة التي تشبه الى حد بعيد السلوك المتخلف لأهل الكهف عندما خرجوا لتوهم من كهفهم؟.
التهور وعدم دراية ومعرفة ووعي المرشحين لشغل الحقائب الوزارية بمقدراتهم الذاتيه، يعتبر عاملاً آخراً يضاف الى العوامل الاخرى الكثيرة التي ادت لظهور (الكفوات) على مسرح العبث القحطاوي، فالبصير بأمور مقدراته الذاتية لن يقبل بأن يكون أرقوزاً على مسارح الهبل والعبط السياسي التي جاءتنا به سخريات اقدار آخر زمان هذه المهازل، ودنيا اليوم تقودها الصحافة والاعلام الحر عبر منصات التواصل الاجتماعي، التي وضعت يدها على حركات وسكنات علية القوم وسادته والكادحين، ولم يعد احد بامكانه احتكار الرأي وتوجيهه كما كان يحدث قبل ولوج الألفية الثالثة بطفراتها السايبرية المذهلة، وكما شهد وزراء التكليف المقالين الردم والجلد بمداد الأقلام الحرة لن يكون الوزراء الجدد – الراكبين بفضل ظهر المهر الغالي لحسناء الثورة السودانية المجيدة – بافضل حظ من سابقيهم، ومع سهولة تداول المعلومة وانهيار صنم الرقيب الطاغوتي تكون الحكومة التي يجب ان تمثل الثوار في مرمى نيران الثوار حتى ترعوي، وعلى من قبل بالتكليف الوزاري أن يتقدم باستقالته قبل أن تقيله المليونيات التسونامية الهادرة اذا ما استأنس في نفسه عدم الكفاءة، فالشارع مازال حياً يغلي ويفور ويمور ويتطاير من بين جنباته الشرر، والعبرة بالحملات الاعلامية الوطنية الشجاعة التي طرحت رأياً واضحاً حول وزراء الفترة الأولى.
السودان في جعبته الامثال والحكم الموروثة كابر عن كابر، مثلان لابد لخارطة طريق الاصلاح الفوري ان تاخذ الحكمة منهما – الخريف اللين من شواقيره بيّن – والمطر من صبته والولد من تبّته، وحتى لا تتدهور الدبلوماسية بدّلوا رأس سنامها قبل فوات الأوان، فالسلك الدبلوماسي حافل بالقامات السامقات التي خبرت تشعبات مشكلاتنا مع دول الجوار والعالم، والتي لها اسهام ضليع في حلحلة اعقد المشكلات التي اعترضت علاقات حسن الجوار بين البلدان العربية والأفريقية، لا ترهنوا الحقيبة الدستورية والواجهة الوطنية المطلة على الأسرتين الدولية والأقليمية لشخص لاعلاقة له بالدبلوماسية لا من قريب ولا من بعيد، وارحموا هذا الشعب المسكين من السير على درب البائدين عندما أتوا بدباب صاحب عصابة حمراء وزيراً للخارجية، كفوا شرور الداء اللعين والقديم عن مستقبل هذه الأمة العظيمة.
وانا اخط هذه الاسطر جالت بخاطري صورة المرحوم الخالد المنصور، ماذا تراه يقول اليوم لو كان حياً؟، وهو الدبلوماسي العضوي الذي اجتمعت فيه خصال الأناقة والرشاقة والأدب والحصافة والسياسة وجوامع الكلم، اني أخاله يئن في مرقده من هول الصدمة ويشتد حاجبه من سطوة الدهشة التي اكتست بها وجوه من كان حاضرا لذلك المؤتمر الأليم.
اسماعيل عبد الله
[email protected]
5 مارس 2021