أول ما تبادر إلى ذهني حينما كان المواطن السوداني ينتظر ويترقب , إعلان حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك قبل أيام مضت , هو شماتة أنصار الثورة المضادة في حال اختيار حمدوك لوزير واحد يفتقر إلى الكفاءة التي جعلها شعاراً لحكومته الجديدة , والكفاءة بالضرورة لا تعني فقط التاريخ المهني للوزير وعدد الشهادات الأكاديمية التي حصل عليها , و انما تشمل اللباقة و الذكاء الاجتماعي و حضور البديهة و القبول والمظهر العام , إضافة الى الروح الدبلوماسية التي يجب أن يتحلى بها شاغل حقيبة الوزارة المعنية , وبحكم تجربتنا في سوق العمل ببلدان الخليج الضاجة بالتجارة و المال و الأعمال , فان المخدمين و رؤساء أقسام الموارد البشرية بالشركات و المؤسسات , لا يعتمدون المتقدمين بطلباتهم للحصول على الوظائف المتعلقة بالعلاقات العامة و التسويق والمبيعات وخدمة العملاء , إلا بعد اجتيازهم للمعاينات الفاحصة للمظهر العام وطلاقة اللسان و كاريزما الحضور الذهني و لغة الجسد المعبرة أثناء التواصل الكلامي.
لقد عقد ناشطو الفيس بوك مقارنة بين وزيرة خارجية حكومة حمدوك , و والي الخرطوم الأسبق و وزير دفاع نظام المخلوع , عبد الرحيم محمد حسين , حول خصيصة الشرود الذهني أثناء بث البرامج والحوارات التلفزيونية , فلقد كان عبد الرحيم مثالاً حياً للتندر و مصدراً للضحك والفكاهة من قبل المواطن السوداني , وذلك نتيجة للتبريرات الواهية التي ظل يقدمها رداً على الأسئلة التي يطرحها عليه الاعلاميون عندما يستضيفونه , فمثل هذه المقارنات لا تأتي من فراغ بل تؤكد على كفاءة الفرد السوداني العادي , وتدلل على مدى ارتفاع سقف ثقافته ومعرفته ببواطن الأمور , وتبين طموحه الكبير في أن من يمثله يجب أن يكون على قدر مستوى هذه الثقافة .
كذلك هنالك حديثاً مثاراً حول تصريحات وزير الشئون الدينية و الأوقاف , فيما يتعلق بدعوته الصريحة المنادية بعودة يهود السودان , و تجاهله لوجود لاجئين سودانيين باسرائيل هم أحق بهذه العودة , وعدم اكتراثه لردة الفعل المتوقعة من التيارات الدينية المتشددة بالبلاد , والتي يمكنها القيام باستثمار تصريحاته حسنة النية تلك , ومن ثم تحويرها لاثارة نعرات الكراهية الدينية بين العامة , وخلق عكننة ودربكة تعيق مسيرة وانطلاقة الحكومة الجديدة , لقد كان من باب أولى أن يقوم السيد الوزير بفتح ملفات الفساد بهيئة الحج و العمرة , وأن يترك موضوع يهود السودان و عودتهم للوزارات والجهات الأكثر اختصاصاً وضلوعاً في الموضوع من وزارته, فوزراة الشئون الدينية و الاوقاف في أساسها معنية بشئون الحج و العمرة و الأوقاف و احتياجات المساجد.
أيضاً من وزراء حمدوك الذين أثير حولهم غباراً كثيفاً , وزير الصناعة و التجارة , الذي تمحورت خبرته حول العمل التنموي و الانساني الذي كان رائداً فيه , وفاعلاً في دهاليزه عبر احدى المنظمات التي رأس إدارتها , منظمة (نداء) التي هي الأخرى كانت هدفاً لسهام الناشطين التي لا تطيش , والذين كشفوا عن مبلغ مالي ضخم حصلت عليه المنظمة من المانحين بغرض صرفه في إطار مشاريع وبرامج مستهدفة خدمة النازحين في معسكراتهم بدارفور , الأمر الذي لم يتم بحسب مراقبين ,ولم يستشعره على أرض الواقع المأساوي هؤلاء النازحون , بل الأدهى وأمر أن ذات الوزير وفي مقابلة تلفزيونية مع قناة الجزيرة , تحدث في إصرار غريب واجتهاد عنيد , وسعى سعياً حثيثاً حتى يجد له رابط لعلاقة ما بين مجال التجارة والصناعة من جانب , وما بين خبرته السابقة في عمل المنظمات غير الحكومية وغير الربحية من الجانب الآخر , وقد جاء حديثه ذلك بعد أن استفهمه مقدم البرنامج حول العلاقة بين موقعه الجديد و عمله السابق.
وعموماً يلاحظ المراقب للأوضاع السياسية في السودان , أن بعض وزراء حمدوك قد بدأوا ينتهجون ذات النهج الذي كان ديدناً للمنظومة السياسية للحركة الاسلامية , التي حكمت البلاد بيد من حديد ثلاثون عاماً حسوما , ألا وهو نهج التصريحات الكلامية الكثيرة , في الوقت الذي ينتظر فيه المواطن ليشاهد عملاً ميدانياً لهؤلاء الوزراء عياناً بياناً , لقد كانت صفة الرغي و الازباد من الصفات التي عرف بها وزراء حكومات المخلوع المشير عمر البشير , فقد كانوا يكثرون من الكلام ويتواضعون عندما تدق ساعات العمل , ويكتفون بالظهور الاعلامي أمام كاميرات التلفزيون , بينما هم يخوضون مياه الفيضانات الطافحة بها شوارع مدن الخرطوم أيام كوارث موسم خريف كل عام , مع عدم مبادرتهم المبادرة الجادة لحل مشكلة المجاري والصرف الصحي في مدن السودان.
فالتحذر الحكومة الجديدة من شماتة الاعداء , فعندما يقارن الشانئون بين كفاءة أسماء محمد عبد الله ومقدرات ابراهيم غندور وزير خارجية النظام البائد , لا يجد المرأ مخرجاً من مأزق الحرج الذي أوقعتنا فيه حكومة حمدوك , و كما هو معلوم في عالم السياسة السودانية , أن المواطن السوداني دائماً ما يعقد المقارنات بين نظام عبود والنظام الذي اعقبه بعد ثورة أكتوبر , و ما بين حقبة المشير جعفر نميري و حكومة الصادق المهدي , و اليوم رأينا هذه الخصيصة السودانية الخالصة تعود من جديد.
نعلم أن العبء التراكمي لفشل الانظمة السابقة سيلقي بحملوته العظيمة على ظهر حمدوك و وزرائه , لكن هذا ليس مبرراً لوجود وزراء غير أكفاء في حكومة جاءت بعد انهمار دماء غزيرة , لشباب كانوا طامحين في أن يعيش من يحيا بعدهم في وطن يرفل تحت الأمن و الأمان و الاستقرار والازدهار الاقتصادي.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com