الثعالب لبست ثوب الفضيلة عشرون عاماً مما نعد ونحسب، والضباع وقفت لها بالمرصاد طيلة هذين العقدين من الزمان، الى أن هبّت ثورة الجياع في الخرطوم واطاحت بالدكتاتور فوقف ثعلب الصحراء حائراً محتاراً، يساءل نفسه كيف لجموع المراهقين السلميين أن تجهز على الرجل الذي صنع المأساة في دياره وتحداه على رؤوس الأشهاد؟، لماذا لم ينجح في اختتام هذا الكرنفال الثوري الرائع الذي تغنت باهازيجه (كنداكات) البٌلدان الافريقية والامازيغية والعربية؟، كيف لشباب يافع صدره عار وخال من القماش أن يقوم بجندلة الرأس الكبيرة؟، بينما لم يغادر الثعلب محطات ومدارج مطارات الهبوط الناعم بعد؟، كيف حدث كل هذا وهو ما يزال يغط في سبات عميق ويسرح في حلم جميل؟، هل العيب فيه أم في منهجه الأقصائي الذي حاول عبره ابعاد الضباع عن مسرح التنافس حول السلطة والثروة؟، وهل كان خطأه الأكبر يكمن في سوء تقديره لقوة وبطش فك الضبع عندما يجهز على فريسته؟، كلها اسئلة حائرة لابد وأنها قد وجدت الاجابة المقنعة للثعالب بأن لا مفر من الوصول لتحالف بينها وبين الضباع مهما كلفها من ثمن، حتى ولو كان هذا الثمن هو بيع القضيّة برمتها طالما ان الهدف المنشود هو السلطة والثروة.
الضباع لا تعرف الشفقة، وانّما همُّها الأوحد هو جمع الثروات وبسط النفوذ بصرف النظر عن الجغرافيا والمكان والزمان والانسان، بهذا المبدأ بسطت الضباع هيبتها على مستوى سلطان دول الساحل والصحراء جميعها، واستطاعت أن تصل لقمتي هرمي دولتين ظنت الثعالب ولمدى اعوام أن ثقلها السكاني فيها سوف يكون هو حامي الحمى من وصول الضباع لقمة بنيان سلطانها، هكذا تمدد مشروع الضبع الساحلي الصحراوي المتحور والمتجذر في صحارى وغابات شمال ووسط افريقيا، والمُحيّر للعقول أن هذا المشروع الضبعي قد وجد قبولاً واستحساناً من لدن ابناء العم سام، لما لهؤلاء الفرنجة من اعجاب شديد بمن هو حاسم يضع النقطة على الحرف، فكان الاعتماد عليه في وقف السيول الجارفة من فقراء البؤس الافريقي الباحثين عن مظلات مدن القارة العجوز، وكلكم يعلم معايير العم الغربي الذي لا يكترث لقسوة وبطش الضبع بالثعلب الصحراوي وايمانه بمبدأ: (التاريخ لا يصنعه الا الخارجين عن القانون)، هكذا هي معادلة الحياة الآنية المسيطر عليها الضبع الأكبر، لا وجود فيها للضعفاء المحرومين المتسولين والمنتظرين (لقفّة) الشحّاذين الراكضين وراء المنح والهبات والصدقات المهينة.
الثعالب لديها عيب واحد مقيم لا فكاك منه، هو ضعف ذاكرتها السمكية الهزلية والفوضوية الساذجة، التي لا يحتفظ سجلها بمآسي الماضي، حادثة الأمس خير دليل على ما ذهبنا اليه في هذه الخصيصة، فمن حيث لا تدري ارادت هذه الثعالب اعادة شريط تلك البكائية من جديد لأجل الاستثمار الرخيص، ونسيت أن المياه الكثيرة الوفيرة المنجرفة من اودية (برلي) و(كايا) و(ازوم) و(كجا)، قد جرفت معها الكثير من المواقف والمفاهيم والاعتقادات والتهيئات، التي أولها ذهاب ذلك العهد الذي تم فيه تصوير الضبع بأنه قليل الحيلة غبي المزاج مقدور عليه، وجاء العهد الذي تسيّد فيه الضبع المشهد وحسم المعركة لصالحه حرباً وسلماً، لكن من يستطيع اقناع الثعلب بأنه متواضع الذكاء؟، لا أحد يستطيع فعل ذلك، كل الروايات والاساطير والاحاجي لم تقدر، سيظل الثعلب ثعلباً وسيبقى الضبع ضبعاً مهما تطاولت السنون والازمان، فالضبع لن يترك مزاجه السادي في التهام لحم طريدته وهي ما تزال حيّة تصرخ قبل أن تلفظ انفاسها الأخيرة، والثعلب لايمكن أن تقنعه بدنو أجله حتى لوكان على شفا حفرة من حفر نيران جهنم، لأن ثقته بمقدراته العقليه لا تحدها حدود، وبين هذه الثقة الزائدة وتلك الأنياب الفاتكة تكمن الحقيقة.
التحالف الاتحادي بين الزيت والماء لا محالة منهار، واجتماع الليل والنهار حدث لا يمكنك أن تقنع به صبياً يافعاً، تماماً مثل محاولة الجمع بين الأختين في شرع الله، كل الدلائل التاريخية والنفسية والاجتماعية أكّدت على ما نقول، فمنذ القرون الوسطى وحتى يومنا هذا لم يوثق تاريخنا القديم والحديث لمثل هذه الأمنيات المستحيلة غير الممكنة، ويوماً ما سوف يجيئكم من سبإٍ احد الفارين المتعلقين باجنحة طائرات الأمم المتحدة بنبإٍ عظيم، ترونه بعيدا ونراه قريبا، فلا مستغرب ولا غريب سوى إبليس، لقد رأينا بأم أعيننا عودة دولة المتهمين الأوائل في قضية تفجير البرجين التوأمين، لذلك لا غرابة إن قدم إلينا رجلاً مهرولاً من اقصى المدينة ساعياً هلعاً مفجوعاً يحدثنا عن إجهاز الضباع على الثعالب.
اسماعيل عبد الله
[email protected]
20 اغسطس 2021