بقلم عثمان نواى
رغم التفاؤل الذى يسود الشارع العام الا ان المخاطر المحدقة بمستقبل السودان القريب وليس البعيد لم يتم حتى الآن الاقتراب من وضع نهاية لها، لا عبر الاتفاق الموقع عليه ولا عبر الحراك السياسى بين القوى المتصارعة فى الساحة السياسية السودانية. بل ان الوضع السودانى الان اكثر هشاشة من اى وقت مضى قبل الاتفاق، حيث ان حالة التعبئة العامة والحذر والتنبه للمخاطر تنحسر الان مع حالة التنفيس المصاحبة للابتهاج بالاتفاق او ما يمكن وصفه بالهدنة المؤقتة للاحتقان السياسى فى الشارع السودانى.
على الرغم من ان التحذيرات تتوالى من مخططات محتملة من قوى ما يسميهم البعض بالثورة المضادة والمقصود بهم فلول النظام الكيزانى، الا ان طرفى الاتفاق أنفسهم هم فى حالة من الهشاشة والتفتت الداخلى الذى يهدد استمرارية كل منهما على حدى ويهدد بقاء الاتفاق بالنتيجة. لهذا فإن الاتفاق فى شكله النهائى لم يكتمل نتيجة توافق أطراف متساوية فى القوة بل نتيجة تساوى فى الضعف بين الطرفين . ولذلك فان اتفاق الشراكة السياسية بين قحت والمجلس الامنى الكيزانى هو فى الحقيقة قارب نجاة يحافظ مؤقتا على بقاء الطرفين فى الساحة السياسية على الرغم من الضغوط الهائلة عليهما داخليا وخارجيا.
وهذه المعادلات التى أجبرت الطرفين على الاتفاق كرها لا طوعا، اشبه كثيرا بما حدث فى اتفاق نيفاشا. حيث كانت الضغوط على الحركة الشعبية لتحرير السودان من الغرب ومن داخلها و مخاطر تفتتها الداخلى ووهنها من الحرب لربع قرن ليست اقل من الضغوط على نظام البشير ومهددات الحرب الجديدة فى دارفور ومطالبات العالم بمحاكمة البشير لجرائم الحرب فى دارفور وقتها. كل تلك الضغوط إضافة الى المصالح المشتركة فى الرغبة من الطرفين فى الاستفادة من البترول المستخرج حديثا وقتها كان دافعا لإنهاء اتفاق لم ينفذ سوى نصفه او ربما ربعه، وكانت محصلته النهائية أسوأ من الأوضاع التى وقع الاتفاق لمعالجتها، اى حلحلة قضية الجنوب الممتدة لنصف قرن وإنهاء الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى السودان.
فقد اعطى الاتفاق عمرا جديدا لنظام الإنقاذ باعتباره الضامن للاتفاق، حيث أصبح اى خيار لإسقاط او تغيير النظام وقتها يعنى إسقاط طرف فى اتفاق السلام وبالمحصلة إسقاط اتفاق السلام نفسه. الاتفاق أيضا ضمن حصانة غير مكتوبة لعمر البشير ونظامه من المحاكمة على جرائمهم فى دارفور، وغيرها ، وذلك لان البشير كان الطرف الثانى فى الاتفاق. نيفاشا بتجاهلها للحرب فى دارفور، كانت أيضا غطاء مكن النظام من استخدام المزيد من العنف هنآك بعد ضمان صمت المجتمع الدولى مما أدى الى مزيد من الجرائم بين ٢٠٠٥ و٢٠٠٨. قصور وعجز الاتفاق عن إيجاد حلول جذرية للصراع السياسى وتوزيع الثروة والسلطة وعدم وضع حل واضح لقضية جبال النوبة والنيل الأزرق ، وعدم وضع خطة واضحة لعمليات الدمج والتسريح لقوات الحركة الشعبية ،كان السبب في اشتعال حرب جديدة لازالت مستمرة فى جبال النوبة والنيل الأزرق. كما ان عدم تنفيذ بنود الاتفاق المتعلقة بالمصطلح المبهم فى الاتفاقية المسمى )الوحدة الجاذبة” أدى فى النهاية الى الانفصال الجاذب ل ٩٩ ٪ من الجنوبيين وبالتالى انفصال الجنوب، وكان لطريقة الانفصال ومسار تجربة نيفاشا دور كبير فيما حدث من أزمات فى الجنوب المستقل بعد ذلك.
على ذات المنوال تتبدى الكثير من ملامح التشابه بين الاتفاق الموقع عليه وبين نيفاشا. فثورة الشعب وتمرده على نظام الكيزان اولا وبدرجة اقل على العسكر، كانت تسير بقوة وثبات فرض واقعا جديدا تطلب معادلة قوى جديدة لا تشمل الكيزان نهائيا وتقلل دور العسكر فى السياسة السودانية. هذه كلها تغييرات لا تقل جذرية عن محاولة حل مشكلة الجنوب والهامش كما كانت تأمل نيفاشا. الان الاتفاق بين قحت والمجلس العسكرى ربما يؤدى لنتائج لا تقل كارثية عن ما حدث ما بعد وأثناء نيفاشا. وأهم ملامح الشبه إضافة الى الضعف الداخلى المتزايد لجانبى الاتفاق ،هو ان الاتفاق يعطى ذات الحصانة التى منحت سابقا للبشير فى نيفاشا بشكل غير مكتوب، يتم أعطائها الان لحميدتى والمجلس العسكرى وبشكل غير مكتوب. حيث ان المجرمين الان هم شركاء الاتفاق الموقع، واى إسقاط او محاسبة لهم ستعنى عمليا إسقاط الاتفاق نفسه. على ذات المنوال فى نيفاشا، فإن المحلس العسكرى الكيزانى أيضا تم تمديد عمره عبر الاتفاق ليحكم لقرابة العامين. ومع المواقف المعلنة من الجبهة الثورية والصمت حتى الآن من الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو، وموقف عبد الواحد المعلنة ، فإن الاتفاق يؤدى الى خلق أجواء انفصال سياسي بين القوى السياسية السودانية عبر حدود اثنية وطبقية تمثل خطوط الاستبعاد والاضطهاد التاريخى الممنهج فى السودان. مما يهدد بخطر تشكيل جبهات نزاعات طويلة الأمد وربما تتسع رقعتها وتصل الى الخرطوم نفسها فى ظل انعدام الرؤية لحلول جذرية لصراعات السلطة والحكم فى السودان. فى تكرار مؤسف لتجارب ثورتى أبريل ١٩٨٥ وأكتوبر ١٩٦٤ ،حيث مضى قطار الثورة دون إيجاد حل لازمات نفس المناطق التى بقيت الان خارج نطاق الحل.
الاتفاق أيضا لم يحمل اى خطة واضحة لعملية الدمج والتسريح لقوات الدعم السريع وبقية مليشيات الكيزان الحزبية او القبلية. وعليه فإن قنابل العنف الموقوتة داخل الخرطوم ستظل تهدد بشكل يومى أمن وأمان المواطنين وفى بقية السودان خارج مناطق الحروب وداخلها. مما يعنى اتساع حالة السيولة الأمنية وانعدام الاستقرار خارج اطار مناطق النزاعات المعتادة. وكما كانت مصالح البترول والانتعاش الاقتصادى الموعود هى دافع أساسى لاتفاق نيفاشا، فإن موارد التعدين من الذهب وغيره إضافة الى الاستعداد الخليجى للاستثمار فى الأراضي والمياه السودانية، إنما يشكل الدافع الأهم فى تهافت الأطراف وشعورها بالتفاؤل تجاه القدرة على إدارة الخلافات، لطالما كان هناك ضمانات مالية يمكن تقاسمها او إدارتها بشكل مشترك مستقبلا. والواقع ان التدخل الإقليمى فى السودان الان ،يفوق بشكل كبير التدخل الدولى والاقليمي لحظة اتفاق نيفاشا. نسبة لتداخل المصالح المتزايد . حيث ان السودان أصبح لأول مرة له دور اقليمى عبر قواته من المرتزقة فى اليمن وليبيا، ولم يعد مجرد وضعية جغرافيا سياسية مازومة ،بل شريك فى صناعة الأزمات فى دول أخرى أيضا. ان الوضع الذى يخلقه الاتفاق ينبئ للأسف بأن الثورة التى تنتزع كامل أزمات السودان ربما لازالت فى طور التكوين، وأن المزيد من العمل في انتظار الجميع اذا أرادوا إنقاذ السودان من الوقوع فى هاوية اعمق من التى هو فيها الان.
[email protected]