د. فيصل عوض حسن
منذ 2019 رفضتُ تماماً مُجرَّد التفاوُض مع البرهان/حِمِيْدْتي دعك التحالُف معهما، لأنَّهما لا يختلفان عن البشير وارتضيا أن يكونا (أدوات قتل) إسْلَامَوِيَّة، دون سُقوفٍ إنسانِيَّةٍ أو أخلاقِيَّة أو قانونِيَّة، لكنَّ الغالِبِيَّة صَدَّقوا انحرافات القحتيين، ووافقوا على وجود البرهان/حِمِيْدْتي رغم إشرافهما المُباشر على مجزرة الاعتصام، تبعاً لمنصبيهما وإقرارات بعض اتباعهما (صوت وصورة)!
تناولتُ في عُدَّة مقالات خطورة حِمِيْدْتي على السُّودان ووحدته، والتزامه الكبير بتوجيهات المُتأسلمين وسادتهم بالخارج، خاصَّةً الإمارات والسعودية، وشَبَّهتُه بحِصان طرْوادة الذي استخدمه الإغريق لضرب الطُرواديُّون من الدَّاخِل. وأوضحتُ مراراً بأنَّ اختيار حِمِيْدْتي تمَّ بعنايةٍ فائقة لتنفيذ المهام القذرة، فهو لا يرتبطُ بالسُّودان (لا جينياً ولا أخلاقياً)، ويَرْضَخ لمن يدفع دون تَردُّد، ومَعْلُولٌ ونَاقِصٌ كالبشير تماماً، ومُتورِّطٌ في جرائمٍ خطيرةٍ ومُوثَّقة، ويُمكن الرجوع لمقالاتي (تَحْجِيْم حِمِيْدْتِي: مَطْلَبٌ حَتْمِيٌ لِإِنْقَاْذِ اَلْسُّوْدَاْن) بتاريخ 6 أبريل 2019، و(حِمِيْدْتِي: خَطَرٌ مَاْحِقٌ وَشَرٌّ مُسْتَطِيْر) بتاريخ 29 أبريل 2019، و(فَلْنُعَجِّلْ بِإيْقَاْفْ تَمْكِيْنْ حِمِيْدْتِي حِفَاْظَاً عَلَى اَلْسُّوْدَاْن) بتاريخ 15 مايو 2019، و(اَلْسُّوْدَاْنُ تَحْت اَلْاِحْتِلَاْل اَلْجَنْجَوِيْدِي) بتاريخ 3 يونيو 2019، و(السُّودان بين مليشيات المُتأسلمين والجَنْجَوِيْد) بتاريخ 14 يونيو 2019 وغيرها.
مع بدايات الحرب الحالية، أوضحتُ بأنَّ البرهان وحِمِيْدْتي (صنعوها) من العدم، بمُساعدة القحتيين وانتهازيي حركات اتفاقيات جوبا، لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسيَّة أوَّلها إرهاب وتجويع وتشريد الشعب وتعطيله عن تحقيق التغيير، وثانيهما إنهاء (مسرحِيَّة) اعتقال ومُحاكمة قادة المُتأسلمين وإعادة ظهورهم للعلن، والهدف الثالث استكمال مُثلَّث حمدي الرَّامي لنهب وتمزيق ما تَبَقَّى من السُّودان، ويمكن الرجوع لمقالتي (هَلْ سيُدرِك السُّودانِيُّون حقيقة ومآلات الاشتباكاتُ الماثلة) بتاريخ 1 مايو 2023. وللأسف الشديد، نجحوا في تحقيق جميع أهدافهم، حيث هاجر السُّودانيُّون (جماعياً)، بسبب الاعتداءات المُتعَمَّدة (صواريخ، مدافع، اغتصاب.. إلخ)، وبفعل حملات التضليل (القحتيَّة) التي حَفَّزت الشعب على الهجرة، بدل الاتحاد والتنظيم والدفاع عن الأنفس والثمرات. ويُعاني السُّودانيُّون الآن (مالياً ومعنوياً) في الإقامة داخلياً وخارجياً، ولا يستطيعون العودة لمنازلهم المُحتَلَّة/المنهوبة أو المُدَمَّرة. ورغم ذلك يرى البعض أنَّ البرهان كـ(مُنقِذ)، ويُطلقون عليه ألقاب خُرافِيَّة مُتناسين مُساهمته الفاعلة في (صناعة) الحرب الماثلة، وهذا يعود لأُسلوب الإدارة بالأزمات Management by Crisis الذي يُجيده المُتأسلمون وأزلامهم، حيث يصنعون الأزمة من العدم، لـ(التغطية) على مشاكل قائمة، أو لتحقيق أهداف صعبة التَحَقُّق، ثُمَّ يطرحون حلولاً هي في الأساس (هدفهم الخفي) من الأزمة (المصنوعة)، فيقبلُ الشعب بتلك الحلول تحت وطأة (الضغوط الأزمَوِيَّة)، ويشكرهم عليها وفق ما يحدث الآن!
بالنسبة لهدف الحرب الثاني والمُتمثِّل في إنهاء (مسرحِيَّة) اعتقال ومُحاكمة قادة المُتأسلمين، فقد بدأ ظهورهم منذ 2019، عقب (خيانة) القحتيين التي أسموها اتفاق، وازداد ذلك الظهور تباعاً كإنشائهم ما يُسمَّى “التيار الإسلامي العريض”، وتنظيم الإفطارات واللقاءات الجماهيريَّة، وانتقاداتهم السَّافرة لِحِراك ديسمبر وسُخريتهم (العَلَنِيَّة) من التغيير، وتهديداتهم المُتواصلة للشعب كالمُجرم أنس عمر والفاجر أحمد هارون، و(الإريتري المُجَنَّس) إبراهيم محمود الذي تَوَعَّد (أصحاب البلد) بالقتل قُبَيل الحرب، وظهر مُؤخَّراً مُتجوِّلاً بين أهله (المُجَنَّسين الإريتريين)، الذين أعلنوا تأييدهم الصَّارِخ للمُرتزق حِمِيْدْتي، وهي كلها شواهد على (عدم سُقوط) المُتأسلمين، وأنَّهم (اختفوا) فقط لامتصاص حراك ديسمبر، ويُديرون البلد (من الخلف) عبر أزلامهم في الجيش والجنجويد، وحُلفائهم القحتيين وحركات اتفاقيات جوبا.
أمَّا مُثلَّث حمدي، فيمضي استكماله بسرعةٍ وتكتيكاتٍ خبيثة، بمُشاركة جميع الأطراف المُشار إليها أعلاه، حيث تَمَّ سَحق وتهجير أهل دارفور (الأصيلين)، واستبدلوهم بوافدي غرب ووسط أفريقيا، مع تخاذل سافرٍ من البرهان الذي تنازل للجنجويد عن جميع المُدُن/الحاميات، ولم يَتَبَقَّ إلا (الفاشر) التي استبسل أهلها (أصحاب الوَجْعة) في الدفاع عنها اعتماداً على أنفسهم، وانضمَّت إليهم بعض حركات جوبا على استحياء باسم (القُوَّات لمُشتركة)! ومن المُهم هنا، أن يعلم أهلُ السُّودان عموماً وأهلنا بدارفور خصوصاً، بأنَّ مُشاركة هذه الحركات، أتت بتوجيهٍ من الكيزان وسادتهم بالخارج، حتَّى يُكرِّروا (خيانة) القحتيّين للسُّودانيين. حيث أوشك حراك ديسمبر على اقتلاع المُتأسلمين، لولا قفز المهنيين فوق الحراك، وتشكيلهم لقحت من الكيانات الانتهازِيَّة (دون تفويض شعبي). وبمُجرَّد تشكيل قحت بدأت الربكة/الخلافات، وشَاهَدنا أسوأ صور العَمَالَةِ والانحطاط، كالتَفَاوُض (الانفرادي) مع العَسْكَر/الجنجويد، والسفر (خِلْسَةً) للإمارات وغيرها. وتَرَاجَعت التظاهُرات التي غَطَّت 13 مدينة/منطقة في أقلَّ من أسبوعين، لتُصبح في اثنين أو ثلاثة من أحياء الخرطوم، و(تَقَزَّمَت) المَطالب إلى (التَفاوُضِ) بدلاً عن (الإسقاط الكامل) للمُتأسلمين، وهذا أوضحته باكراً في مقالاتي (خِيَاْنَةُ اَلْثَوْرَةِ اَلْسُّوْدَاْنِيَّة) بتاريخ 22 يوليو 2019، و(اِسْتِرْدَادُ الثَوْرَةِ السُّودانِيَّة) بتاريخ 2 فبراير 2020، و(مَتَى يَنْتَبْهْ اَلْسُّوْدَانِيُّون لِعَمَالَةِ حَمدوك) بتاريخ 12 فبراير 2020 وغيرها. ولعلنا بحاجة للتساؤُل عَمَّا تَوَاجُد قادة الحركات الدارفورِيَّة ببورتسودان، وأين هم من أزمات الإقليم الذي يُتاجرون باسمه؟ ولماذا يُسافر حاكم دارفور لداخل العُمق (الإريتري)، داعماً لمليشيات الإريتريين (المُجنَّسين) الذين يتحفَّزون للغدر بأهلنا في الشرق، ولا يذهب لدعم وقيادة الدفاع عن أكبر مُدُن الإقليم الذي يحكمه؟
بالنسبة للمنطقتين (جنوب كُرْدُفان والنيل الأزرق)، كمناطق مُستَهْدفة بمُثلَّث حمدي، فقد تَمَّ تأجيج الفتن والصراعات بين المجموعات السُكَّانِيَّة، وتقسيم الحركة الشعبِيَّة لفصيلين، ومُؤخَّراً انضمَّ البعض للجنجويد، مما جعل المنطقتين في فوهة بُركان قابل للانفجار في أي وقت. أمَّا شرقُ السُّودان وأقصى شماله، كمناطق يستهدفها مُثلَّث حمدي، فقد ابتلع المصريُّون حلاي
وغالِبِيَّة أراضينا النُوبِيَّة، حتَّى أضحت أرْقِين ميناءً بَرِّياً لمصر، بعدما كانت حدودنا معها في قسطل! بخلاف مليون فدان منحها لهم المُتأسلمون بالشمالِيَّة (مشروع الكنانة)، واستمرار عبثهم بمياهنا الإقليميَّة في البحر الأحمر! وامتدَّ الاحتلال الإثيوبي الذي بدأ بالفشقة ليشمل إقامة قُرىً كاملة بمنطقة (الدِنْدِر)، مع استمرار مليشياتهم في نهب وقتل المُواطنين السُّودانيين! وهناك الأراضي المُبَاعَة للإماراتيين والسعوديين والأتراك، بما فيها موانئنا البحريَّة الرئيسيَّة (بورتسودان وسَوَاكِن)، وما رَشَح بشأن ميناء أبو عمامة والقاعدة الرُّوسِيَّة ومناطق تنقيب المعادن وغيره. والأخطر من كل ذلك، تَمَدُّد الإريتريّين المُجَنَّسين بمُسمَّى (بني عامر) في الشرق، والذين ظَلُّوا (أداة) البطش الإسْلَامَوِيَّة الأولى بكل ما هو سُّوداني، وفق ما أوضحنا في مقالاتٍ عِدَّة كـ(السُّودان وتهديدات الإريتريّين المُجَنَّسين) بتاريخ 2 مارس 2022، و(الإريتريُّون وأكذوبتا البني عامر والقبائل الحُدُودِيَّة والمُشتركة) بتاريخ 22 مارس 2022، و(عودة لأكذوبة البني عامر) بتاريخ 11 مايو 2022 وغيرها.
ويعملون الآن للتَخلُّص النِّهائي مما تَبَقَّى من شرق وأقصى شمال السُّودان، تبعاً لبعض المُؤشِّرات أبرزها تأييد الإريتريين المُجَنَّسين (المُتزايد) للجنجويد، وتهديداتهم المُتلاحقة بقتل وطرد السُّودانيين المُتواجدين بالشرق، والجولات العلنِيَّة لـلكوز (المُتَجَنِّس) إبراهيم محمود، ثُمَّ إشارات حِمِيْدْتي (المُبَطَّنة) في خطابه الأخير، والتي انصرف الغالِبِيَّة عن جوهرها، الذي يحوي (إشارات) خبيثة، مُوجَّهة بصفةٍ خاصَّة إلى مصر وإثيوبيا وإريتريا، ليبتلعوا ما يُريدونه من شرق وأقصى شمال السُّودان، في ظل غفلة السُّودانيين الواقعين تحت التضليل و(الضغط الأزموي) لأُسلوب الإدارة بالأزمات Management by Crisis. وإذا سارت الأمور بهذا النحو، فسوف يَحتل الإثيوبيُّون والمصريُّون والإريتريُّون المزيد من أراضينا شرق وأقصى شمال البلاد، بحِجَّة (حسم/مُحاربة) الجنجويد، وسيقع غالِبيَّة السُّودانيين في هذا الفخ ويباركوه، أملاً في الخلاص من حِمِيْدْتي ومليشياته، ولن نُدرك أنَّنا خسرنا المزيد من أراضينا إلا بعد فوات الأوان. وإسناداً لهذه (الخيانة) البرهانيَّة/الحِمِيْدْتيَّة.
المُحصِّلة أنَّ جميع السُّودانيين أمام مِحنة تاريخيَّة عظيمة، صنعها وشارك فيها المُتأسلمون وسادتهم بالخارج، ونَفَّذها أزلامهم بالدَّاخل بدءاً بالبرهان وحِمِيْدْتي وانتهاءً بالقحتيين وحركات جوبا، ولنتأمَّل تَغيُّر نبرة القحتيين وتصريحاتهم الأخيرة بشأن أسباب الحرب، والتي أرجعوها لفشل مشروع الدولة السُّودانِيَّة وتراكم خطاياها، بعدما كانوا يتَّهمون (المُتأسلمين) بإشعالها، وسنشهد المزيد من تراجُع القحتيين في مُقبل الأيام، والضحِيَّة الحصرِيَّة لكل هذا العبث هم (عامَّة الشعب) في جميع أرجاء السُّودان.
إنَّ تجاوُز هذه المِحنة لا يكون بالتعويل على مَنْ صنعوها، أو بترديد العبارات الساذجة كـ(لا للحرب، بَل، جَغِم، سيصرخون، المُؤسِّس وغيرها من التُرَّهات)، وكذلك لن ننجوا بانتظار العالم الخارجي، لأنَّ الجميع إمَّا مُنشغلين بمشاكلهم وتحدياتهم الدَّاخلِيَّة، أو طامعين في بلادنا ومُقدَّراتنا ويسعون لهلاكنا حتى يبتلعوها. فلنعلم بأنَّنا (وحدنا) المعنيُّون بإنقاذ أنفسنا، ولن ننجح في ذلك إلا بالاتحاد في كيانٍ شعبيٍ خالصٍ ومُستقل، نستبعد فيه جميع (المُجَرَّبين)، ونستبدلهم بعُلمائنا (الشرفاء)، لدعم/إدارة الحِرَاك الشعبي، ومُراقبة مُقدَّراتنا الوطنيَّة ومَنْع تسليمها للغير، وتجهيز (استراتيجيَّة) عامَّة تُحَدِّد بدِقَّة: ماذا سنفعل وكيف ومتى، منذ الساعة الأولى لاكتمال التغيير الحقيقي، بما يجعل العمل مُتوازياً ومُتوازناً في جميع المجالات والأصعدة في آنٍ واحد.