احمد داؤود
حتي لايُفهم حديثي خارج سياقه او يُاول بشكل خاطئ ساوضح نقطة مهمة للغاية :
-مفهوم المركز عندي لا يحمل اية مدلولات جهوية ؛ والمركز براي ليس مجموعة القوميات والشعوب والكيانات التي تقطن الشريط النيلي او ما يعرف في الادب السياسي بمثلث حمدي ؛ اعني بالمركز هنا مجموعة النخب والمؤسسات التي تعمل منذ الاستقلال علي تكريس التفوق الثقافي والاقتصادي والعرقي لصالح مناطق وقوميات بعينها .
قديما ؛ كان رفض الهيمنة المركزية محصوراً فقط عند قوي الهامش . لهذا برزت اَنذاك تنظيمات تطالب بانهاء تلك الهيمنة في كل من دارفور وجنوب السوادان وجبال النوبة والنيل الازرق بزعامة قيادات كيوسف كوة ، قرنق ، و داوود يحي بولاد .
الان توسع الرفض ليشمل حتي تنظيمات وقوي منضوية تحت لواء المركز ، وهو مالم يحسب له اي حساب . كان بامكان نخب المركز ان تلتف حول مطالب قوي الهامش واذابتها بشكل كامل ولكن مثل هذا الامر في الواقع قد لا ينجح مع مطالب القوي المنضوية تحت لوائها .
عندما اندلعت ثورة ديسمبر المجيدة وصارت المواجهة وشيكة ؛ ايقنت تلك النخب : ان الخطر ليس هنالك :اي ” في الهامش” وانما هو هنا في المركز . لهذا كان عليها ان تختار بين اثنين :
-اما ان تنصاع للجماهير الثائرة وتهدم ما بنته في ستين عاماً .
-او ان تعمل علي عدم حدوث ذلك باختطاف الثورة في اخر مراحلها ، وهو ما حدث بالضبط .
كانت معظم الرموز التي رُشحت لاجهاض الثورة لا تحظي بالقبول ، ومشكوك في حياديتها ، او بتعبير بسيط ” كروت محروقة” ، وبالتالي كان علي نخب المركز ان تختار رموز اخري تمتلك ولو قدرا يسيراً من القبول حتي لو كان قبولاً اكراهياً كامر واقع لا مفر منه .
مع بداية الاحتجاجات الجماهيرية سرت شائعات او ان ابواق السلطة عمدت الي توصيلها الي مسامع الناس عن تمرد القائد القوي حميدتي ، ورفصه الانصياع لقرارات السلطة الحاكمة . بعدها بقلبل افادت الانباء انه حاول تنفيذ انقلاب ضد البشير مع الفريق طه عثمان .بعد ذلك بوقت تداولت الوسائل الاعلامية اخباراً تفيد باحتجاز حميدتي بدولة الامارات مع مصادرة ارواقه الثبوتية .
ربما كانت خطة محكمة او انها الصدف ، المهم : ان حميدتي الذي صنعته هيئة العمليات بجهاز الامن والمخابرات الوطني اصبح انذاك بين ليلة وضحاها ” معارضاً” شرساً ، وصار ينتقد السلطات بقسوة ، وفي احدي خطاباته التي يلقيها علي متن سيارات اللاندكروز المرعبة تحدث عن قضايا الهامش والمركز متسائلا : ” عما اذا كان هنالك اناس يمتلكون مصارين زرق واخرين بيض” علي حد تعبيره . وفي خطاب اخر قال رداً علي اشاعات تفيد باتجاهه للتصدي للاحتاجات الجماهيرية ” انه مع حرية التعبير ” .
في السادس من ابريل استولي ثوار غاضبين علي الشوارع المحيطة بالقيادة العامة وجعلوا منها ساحة لاعتصام استمر لوقت طويل . عدالة مطالبهم والتزامهم بالسلمية جعلت جنود وضباط من الجيش ينحازون اليهم ، والدفاع عنهم اذا دعي الداعي لذلك . كان بامكان ذلك الانحياز ان يجهض كل خطط النخب المركزية ؛ لهذا عمدت الي نشر اشاعات عن عملية اقتحام وشيكة . ولاضفاء المزيد من المصداقية كانت تامر كتائب الظل والقوات الامنية باطلاق النيران صوب ساحة الاعتصام حتي ان جنود الجيش المندفعين بحماس الثورة كانوا يصدونهم من وقت لاخر .
كانت النُخب المركزية تسعي من وراء ذلك الي ابعاد افراد الجيش الذين يتواجدون بساحة الاعتصام وادخال الياس في قلوب الثوار وايهامهم ان الجيش لا يستطيع ان يحميهم حتي يقبلوا بفكرة وجود قوي حامية اخر . وهو ما حدث بالفعل ؛ لانه عندما رابضت قوات الدعم السريع امام ساحات الاعتصام قابلها بعض الثوار بالترحاب بينما وضع اخرون ملصقات ضخمة تحمل صورة قائدها مع عبارة حامي الثورة .
في الثاني عشر من ابريل تنازل عوض بن عوف تحت ضغط جماهيري هائل من رئاسة المجلس العسكري للفريق اول ركن عبدالفتاح البرهان –والذي تم ترقيته في عهد البشير من رتبة الفريق ركن الي فريق اول ركن وعينه مشرفاً علي القوات المسلحة ، وهو ايضاً المشرف علي ملف القوات المشاركة في حرب اليمن ، وكان من اهم القرارات التي اصدرها تعين حميدتي نائباً له .
وهكذا ببساطة اصبح حميدتي من شخص غير مرغوب الي نائباً لمجلس يتفاوض معه دعاة الحرية .
من طبائع نُخب المركز انها لا تثق في شخص خارج حقلها الايدلوجي ؛ لهذا عندما اختير حميدتي عضوا في اللجنة الامنية العليا كان يترأسه شخص من المركز هو عوض بن عوف ، وعندما عين نائباً للمجلس العسكري كان ايضاً يتراسه قائد من المركز هو البرهان .قد يبدو للقاري ان هنالك ثمة تناقض بين شروع نخب المركز في الاعتماد علي شخص ما مع عدم ثقته به. قد يبدو ذلك صحيح لكن اعتماد تلك النخب علي حميدتي تحكمه ظروف محلية واقليمية ؛ محليا هو يمتلك جيشاً قوامه اكثر من 30 الف مقاتل ، واقليمياً : اصبح يتعامل مباشرة مع الاطراف التي يقاتل الي جانبها . وفي العرف السياسي السوداني من لا تستطيع ان تدمره ارغمه علي الاقل لتنفيذ سياساتك وقد نجح المركز الي الان في ذلك بصورة كبيرة .
ولكن لماذا حميدتي بالذات ؟
-اولا: اخطار قادة القوات النظامية او حتي افرادها انه بالامكان الاستغناء عنهم واستبدالهم بقائد وجيوش مستعدة لارساء دعائم المشوع المقدس ، وقد حدث هذا بالفعل ؛ فبعيد وقت من سقوط النظام اُحيل عدد كبير من الضباط المعارضين للتقاعد بحجة محاولتهم القيام بمحاولة انقلاب ضد المجلس العسكري .
-ثانياً :اكتساب حواضن اجتماعية بمناطق الهامش وخاصة ان هنالك اسرة من بين عشر اسر علي اقل تقدير ينتمي فرد منها الي تلك القوات .
-ثالثا: تقديمه ككبش فداء اذا خرجت الخطة عن مسارها مثلما حدث في مجزرة القيادة العامة .
الآن وبعد ان اصبح حميدتي بقدرة قادر الرجل الثاني في الدولة ، ربما قد يتلاشي اي حلم في التغيير ، وقد ترتفع حظوظ المركز في الهيمنة اكثر فاكثر . ويبرز ذلك بشكل واضح في وضعية الاجهزة الامنية والقوات الموازية وقادة النظام السابق ، وقضية اعادة هيكلة الدولة.
فالمفاوضات الجارية الان بين المجلس العسكري الذي قد يتلقي اوامره من البشير شخصياً والقوي التي قادت الجماهير وحتي وان اسفرت عن اتفاق فانه بالتأكيد سيكون هشاً وهزيلاً ، ولن يصب باي شكل من الاشكال في مصلحة الجماهير المتعطشة للحرية والتغير . وبعض القوي التي تقود التفاوض الان ليس لديها الاستعداد الكافي لمخطابة قضايا البلاد الحقيقة لانها تسعي في الواقع لتكريس السلطة لفئات بعينها .وطالما ان هنالك دولة عميقة بمعني الكلمة وقوات موازية للقوات النظامية فالخروج من المتاهة سيكون شبه مستحيل .