إن المسلمات تم تسميتها بالمسلمات لأنه يتم التسليم بها دون نقاش، وبما أن هناك مسلمات يعتبر فتحها خرقاً خطيراً لأسس الحياة البشرية المتعارف عليها ولهذا فإنها تعتبر خارج النقاش Out of the question إلا أن هناك مسلمات يعتبر عدم فتحها للنقاش أخطر على التجمع البشري المعني بها ويعتبر سبب عدم تطور عدد كبير من هذه التجمعات البشرية الموجودة الآن أو حلها لمشاكلها التي تواجهها. إن من أهم المسلمات في الحياة السياسية السودانية هي نظرية الهامش والمركز والتي شئنا أم أبينا تتمحور حولها السياسة السودانية بما فيها الحرب منذ فترة طويلة جداً الآن. وبما أنها نظرية من الصعب دحضها، لأن الأسس والظواهر التي قامت عليها تمشي سافرة فاضحة بين الناس إلا أن هذا لايمنع بأن التسليم بها دون بعض التحفظات لبعض من تشملهم هذه النظرية قد يكون أحد أسباب الركود الذي يمنع التطور أو حل المشكلة لهولاء البعض. إن البعض الذين نعنيهم هنا هم شعب النوبة الذين يعيشون في مناطقهم الأصلية في جبال النوبة أو ينحدرون منها ويعيشون في مناطق أخرى. وبقدر ما يهم ويعني نظرية الهامش والمركز فإن من المهم أن يسأل النوبة أنفسهم سؤالاً، هل هم فعلاً مهمشون؟ إن الإجابة على هذا السؤال الذي يجب أن يطرحه كل شخص كامل الأهلية من النوبة على نفسه هو ما يحدد ماذا يجب أن يفعل النوبة ليحلوا مشكلتهم جذرياً دون أوهام تجعلهم يدورون في حلقة مفرغة، على أن لا يتم فهم أن الإجابة يجب أن تكون قسرية في إتجاه معين، ولكن على النوبة فعلاً الإجابة على هذا السؤال عن قناعة تامة وبطريقة ديموقراطية ترجح كفة الفعل المستقبلي للنوبة لحل مشكلتهم. إن على النوبة أن يأخذوا وقفة مع أنفسهم ويسألوا من يحدد لنا ماذا؟ ولماذا لا نحدد مشكلتنا بأنفسنا؟ إن الحلول والدباجات التي تأتي من الآخر قد لا تجدي نفعاً وربما تجعل المشكلة أكثر تعقيداً مما هي عليه في الواقع. إن النوبة بالنسبة للشيوعيين هم معين للبوليتاريا لصالح الرأسمالية الوطنية الإنتهازية، وبالنسبة للحركة المستقلة هم هامش للمركز، ومن المهم أن يتذكر النوبة بأن الشيوعيين والرأسمالية الوطنية والحركة المستقلة والمركز جميعهم في الشمال وشمالييون ويبحثون غالباً بحسن نية ولا شعورياً عن حلول تكون في صالح الشمال وتكون في نفس الوقت عادلة للآخرين. من الأرجح بأن المسلمة التي يؤمن بها معظم النوبة الآن بسبب التأثير الشمالي أو بسبب الإنقلاب الذي أحدثه الدكتور جون قرنق في السياسة السودانية هي بأن النوبة شعب مهمش بل أن هناك جزم بأنهم لب core المهمشين في السودان الآن بعد أن ذهب الجنوبيين، وبأنه لا يوجد أجدر من النوبة لهذا الإدعاءالآن. ولكن بعيداً عن ما يقوله الشماليين في ما يخص النوبة فإن على النوبة أن يروا الوجه الآخر ويقوموا بالترجيح بين الوجهين، والوجه الآخر هو أن شعب النوبة ليس شعباً مهمشاً، شعب النوبة شعب مُستَعمَر، ولهذا فإن عليه أن يسعى للتحرر وليس رفع التهميش.
من المفيد التفكر قليلاً في أصل أن النوبة شعب مهمش والدور الذي يلعبه إدعاء التهميش في تعقيد مشكلة النوبة وحل مشكلة الشماليين. في هذا السياق، وهذا ما يحدث عملياً في الواقع، يمكن النظر إلى تصنيف شعب معين بأنه مهمش – النوبة مثالاً – وإقناعه بهذا الوصف هو أحد أنجع السبل لإبقاء هذا الشعب داخل الرابطة القسرية التي تمارس عليه هذا التهميش،والآلية Mechanism كالآتي، يعترف ممارس التهميش بأنه المركز وبأنه يهمش الآخرين ويدعوهم لمقاومة التهميش والإصلاح من الداخل والصبر على الحاضنة الإجتماعية للمركز حتى تتطور والمساهمة في تطوير هذه الحاضنة، بل ويعترف لهم بحمل السلاح ويبدي تفهمه لذلك وحتى تعاطفه مع حاملي السلاح،على أن يكون كل ذلك داخل الدولة التي يسيطر عليها المركز، والإعتراف من قبل الجميع على الأقل ضمنياً بها، وقلب الصراع إلى صراع سلطة داخلي، ويقوم المركز بإعطاء سلطات صورية محدودة لنخب من يصفهم بالمهمشين في إطار إتفاقيات سلام يقوم بتشتيتهم بها، حيث يقنعهم بأن السلطة ’’تلاقيط‘‘ بحيث يقتنع البعض بهذه التلاقيط خصوصاً وأنها ’’لذيذة‘‘ بينما لا يطيق البعض صبراً ويعود للسلاح ثم تدور الدائرة من جديد وهكذا. وبهذا يزرع حالة ذهنية معينة في عقول من وصفهم المركز بأنهم مهمشين تجعلهم يدورون دائماً في فلكه طالبين للسلطة ورفع التهميش عنهم من قبل المركز نفسه! بينما يقوم المركز بوظيفة واحدة فقط وهي تقوية consolidating سلطته، وهنا ودون شك لا فرق بين جميع مكونات المركز، بينما يمارس النظافة والعناية بصحته hygiene عن طريق الإنقلابات والإنتفاضات والتي إرتبطت كلها بما فيها ديسمبر بالشعور بخطورة الوضع في الجبهة الداخلية للمركز وإقتراب من يدعوهم الهامش من الإقدام على خروقات خطيرة قد تؤدي إلى إنهاء المركز وقلب الوضعية التاريخية، فيقوم بعملية النظافة هذه ليمنع دخول الجراثيم ’’الهامش‘‘ لجسده وربما إنهاء حياته. ولهذا كانت كل مظاهر تبادل السلطة الناجحة في المركز سلمية سواء إنتفاضات أو إنقلابات سوى بعض الإستثناءات القليلة في شكل حوادث يتم وصفها بالمؤسفة وغير المقصودة collateral damage وهي فعلاً كذلك، لأن أي نزاع مسلح بين أطراف المركز تعني حتمية تدخل الهامش المسلح مع أحد الأطراف إو إنقسامه بينهما مما يعني حصوله على سلطة حاسمة أو حتى إبتلاعه للمركز كله.وإذا عدنا للنوبة كشعب فإن إقتناعهم بوصف التهميش على إطلاقه يضع في عقولهم حالة أنهم مواطنين وبأن عليهم النضال لرفع الظلم الذي يمارس عليهم من مواطنين مثلهم يسيطرون على المركز وبأن الجميع مظلومون من هذا المركز ولهذا يجب أن نوحد الجهود بما فيه مجهود المركز نفسه لرفع الظلم عن كاهل الجميع بما فيه عن كاهل المركز نفسه! وهذا غير حقيقي ومستحيل، إن المركز ليس معنى مجرد Abstract إن المركز هو شعب كامل ذو إثنية وثقافة وأرض ولا يمارس الهيمنة على الآخرين من منطلق المواطنة والتي لايعترف بها وأحياناً لايعترف بإنسانية الآخرين أصلاً (الجنوبيين والنوبة وشعوب جنوب النيل الأزرق مثالاً) وهو للتصحيح لا يمارس الهيمنة بل يمارس الإستعمار بما فيه سياسات الإستعمار الإستيطاني الذي يعمد لطمس الشعوب ومعالمها تماماً عن طريق التنزيح والتعليم ولإعلام والإرهاب والترغيب حتى يتم الإجهاز على الشعب نهائياًويتم نهب الشعب نفسه كأفراد للعمل في خدمة المستعمر الذي نهب أراضيه وثرواتها مع قطع وشيجته معها – وهذا حدث فعلاً وبنجاح في تاريخ الشعوب من قبل – وبهذا تكون نظرية الهامش والمركز قد أدت دورها الذي يريده لها المركز. وهذا لا يعني بأنه ليس هناك مهمشون حقيقيون، حيث أن لأي شعب مهمشوه ومظلوميه وفقرائه، مع الوضع في الحسبان بأن هناك خيط رفيع بين التهميش وتقسيم العمل والإضطهاد، وهذا لا يمنع إجتماع الثلاثة معاً، إن المهمشون الحقيقيون كمثال هم الحلب، النقادة، الأقباط، العبيد السابقين للشماليين وقس على ذلك، ولكن في حقيقة الأمر فإن معظم من يتم الإدعاء بأنهم مهمشون هم شعوب حرة (شعب وأرض) كاملة الدسم وقعت تحت رابطة قسرية تسمى السودان ولظروف ثقافية ودعائية تاريخية معينة لا زالت هذه الرابطة رغم قسريتها عزيزة عليهم (بما يشبه متلازمةستوكهولم) مما يمنعهم حتى من مبدأ التعامل بالندية داخلها وينتظرون أن يمد لهم الملك المتوج على هذه الرابطة ما يعتقد أنه حقهم داخلها، وبالتالي فهم فعلاً مهمشون.
إن النوبة هم شعب متكامل الأركان ولديهم أرض متكاملة الأركان ويمارس عليهم إستعمار متكامل الأركان. قد يدفع البعض بأن النوبة هم عبارة عن جماعة متخيلة وبأنه قد تم جمعهم لتحقيق أهداف سياسية معينة Strategic essentialism كجماعة مضطهدة من السكان ويجب أن لا يتعدى الأمر ذلك بعد تحقيق هذه الأهداف وأن يتفرقوا إلى سبيل حالهم ويصعد كلٌ إلى جبله،ولكن بنفس القدر الذي كان فيه الشمالييون جماعات متفرقة ليس لديها شاغل سوى الحرب بينها ثم قرض الشعر بعد كل معركة يسفكون فيها دماء بعضهم إلا أن هناك ظروف تاريخية معينة جعلتهم يعون لأنفسهم كجماعة ذات خصائص مشتركة يجب أن تجتمع وتواجه خطراً ومصيراً مشتركاً لا سبيل لهم لمواجهته متفرقين ناهيك عن أن يواصلوا رياضة الحرب بينهم، فإن النوبة بنفس القدر مروا بنفس الظروف التي جعلتهم شعباً مشتركاً.للنوبة أرض بخطوط طول وعرض لا يصعب تحديدها ومخاطر وجودية ومصير مشترك، لا ندري مالذي يجمع شتيت من اليهود في إسرائيل بدون أي رابط بينهم سوى الثقافة اليهودية ولا يمكن أن يجمع النوبة في جبال النوبة إذا ما توفرت الإرادة لذلك دون قسر أحد على ذلك لمجرد أن أصوله من النوبة – فغالباً إن المستوعبيين في الشمال وإنتهت منهم بوتقة الإنصهار المزعومة سوف لن يعودوا وسيفضلون أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثالثة أو حتى الرابعة كغنائم إستعمار وتنزيح مكاني وثقافي.إن المستعمر ليس بالضرورة أبيض اللون وأزرق العينين وأشقر الشعر، إن الممارسات التي مارسها الشمالييون تجاه شعب جبال النوبة هي ممارسات إستعمارية من الدرجة الأولى بإسم المركز، والمركز لا يعدو كونه إسم الدلع للإستعمار الشمالي للشعوب السودانية الأخرى. وقد يقفز شخص ما هنا ويقول بأن معظم الجنود والعملاء Agents الحكوميين الذين حاربوا وطبقوا سياسات المركز تجاه جبال النوبة هم من النوبة، فإننا نذكرهم بأن السودان قد تم فتحه للإستعمار الثنائي عن طريق أغلبية منالجنود السودانيين النظاميين وغير النظاميين وأقلية من الوحدات الإنجليزية والمصرية وتعاون إستخباري وطني سوداني كامل.
إن إقتناع النوبة دون وصاية أو تأثير من خارجهم وحسب ما يمليه عليهم ضميرهم وإحساسهم الداخلي الحقيقي بأنهم شعب مستعمر، سيملي حتماً مسارهم المستقبلي لحل المشكلة والتي قد يعتقد البعض بأنه لا فرق فيها بين رفع التهميش والتحرر ولكن البون بينهما شاسع جداً، وبالتالي يختلف الطريق لكلٍ من الغايتين. قد يعتقد البعض بأن إقتناع النوبة بفرضية أنهم شعب مستعمر تتطلب مغادرة كاملة لنظام الإستعدادات والتصورات لدي النوبة Paradigm shift ولكن الحقيقة هي العكس فإن الموضوع ليس مغادرة بل عودة للإستعدادات والتصورات القديمة التي محاها الشمالييون عن طريق الدعاية وسيطرتهم على التعليم والإعلام وتدفق المعلومات ومصادرها عن طريق التعريب مثالاً. إن عودة بسيطة لكتابات المستعمر الإنجليزي وأطابيره ومراسلاته الإدارية عن السودان دون التخصص الفائق في هذا الموضوع تجعل الرؤية واضحة.يجب أن يكف المثقف النوباوي عن القرائة للشماليين أو من هم واقعين تحت تأثيرهم في ما يخص مشاكل التحرر، إلا للعلم بالرأي الآخر، وأن يعود للمصادر بنفسه ويعيد التقييم بعيداً عن تقييمات الشماليين التي تخدم أغراضهم، كما يجب وهو الأهم أن يكف المثقف النوباوي عن محاولة الكتابة (أو غيرها من الوسائل الأخرى المسموعة والمرئية) للشماليين، فبينما يقوم المثقف المهمش (هذا إذا ماقمنا بإستعارة مصطلحات نظرية الهامش والمركز) بمحاولة إقناع وكسب عقول وقلوب الشماليين ويستنفذ طاقته وجهده في هذا الإتجاه ويتلقى الإشادة والتصفيق الحار وعليه يقدم المزيد من التنازلات لإرضاء العقول والقلوب الشمالية ونيل القبول Approval في الحقيقة يقوم المثقفون الشماليون بعملهم الحقيقي وهو كسب عقول وقلوب القاعدة المهمشة لصالح المركز بتمثيلهم للجانب الخير فيه الذي يستحق إعطائه فرصة. وبتمثيلهم أعني Representing ولا أعني Acting والتي قد تنزع الخيرية عنهم عن قصد. وفي ما يهم النوبة يجب أن تكون للمثقف النوباوي وظيفة واحدة وهي رفع الغشاوة عن أعين أفراد جماعته وإيقاظ ضميرهم وتوعيتهم بأبعاد مشكلتهم الحقيقية ومآلاتها وكسبهم لصالح الجماعة وليس تركهم كالخراف الضالة تأكل منهم ذئاب السياسة الشمالية: إسلاميين، شيوعيين، مستقليين، بعثيين، … إلخ. وتكمن صعوبة المهمة في أن الضرر الذي وقع على النوبة كبير وكبير جداً من ناحية معركة إستيعابهم في الشمال بل وقد يخيل للشخص أحياناً بأنه قد وصل مرحلة اللاعودة fait accompli فكان من النادر مثلاً أن تجد جنوبياً في تنظيم شمالي مهما كانت فكرته. ومن المعروف، وهذا الموضوع لا يحتاج لتوضيح وشرح، بأن المهمش في التنظيمات الشمالية يتم إستخدامه لإحضار أخيه المهمش المتمرد على المنظومة الشمالية بالوسائل السلمية والإقناع والمفاوضات وغسل العقول، بنفس القدر الذي يتم فيه إستخدام المهمش في القوات النظامية لإخضاع أخيه للمنظومة الشمالية أو محوه من الوجود في حالة تعذر ذلك. والإثنان (مهمش التنظيمات ومهمش القوات النظامية) يقومان بالمهمتان بإخلاص منقطع النظير وبتفرد وتفوق معهود منهما ليثبتا إنتمائهما الحقيقي للوطن دون إتهامهما بالخيانة أو الحنين للدم (العنصرية) ونحن نعلم بأن هذا النوع من التهم لشخص من الهامش عواقبه وخيمة للغاية تصل للتصفية الجسدية الفورية خارج إطار القانون، ولهذا فهو لايملك رفاهية مواجهة هذا النوع من التهم وعليه تفاديها بأي ثمن، بعكس زميله الشمالي الذي يمارس عنصرية ممنهجة منذ وراثته لهذه الدولة من المستعمر الإنجليزي ووراثته إستعمار غيره من الشعوب داخل هذه الدولة على طبق من ذهب دون أن يبذل أي جهد ليصبح سيداً على هذه الشعوب سوى إعلانه للإستقلال من داخل مبنى متواضع تم تسميته بالبرلمان.وإذا سلمنا جدلاً بأن النوبة مستقبلاً قد إختاروا التحرير على رفع التهميش ولتبسيط الفرق الواسع بينهما بمثال بسيط فإن رفع التهميش يعني رفع التهميش عن السود والملونين في اللملكة المتحدة مثلاً، بحيث لا يوجد مكان آخر يذهبون إليه، بينما التحرر هو نيل كينيا أو نيجريا لإستقلالهما مثلاً والتحرر من الإستعمار لأن المملكة المتحدة هي من أتت إليهم في أرضهم وإستعمرتهم.
كوكو موسى