نكبة إنسان بليل.. صور سوداء وطبقات أخرى للعنف على الأهالي! (سرّد صحفيّ أدبيّ لبعض جوانب المأساة)
• محمد أبكر*
• صورة أولى لتناقضات السياق العام:
في أثناء انشغال “الجميع”، أقصد هنا الجهات الرسميّة؛ السلطة الانقلابيّة العسكريّة القائمة بحكوماتها الإقليميّة والولائيّة الضعيفة، الهشة، والعارية، والمستبدة والسلطوّية في آن بالتحديد، بزيارة الوفد الإسرائيليّ رفيع المستوى بقيادة وزير خارجيتها الخرطوم، ليوم واحد، ومقابلته “البرهان” و”حميدتي”، ومسؤوليّن آخرين، وما تحمله الزيارة من تداعيات متناقضة، واهتمامات متصارعة خاصةً للسلطة القائمة، وما أحدثته من جلبة سياسيّة، وصخب وسجالات تاريخيّة وحضاريّة، وأخرى ثقافيّة واخلاقيّة بين السودانيين، بجانب أنباء عن سرديّة زيارات قادمة في فبراير الجاري، لمسؤوليّن رفيعيّ المستوى من عدة دول أوروبية غربية، وأمريكية، وأفريقية للخرطوم، تتعلق جميعها بطبيعة وصيرورة “العملية السياسيّة” الجاريّة، وكيفية دفع سيرورتها في المضى قدماً سواء كان ايجاباً تصب في صالح شعلة الحراك الثوريّ المتواصل، والشعب السودانيّ بالتاليّ، وفرص الإنتقال الديمقراطيّ في دائرة الدولة والمجتمعات بالبلاد، أو سلباً تقع في مصلحة معسكر الاستبداد، والعسكريّة، والدكتاتورية، والطغيان، وأعداء الحراك الثوري الجماهيري الحاليّ الطامح نحو فرصة وإمكانية الانتقال الديمقراطيّ للسودان. وقبلها مسار أوج الصراع والتنافس السلطويّ (داخلياً وإقيلمياً) بين البرهان وحميدتي وزياتهما لدولة تشاد في تواليّ يومين أثنين، وحيثيات الصراع في الدول الجوار في الغرب والجنوب الأفريقي، فضلاً عن صراع وجدّل الشرط السياسيّ الداخليّ (مدنياً وعسكرياً) للعملية السياسيّة القائمة الآن.. وهلمجرا من وجوه الصراع، وأشكال الجدّل والتنافس والسجال في الوضعيّة الحاليّة، والسياق العام للبلاد.
في أثناء كل ذلك وأكثر.. أصحو(كما يستيقظ جميع هولاء أهاليّ نكبة إنسان بليل الأخيرة) من معمعة المراقبة والمتابعة لكل ما أعلاه من وقائع وأحداث، على مقطع صوتيّ صادم ومروّع وفجائيّ، ارسله إليّ صديق وزميل صحفيّ، يتحدث فيه عضو فاعل من اللجنة العليا الاهليّة الطارئة المستقلة عن أحداث النكبة، عما يعانيه الاهاليّ من آثار وتداعيات والنتائج الوخيمة للهجمات الأخيرة، وسط برود وسذاجة الوضع العام الذي يعيشه الجميع حيال وضع هذا الإنسان المكنوب. بإنه وبعد أن نزّحتهم الهجمات الأخيرة عن مليشيات الجنجويد و(قوات الدعم السريع كما أوضحت فيديوهات، وأقرّ حميدتي بمحاسبتهم) وجهات أخرى مسلحة نافذة، من ديارهم الأصيلة، وشرّدتهم من مناطقهم الأصليّة قسراً، وبعنف السلاح، وقوة البطش العسكريّ، يعيش الأهالي، سواء من هم في مخيمات النزوح أو من عادوا تدريجياً وبحذر وخوف إلى مناطقهم بعد أن هدأ صوت الرصاص قليلاً، حالة من طبقات عنف وانتهاكات “بصورة يوميّة” وتجاوزات أخرى، بعضها علانية واضحة وأخرى ثقافيّة رمزيّة. حيث يعايشون حالاتٍ إنسانيّة وأمنيّة وصحيّة في غاية الخطورة، غاية الحساسيّة، بل في غاية الروع والأسف والقلق والخوف؛ يعايشون أوضاعاً غاية في المأساويّة، إنما هم يعيشون حالاتٍ كارثيّة من وضعيّة “عنف وانتهاكات ممنهجة جديدة” متنوعة هنا وهناك من قِبل البرابرة، والميليشيات أنفسهم من اعتدوا عليهم قبل أيام من جهة، ومن “تجاوزات واستفزازات مقصودة” من قِبل اللجنة الحكوميّة الطارئة وبقية اللجان المعنيّة من جهة ثانية.. كل ذلك وسط وضعيّة راهنة حقيقيّة غاية في الصعوبة أخلاقيّاً، وقيميّاً وانسانيّاً.
• صورة ثانيّة لطبقات العنف بأشكاله ومستوياته:
يبدو أن سماء النكبة الأخيرة على إنسان بليل، بالوانها السوداء والرمادية ما تزال تظلل بكثافة وضع الأهالي هنا وهناك عن الهجمات الأخيرة، وتغطيّ كثيراً شمس الهدوء والأمن والاستقرار ولو ضئيلاً، عن الخلق والإنكشاف. وفي هذا السرديّة، كشف العضو الإعلامي( م. د. ع) الذي حدّثنا في مقطع صوتيّ عبر تطبيق الواتساب، شريطة عدم الكشف عن هويته تحفظّاً من التهديد الأمنيّ(وهو متوقع الحدوث)، عن وقوع تجاوزات كبيرة و”صادمة ومتوقعة” تتعلق بعمليات توزيع الإغاثة للمتضررين في الهجمات الفجيعة والعنيفة الممنهجة التي تعرض لها إنسان بليل مؤخراً من قِبل المعتدين، سواء في مخيمات النزوح أو مناطقهم التي عاد إليها إنسانها تدريجياً وبحذر. حيث أوضح بلهجة كم تختزن مرارة وقلق وحزن، قائلاً: ” الوضع.. الوضع طبعاً، هنا وهناك، مزرٍ جداً؛ أولاً فيما يتعلق بالإغاثة؛ وهناك معلومات كثيرة من مصادر حيّة(مصادر تحفظّنا على ذكر أسمائها في القصة لأسباب أمنيّة)؛ أي من قلب المناطق، تؤكد أن الإغاثة والمساعدات الموجودة، يتم “تسريبها” وبالتالي “بيعها” في مدن ومناطق أخرى هنا وهناك، وخاصة في جنح الليل، (هنا تؤكد مصادر عدة أن ثمة من يمتلكون مجموعة من أصناف المواد التموينيّة، ويبحثون عما بيعونها لهم في مدنية نيالا)، فإذ أن هناك ثمة عربات تأتي إلى أماكن الاغاثة، ويتم شحنها، وتخرج مطفيّة الأنوار، ولمّا تذهب بعيداً عن حدود المنطقة يتم تشغيلها ثم تغادر إل حيث المجهول”. وهكذا يكشف لنا هذا المشهد كم أنه يعايش الأهالي المكنوبين مستويات من العنف بكافة أشكاله، ويعيشون أوضاعاً غاية في السوء كنتاج وكآثار وخيمة وتداعيات “مؤسفة” على كارثيّة الهجمات الفجيعة والعنيفة الممنهجة الأخيرة التي نشتها مليشيات الجنجويد و(قوات الدعم السريع ذات صلة باثنية الرزيقات (استصحب معك ذلك الصلح الذي تم بين بعض أبناء قبيلة الداجو المنتفعين، وقبيلة الرزيقات بحضور حميدتي) وجهات أخرى نافذة لها صلة بالدولة وعنفها على إنسان ومناطق وقرى محلية بليل.. إنها وضعيّة عنيفة جديدة نتيجة وضعيّة عنيفة سابقة متجددة.. إنسان منكوب يعيش محن وانتهاكات متعددة الطبقات، وفي ذات الأثناء يعمل أخرون على أن لا يتناول هذا الضحية ولا حتى “قطعة خبز” لتبقيه حياً.. ليعيش إنسانٌ مثل غيره من بني البشر؛ عزيزاً، مكّرمّاً، وعاقلاً اجتماعياً صحيحا.
• صورة ثالثة لمّا يعتصر الأهالي من أوجاع ومرارّة:
بالإضافة إلى روايات عدة أشخاص(من متضرري الهجمات الفجيعة المقصودة)، الذين تحدثتُ معهم هاتفياً قبل أيام من تأكيد أو نفي هذه معلومات هذه القصة، وعن أوضاع الأهاليّ هنا وهناك، وعن سوء الانتهاكات التي تعرضوا لها، وآثارها الوخيمة، وحزنهم على فقدان أولادهم، وأقربائهم، وأسرهم، وأحبائهم، ومواساتهم في نكبتنا هذه، فإن العديد ممن تحدَّثنا(كغرفة ولجنة اعلاميّة طارئة عن النكبة) إليهم في الأسابيع الولى للنكبة، عبَّروا عن مدى إيلامهم ممن تعرضوا له، ومدى أسفهم لما آلت إليه أوضاعهم بعد أن كان الجميع يعيش في حالة أمن ووضعية استقرار “نسبيّ معقول” في مناطقهم الأصليّة، بل أكبر ألم عميق آخر يعتصرهم في صمت حارق: الضربة “القاضية” التي تعرضوا لها ممن(اثنيات، ومجموعات ثقافية، وقبائل معروفة بعينها)، كانوا يتعايشون معهم في تعارف على مدى سنين وراء مواسم عقب أعوام؛ أنها الحادثة الأحدث استفزازاً وعنفاً ووجعاً، والأشد نكايةً بهم، والأحدّ إيلاماً عليهم؛ أن تأتي الخيانة ممن كانوا يجاورنهم في تعايش وحياة، طوال حقباً وأجيالاً ممن ليس متوقعاً أن يتوّرطون مع آخرين معلوم عنهم، خوض العنف وأرتكاب الانتهاكات ضد الإنسان والإنسانيّة – مجموعات محددة مشهود لبعض المجموعات تكرار ممارساتهم لبعض الانتهاكات والاعتداءات على آخرين، بسبب بعض الدواعي والأسباب والتصوّرات غير منطقيّة، ولا تنّم عن حس إنسانيّ عقلانيّ سليم. يمكن القول أنه؛ عنف ثقافي، وحالة تصوّر سيء للآخر، وخطاب كراهية.. إنها الصورة الأشد تشويشاً لهم، والأكثر تشويهاً إليهم، والأشد إيلاماً وحسرة على الجميع؛ الضحايا وذويهم، وأهاليهم أولاً.
• صورة رابعة للعنف المقنّع أو الرمزيّ:
طبقات أخرى للعنف أكثر سوداويّة، ولو كان رمزياً، وهذا هو الأسوأ والأكثر لاعقلانية، ولاإنسانية؛ حيث، أستطرد المتحدث في المقطع الصوتيّ، قائلاً في نبرة كم تشوبها وجوه من الأسف والحسرة: “ثانياً، ما يؤسف حقاً، طريقة توزيع الإغاثة للمتضررين، والمساعدات على مستحقيها؛ حيث يتم توزيعها بطريقة “إستفزازيّة جداً” للأهالي.. كيف هذا الأمر، مثلاً، إن تم تحديد يوم الفلانيّ على ان يتم توزيع مساعدات بعينها متساوية مع أعداد من يسكن المنطقة المحددة، فلمّا تصل اللجنة المعنيّة، ومعها عربات المشحونة بالإغاثة، ودون إخبار الأهالي مسبقاً بزمن ويوم قدومهم طبعاً، ولمّا يقومون بالتوزيع، وفي الأثناء يخبرهم بعض الأهاليّ أن أسرة فلان، وعائلة علان، قد ذهبوا للاحتطاب أو لجلب الماء أو غيره، فيخرج ردهم “الحارق والمستفز”: لا لا.. هولاء ليس لنا دعوة بهم= ديلك ما عندنا بيهم شغلة(اللهجة المحلية الدارجة)، وبالتالي يتم التوزيع على أعداد من وجدوهم بالقرية، ثم في الحال يغادرون إلى حيث أتوا وسط صدمة وذهول وتساؤلات الأهاليّ”. وهكذا، صور أخرى، أكثر قتامةً لما يحدث هناك على الأهاليّ، وهم وسط وحل من الانتهاكات والمحن والتحديات المميتة هنا وهناك.. أنها وضعيّة ممارسة الإقصاء، والتمييز العنصريّ والإثني، وعنف ثقافيّ على إنسان وأرض محلية بليل.
وبوتيرة مرارة وأسى أكثر سوءاً، واصل الراويّ في سرد القصة: “هذا التصرف والممارسات المخجلة والمستفزة، قد تسببت في خلق حالات نفسيّة واجتماعية “مخيفة وصادمة ومقلقة ومؤسفة للغايّة” خاصةً في وسط النساء.. فكيف لا تحدث لهم مثل هذه الحالات، وأن أحدهم مثلاً قد فقد كل/أي شيء في الهجمات الفجيعة والعنيفة الممنهجة الأخيرة، وهو من آثروا البقاء في منطقته المحروقة/المدمرة، رغم صعوبة وخطورة الأوضاع أمنياً وصحياً وإنسانياً وبقيّ منتظراً مساعدات بعينها تأتيه، وفي ذات ظرف يذهب للاحتطاب أو لجلب الماء أو للرعيّ أو غيره… فيعود ويتفاجأ بأن اللجان المعنية بتوزيع الإغاثة، وتقديم المساعدات لمستحقيها، قد جاؤوا ووزعّوها على من وجدوهم فقط، وفي الحال غادروا دون أن يتركوا لمن هو غائب أو ذهب في أي تلك الحالات المذكورة أعلاه، مستحقه من المساعدات والإغاثة المعنية”. كيف لا تحدث مثل هذه الحالات المأساوية، والصورة سوداء وكئيبة هكذا؟.
وأضاف السارد بذات النبرة المحزنة المتأسفة مع تأكيد من مصدر آخر موثوق مقرّب (ن. د. ك) من قلب النكبة من دائرة مقر محلية بليل: “هذه الواقعة تحدث في كل المناطق والقرى المتضررة.. وكأن الأمر مرتب له مسبقاُ ومقصود وممنهج من قِبل اللجنة الحكوميّة المعنيّة” أو ممن هو أعلى منهم، أو يسيطر عليهم، أو يهيمن على الحكوميّة الولائية كانت أم الاتحادية.. “كأنهم لا يريدون أن تصل هذه المساعدات والإغاثة للمتضرر ولمن يستحقها” عن هجمات العنف المسلّح الذي تعرض له إنسان وأرض والخصوصيّة الثقافيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة للمجموعة الاثنية صاحبة حايكورة(مسمى دارج لخريطة أرض محددة مملوكة لمجموعة ثقافية واثنية ما وفق قوانين الأراضيّ عرفياً وقانونياً) أرض محليّة بليل.
وأكمل في نبرة حاسرة شديدة العمق: “كل هذه الوقائع المؤسفة والصادمة تفاجأنا بها وسط وفي أفواه الأهالي، عندما قمنا بزيارات وطواف تفقديّ رقابيّ لكل المناطق والقرى المتضررة مع الأسف.. المسألة مؤسفة للغاية”.. انها الصورة الأشد أسفاً وعنفا.
• صورة خامسة لأحدث الانتهاكات المألوفة:
ومن آخر الانتهاكات، وسط سحب من الأسى والحسرة والحزن تظلل سماء الأهاليّ والدار، التي تمت في دائرة نكبة إنسان بليل، مواراة روح واحدة (وفاة الشهيد آدم عبد الله ابراهيم من قرية حميضة بمستشفى نيالا التعليمي، فجر السبت، الرابع من فبراير الجاري)، من ضمن عشرات الأرواح التي تم الإعتداء عليها، وإشعال النار عليها، وسط مقاومتهم أثناء الهجمات البربريّة، وما يزال ضحايا آخرين يعانون من إصابات خطيرة وبليغة وهم طارحيّ فراش الامثتال للشفاء. وبرحيل هذه الروح يكون قد ارتفع أعداد ضحايا الهجمات الفجيعة والعنيفة الممنهجة الأخيرة إلى (15) روحاً شهيدة(من أطفال نساء، عجائز، قيادات في الإدارة الأهليّة للداجو)، إرتقت إلى حيث تتوارى، ولعلها تحيا هناك في سلام وهدوء أبديّ. وعطفاً على ذلك، حدوث اعتداء من قِبل مليشيات الجنجويد على عدد (5) نساء في عدة مناطق متفرقة في محليّة بليل، في خبر مؤسف وصادم، نقلته عدة وسائط إعلامية، منها موقع وصحيفة “صوت الهامش”، بالإضافة إلى عشرات الصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي.
• صورة سادسة لحالات عنف ثقافيّ وخطاب كراهية:
بعد أن أخذ لحظة نَفَس، واصل المتحدث في سرده، بذات النبرة المحزنة، ويتفق معه مصادر أخرى من مناطق (أموري، وأندرر وفاشا).. : ” ثم هناك جوانب أمنيّة أيضاً في حالة مؤسفة جداً؛ فالمستوطنون في كل أماكن تواجدهم، والمنتشرون هنا وهناك في الدار، يقومون في كا هنيهة وأخرى بالتحرّش والتهديد والاستفزاز واعتداءات على الأهالي وبصورة متكررة يومياً وسط وجود قوات مشتركة تم نشرها على عدة مناطق وقرى. وبالطبع هناك حالات إبلاغ وبلاغات لكل هذه الاعتداءات والانتهاكات وأعمال عنف للارتكازات ونقاط الشرطة المتواجدة، ولكن ما يحدث هو أن هذه البلاغات يتم “تكديسها” دون إحداث أي حركة أو فعل أو أي تفسير حتى لها، أو حتى لا تقوم هذه النقاط الشرطية برفعها إلى الجهات الأعلى منها إذا هي ليس بمقدورها عمل أي شيء تجاه البلاغات، على الأقل”.
وأستطرد سارداً، مع اتفاق مصدرَين آخرَين من مخيم (دريج) للنازحين: ” مثلاً في منطقة “أربعاء جميزا”، “أم ترينا”، أكد لنا الأهالي قائلون: “رفعنا أكثر (16) بلاغ يتعلق بتهديد أو اعتداء أو تحرّش أو استفزاز أو … سواء أثناء الاحتطاب أو الرعي أو ورد الماء أو غيره.. إذ هناك الكثير من الاعتداءات والانتهاكات وحالات عنف وفي المقابل هناك الكثير ايضاً من حالات الإبلاغ عنها عند نقاط الشرطة والقوات المشتركة هناك، ولكن للأسف لا يوجد أي محاسبة أو عقاب أو تفتيش، أو محاكمات”، بل لا صوت ينطق حيالها، ولا حياة تنبض تجاهها، ولا ضمير يصحو نحوها على المستوى الرسميّ طبعاً أولاً ثم أهلياً إلا في حالات قصوى. و”مثل هذه الوقائع تحدث في كل القرى والمناطق للأسف”… كل ما يحدث هو أن تقوم تلك الجهات المعنية بتكديس البلاغات دون وجه حق أو تفسير على أقل تقدير.. وتلك مأساة أخرى وصورة سوداء مغايرة حادثة وقائمة بكل ألوانها السوداء الأخرى، وخطوطها الكارثيّة.
ويواصل قائلاً: ” فمثلاً أحدهم (من ضحايا الهجمات الفجيعة والعنيفة الممنهجة الأخيرة) أخبروه بأن “كارو”(عربة خشبية من أربعة إطارات أو إطارين يقودها حصان أو حمار… ) خاصته، التي تمت سرقتها في الهجمات الأخيرة، قد وجدوه مركوناً في القرية فلان وفي بيت فلان، فقام بإبلاغ الشرطة والارتكاز المتوفر في قرية أموري بذلك، فتحركت القوات إلى حيث “الكارو”، ولما وصلوا إلي القرية العينة، وجدوا قوات عسكرية وأفراد وجماعات مسلحة حامون القريّة، وجدوا الكاروه بالفعل، مقطوعاً إلى نصفين، رفعوه فجاوؤا ببه إلى صاحبه، دون أي سؤال عن السارق أو عمل تفتيش أو أي حركة رسميّة قانونية ما”، وسط ذهول وصدمة الأهالي وصاحب “الكارو” طبعاً”.
ويكمل في حسرة: “وهناك معلومات تؤكد أن الإغاثة والمساعدات الموجودة، ذاهبة إلى حالة نفاد قريباً سواء في مخيمات النزوح كمخيم “دريج” للنازحين(كما أكد متحدث أخر من المخيم ومن اللجنة الاهليّة)، أو في منطقة “أموري”؛ مركزيّة استلام وشحن وتخزين المساعدات والإغاثة ثم توزيعها إلى بقية المناطق، وأن اللجنة الأهليّة المستقلة من أبناء المناطق المكنوبة عن لجنة الواليّ، لا تمتلك أي إمكانيات نحو معالجة الأمر، بل لا تمتلك أي شيء، إنما يواجهون تحديات عديدة تتعلق بالأفراد المتطوعون، وأمكانات تحركهم(هم ايضاً لهم أسر وعوائل مسؤولون منهم) وزياراتهم للمناطق سواء لتقديم الإغاثة والمساعدات التي تأتي عبرهم أو فيما يتعلق بتقديم خدمات الرقابة والمراقبة للأوضاع وعمل ضغط شعبيّ في حالات الاعتداءات والانتهاكات بدائرة حدود المحليّة. وفي السياق ذاته، يؤكد متحدث آخر صحفيّ (فضّل عدم كشف هويته) حادب على الأوضاع هنا وهناك، أكد أنه ثمة أنباء عن محاولة تحويل مركزية المساعدات والإغاثة من منطقة “أموري” إلى مدينة “نيالا” حاضرة ولاية جنوب دارفور، في وضعية تدعو إلى طرح حفلةً من التساؤلات والاسئلة الملحاحّة.
وأكمل قائلاً: “.. وطبعاً اللجنة الحكوميّة تتكون من المدير التنفيذي لمحلية بليل المرفوض، ومفوض العون الإنساني مقرراً، و(14) عضواً آخرين، و(6) منهم طبعاً من أبناء المناطق والقرى المكنوبة، ولكنهم “سيئون جداً” سواء نحو عمل الإغاثة أو الرقابة أو غيرها.. وطبعاً هذه اللجنة يتحكم فيها المدير التنفيذي، وموظفيه فيما يتعلق باستلام الإغاثة والمساعدات أو بكيفية توزيعها”، بل إن كل ما سبق من انتهاكات وتجاوزات تاتي وبسبب ونتيجة لعمل هذه اللجنة الحكوميّة التي شكلّها والي الولاية، والمرفوضة من قِبل الأهالي جملةً وتفصيلا، بل أن الوالي نفسه مرفوض من قِبلهم، ويطلبون بإقالته بأسرع ما يمكن من وقت وسلطة، وظرف.
• الصورة قبل الأولى وحيثياتها الكارثيّة:
كان الجميع، يعيش بهدوء وبساطة وأمن “نسبي معقول”(لم يعرف الإقليم الأمن والاستقرار والآمان في صورها الكاملة والمثالية منذ زمن بعيد، ثم ازداد الوضع سوءاً منذ ثمانينيات القرن الماضيّ)، وسط أبنائهم، أهاليهم، واقربائهم، وأصدقائهم، وأحبائهم في مناطقهم الأصليّة هذه أو تلك، التي توالى فيها، أجدادهم في التكاثر والعيش والتعارف والتعايش مع مجموعات ثقافيّة أخرى مختلفة، أجيالاً وراء أجيال، إلى أن سقطت من حيث، الصراع السياسيّ حول السُلطة والثروة، وذهنيّة ايديولوجيّة اقصائيّة بعينها، طامة كبرى على الإقليم بأسره؛ الحرب في دارفور منذ 2003، ومن يومها لم تعد أوضاع الاهالي وحالة المناطق، وظروف الناس كما كانت، كما في السابق عهدها؛ وكأن لعنةٌ ما أصاب الجميع، وأصاب الإقليم وبما فيه من وموارد جامدة أو سائلة أو غازية. الكُل/الجميع في الإقليم- وخاصةً أكثر الأهالي تهميشاً، واستضعافاً، ضعفا”، يعاني من ويلات حروب وراء أخرى أشد هلكةً، وحالات اقتتال ونزاعات عنيفة عقب أخرى أكثر سوءاً وعنفا، بين كل هنيهة وأخرى، وعلى شاكلةٍ، وصورٍ متكرر يومياً، وكأن الأمر لعنةً أبديّة، لا تُفسد بتاتاً مهما طال الزمن أو قصر؛ أي منذ أكثر من عقدين من الزمان نعايشها ونعيشها الآن، وبصور أكثر بشاعة، وأكثر منهجيّة، وأكثر عنفا.
• صورة أخيرة للهجمات الفجيعة، ونتائجها المأساوية:
قبل شهرين من الآن، كان إنسان محلية بليل، يعيش في حالة “سلام وأمن نسبيّ” يُحسد عليها. وهذا “النسبيّ” أقصد حالة ضئيلة جداً من الشعور بالأمن والاستقرار والآمان، وهو يعيش في مناطقه الأصليّة، أي يا ما كان يعاني أيضاً من تعرض لانتهاكات جسيمة؛ أكثرها شيوعاً، التهديد، الاغتصاب، و”القتل المجانيّ” في حالات النهب والسرقات، ونزاعات محتدمة عنيفة، وبالخصوص في موسم الخريف، عن الزراعة والرعيّ والمياه، والمسارات من “مجموعات ثقافيّة وقبليّة وإثنية بعينها” ناهيك عن مجموعات مسلحة متفلتة، ومليشيات الجنجويد، وقوات الدعم السريع حديثاً.. إلى إن وقعت عليه، بالعنف وقسراً، والقوة غير القانونيّة، في ذات ليلة وضحى، ما كان متوقعاً “للمراقب والمتتبع لصيرورة الوقائع وسير الانتهاكات المتكررة بعموم الاقليم: وقوع حالة “هجمات مسلّحة، وانتهاكات عنف وعنف ثقافيّ، وخطاب كراهية، وقتل وتهجير قسريّ ونزوح، وتشريد” مقصودة وممنهجة، على أكثر من بضعة وثلاثين قرية ومنطقة مهولة بالاهاليّ، وأكثرها ضرراً وتضرراً هو إنسان الدار (حيكورة مجموعة ثقافيّة معينة؛ الداجو)؛ أهاليّ متعايشون مع أهالي وأثنيات، وقبائل ومجموعات ثقافية أخرى في تعارف وتجاور وصداقات ومصاهرات آمنة ومستقرة، لتكاد تحسدهم بقية المناطق والمحليات بالولاية على الاقل عليهم.. ولكن حدثت النكبة عليهم، وأنها نكبة إنسان بليل؛ نكبة إنسان الإقليم بأسره طبعاً.
*صحافيّ، باحثّ، قاصّ، وناشط اجتماعيّ من نيالا.