بقلم عثمان نواي
على خلفية بوست للأستاذ ياسر الناير حول صورة الجيش السوداني ذات التمثيل الاثني الإحادي، دار نقاش مطول بيني ورشا عوض وعدد كبير من المتداخلين حول الصورة وخاصة حول رأي رشا التي ساوت بين الجيش الشعبي والجيش السوداني بحجة عدم تمثيل الجيشين للسودان. وكانت حجتي واضحة بأن هذا منطق معيب غير مقبول. حيث لايمكن ابدا المقارنة بين جيش مقاومة يدافع عن شعوب ومجموعات مضطهدة اثنيا وثقافيا وتدافع عن نفسها في و جه آليات إبادة جماعية على أساس عرقي وأثنى، وبين جيش دولة تستخدم التكتل الاثني والقبلي لقيادة حرب تطهير ضد تلك المجموعات المقاومة. لا يمكن في المقام الأول على مستوى أخلاقي المساواة بين المجرم والضحية. وعلى المستوى السياسي فان الدولة للجميع لكن حركات المقاومة الممثلة لمجموعات ثقافية أو أثنية معينة من الطبيعي ان تمثل قيادتها تلك المجموعات وان تمثل بالدرجة الأولى المقاتلين في هذا الجيش والذين سوادهم بل وكلهم من مجموعات المهمشين والمضطهدين، ومن بينهم خرجت قياداتهم، وهذه ليست حالة فريدة خاصة بالسودان بل هذا هو حال جميع حركات المقاومة التي تدافع الهوية الثقافية cultural identity movementsعبر العالم .
ردت رشا عوض على هذه الحجة عبر نظرية الاصطفاف العرقي التي ساقتها في مقالها المنشور بالأمس. وقامت بابتسار ردود طويلة ونقاش مطول استمر لعدة أيام في عبارات مختصرة لتخدم غايتها في تدعيم نظرية الاصطفاف العرقي المتوهمة. فجمعت في مقالها بين الرد على والرد على الاستاذ عمار نجم الدين . وفي ظل محاولة رشا لاستخدام الاصطفاف العرقي كتفسير لاتفاق عدل من المعلقين والمتداخلين ، استخدمت نظريتها ضدنا جميعا بشكل معيب. فلقد أصرت على الافتراض خطأ أن كل من ينتمي إلى جبال النوبة هو بالضرورة ينتمي للحركة الشعبية، وهذا افتراض غير صحيح أصرت عليه رشا على طول حوارها المطول معي في البوست وفي مقالها. وهذا التصنيف في حد ذاته هو لب أزمة الكاتبة وغيرها من نخب المركز المتمثلة في انعدام افتراض التنوع في الآراء داخل الهامش نفسه ووضعه في كتلة تصنيفية مبنية على العرق في الاساس ولا تري اي حاجة في ظل هذا التصنيف العرقي لرؤية الأفراد وآرائهم واحتمال استقلاليتهم وقيمتهم الذاتية، طالما أنهم ينتمون إلى تلك الاثنية، فمن السهل ممارسة الكسل الفكري وتعليبهم لتسهيل التعامل معهم دون حاجة إلى تفكير. وهذه للأسف نفس أساليب النظام وجهاز الأمن الذي يعتقد أن كل طالب وكل ناشط وكل امرأة مهما كان فكرهم أو نشاطهم أو رأيهم، طالما انهم ينتمون عرقيا للهامش فإنهم بالتأكيد (حركات مسلحة ومتمردين )، وهذه العقلية التصنيفية هي انعكاس طبيعي لعقلية الفرز العرقي والثقافي المتجذرة في المركز ونخبه.
للأسف أن محاولات الكاتبة لدعم نظريتها المتوهمة امتدت للتعامي عن حقيقة أن استاذ عمار نجم الدين مثلا لا ينتمي إلى جبال النوبة أو إلى الهامش، هذا اذا كنا انا وياسر وعدد آخر من المتداخلين من الهامش قد اصطففنا عرقيا ضدها، إذن فما بال عمار، ام ان كل من يتحدث باسم الحركة الشعبية أو الهامش أو يدافع عنها هو إما مصطف عرقيا أو مذعن للقيادات العرقية في الهامش. وكلاهما تفسيرات واهية لحقيقة أن الاصطفاف العرقي هو الذي تمارسه رشا عوض نفسها وغيرها من نخب المركز. بل إن هذا الاصطفاف هو ديدن الدولة السودانية ككل. ولذلك نظرية الكاتبة حول الاصطفاف العرقي أشبه بجبة الدراويش المرقعة من كل لون وصنف، حيث أن الارتباك والتخبط الفكري يسيطر على عقلية الكاتبة التي يبدو أنها لا زالت رهينة لبنية الوعي التي أنتجتها. كما أن هذه الفكرة الغير ناضجة ليست سوى رد فعل لوعي الهامش المتزايد بقضيته وفرضه لها في كل المنابر المتاحة وبأساليب متعددة تتجاوز الصورة النمطية للمتمردين الذي ليس بيدهم غير السلاح لكي يدافعوا عن قضيتهم. بل إن معظم المهمشين من أصحاب القلم والوعي يعملون في صمت ولا يعيرون اهتماما لهذا الضجيج الذي يحدثه أمثال رشا عوض. لأن القضية التي يناضلون من أجلها والتضحيات التي بذلت من اجل تحقيق أهداف هذه القضية أكبر كثيرا من وعي كتاب الأسافير وأصحاب الامتيازات وكتاب الصالونات والغرف المكيفة وهواة التنظير وممارسة الترف والكسل الفكري الذي لا يكلف نفسه حتى ليغوص في أعماق القضايا أو يتجاوز مصالحه الذاتية ويتجرأ لمواجهة الاعباء التاريخية المرتبطة بالانتماء لمركز الهيمنة الاثنية والدولة العنصرية.
ان النقاش الذي دار بيني وبين الكاتبة في الأيام الماضية دخل في صلب موضوعات عدة اتمنى لو كانت من المهنية والإنصاف مما يجعلها تتطرق لأهمية تلك المواضيع دون ابتسار مخل. لكنها تريد تمرير فرضيات وصور معينة تخدم أجندة هدفها الرئيسي، وهو إعادة موضعة وتعريف قضية الهامش، عبر تهميش دور سؤال الهوية وأزمة العنصرية ووضعها على قدم المساواة مع أزمات السودان الأخرى المتعلقة بالتنمية والتخلف وغياب الديمقراطية. وهذا توجه خطير للغاية من شأنه تطويل عمر الصراعات السياسية في السودان عبر عدم الأعتراف بمدى محورية قضية الهوية والعنصرية في أجندة المأزق التاريخي للدولة السودانية. حيث تعتقد رشا أن التركيز على مسالة العنصرية وسؤال الهوية سيضر بقضية الهامش. وهذا منطق مثير للاستغراب. ان قضية الهامش نفسها هي أزمة الهوية والعنصرية فكيف يمكن أن يكون محور أهتمام القضية ومرتكزات تعريفها مضرة لها؟ أن هذا المنطق لا يمكن أن يكون له سوى تفسير واحد فقط، وهو الدعوة والعمل على إلغاء قضية المهمشين من الأساس من أجندة الأزمة السودانية ومشاريع حلها. ومحاولة تزييف الوعي عبر الترويج لفشل مشاريع الهامش وعدم صلاحيتها نتيجة اما للفساد أو لما وصفته الكاتبة بأنه اختزال لأزمة السودان في أزمة الهوية والعنصرية، وحذرت من أنه سيؤدي (لاطصفاف سياسي علي أساس عرقي). وهنا يجدر بالمرء التساؤل هل تعي الكاتبة حقا ما تقول أم أنها تكتب عن دولة أخرى وسودان غير سودان الابادة الجماعية والتمييز الاثني والعنصرية على مستوى المجتمع والدولة التي حولت ملايين السودانيين إلى مواطنين من الدرجة الثانية بسبب انتمائهم العرقي. أي قضايا واي محاور أكثر أهمية في الأزمة السودانية، من آلية الفرز الاثني التي همشت ثلثي السودان اقتصاديا وسياسيا واحتقرته اجتماعيا وحاولت استلابه ثقافيا ودفعته دفعا إلى حمل السلاح للدفاع عن نفسه، ثم ابادت الشعوب حين قاومت بكل ما تملك و فصلت الجزء الآخر منها حين اشتدت المقاومة والضغوط من أطراف السودان المختلفة.
أن الديمقراطية التي يريدون وضعها كمحور اساسي لحل أزمة السودان وإزالة سؤال الهوية والتمييز من رأس الأجندة ، في تعريفها الرئيسي هي حكم الشعب. فكيف يمكن ان تقوم ديمقراطية في بلد تمارس فيه عملية فصل ممنهج على أساس العرق تحرم معظم الشعب من ممارسة حقوق المواطنة المتساوية، هذا ناهيك عن الملايين الذين يعيشون حالة نزوح داخلي ولجوء خارجي. فمن هو الشعب الذي سيمارس الديمقراطية؟ومن هو الشعب الذي سيحكم؟ ففي سيناريو ديمقراطية كهذه فإن الشعب الذي سيحكم لن يمثل سوى المجموعات التي قامت باضطهاد واستبعاد الآخرين لإفساح المجال لهيمنتها على السلطة والثروة دون بقية المكونات الاثنية الأخرى . لذلك فإن حل أزمة الهوية والعنصرية يجب أن يوضع كاولوية في تفكيك الأزمة السودانية. وهذا يعني أن الشعب السوداني بأكمله سيكون ممثلا في أي عملية ديمقراطية مفترضة دون إقصاء، اي ان الديمقراطية هي المرحلة تالية لتثبيت حق المواطنة المتساوية الذي لن يتحقق دون حل أزمة الهوية والتميز الاثني في الاساس. وهذا كان محور النقاش الرئيس الذي يهمني، فلست بمعنى على الإطلاق بالدفاع عن شخصيات أو حركات أو أحزاب بعينها أو قيادات مهما كانت في المركز أو الهامش. ما يعنيني بالدرجة الأولى هو مسألة وضع قضية المهمشين وسؤال الهوية والتمييز كاولوية محورية على قمة أجندة الأزمة السودانية. وإذا نظرت الكاتبة وغيرها من نخب المركز إلى المسألة من هذا المنظور لكان يجدر بهم ادراك أن المفاصلة أو الاصطفاف العرقي الذي يتهمون به الهامش هو الحقيقة ليس سوى صورة مرآوية لما يحدث في المركز، وان الهامش لا يقوم سوى بالدفاع عن نفسه في وجه التمييز والتكتل الاثني في الجانب الآخر. وهذا التكتل للاسف ممارس على مستوى النظام والنخب التي تعارضه وحتى التي تعتبر نفسها مستنيرة.
ان تعقد الأزمة السودانية يتطلب إعطاء أزمة الهوية والتمييز والتي أنتجت التهميش وزنها الحقيقي، لأن خلل ميزان الامتيازات التاريخية المستفيد منه المركز وضع النخب السياسية والثقافية في منطقة حمل عبء تاريخي ثقيل يبدأ من إرث تجارة الرق وصولا إلى واقع الإبادة الجماعية المعاش الان. وما هذا الواقع الا نتاج إلى استمرار تلك العقلية التي بررت لنفسها قبل عقود استرقاق اثنيات معينة على أساس عرقي والان بررت إبادة نفس تلك الاثنيات بذات المنطق العنصري والتمييزي. هذا هو محور أزمة السودان، ولايمكن أن يحدث تغيير ولا ديمقراطية حقيقية إذا لم يتم وضع هذه القضية كمحور رئيسي يستوجب حلها سياسيا واجتماعيا وفكريا. والبداية دوما بالاعتراف بهذه الحقيقة. ان العجز عن المواجهة وتحمل عبء هذا الارث التاريخي والحاضر من قبل نخب المركز سيؤدي حتما إلى مزيد من التأخير في أحداث تغيير جذري. لأن التغيير يبدأ من هذه العقليات التي تظل ترفض إعطاء المكانه اللازمة والأعتراف اللازم بأهم قضية بسببها قتل الملايين.
وعند هذه النقطة المتعلقة بالضحايا، يجدر الذكر أن رشا عوض في معرض نقاشها معي قالت موضوع التضحيات والذين ماتوا بالآلاف فهذا لا يصلح دليلا على الفهم الصحيح للقضية او دليلا على وجود مشروع فكري وسياسي ناجح ، فالكيزان قدموا آلاف القتلى في الجنوب فهل هذا دليل على نجاح المشروع الحضاري؟ طالبان والقاعدة وداعش قدموا ألاف القتلى فهل هذا دليل على امتلاكهم لرؤية صائبة؟). قامت الكاتبة بالمساواة بين داعش وبين مقاتلي الهامش وضحايا الابادة الجماعية. وهذا لكي تثبت عدم صحة مشروع الهامش. وماهو مشروع الهامش سوى مقاومة التمييز الاثني والبحث عن المواطنة المتساوية.؟ لا يهمني ابدا تفاصيل برامج الحركات أو أحزاب الهامش مدنية ومسلحة على مستواها السياسي فكل حركة لديها من يدافعون عنها. لكن القضية المشتركة التي يقف خلفها كل المهمشين في السودان وهي أساس تعريف كلمة (marginalized people( أو المهمشين، والتهميش هو عملية الاستبعاد والتمييز وعدم المساواة في الحقوق مع (المواطنين الآخرين في ذات الدولة. هذه هي قضية الهامش ومشروعه الذي ضحى من أجله ولا زال وسيظل يضحى لأجله المهمشون. لأن هذه حقوق لا تسقط بالتقادم. ومن هنا يتضح مدى العوار الفكري والتخبط الذي تعيشه الكاتبة الذي ربما يعكس تخبطاتها الشخصية بين المشروع الاسلاموي الطائفي حتى وصلت إلى الدفاع عن العلمانية. عموما فإن مشروع الهامش والمهمشين هو إنهاء التمييز العنصري والفرز الاثني والأعتراف بهذه الأزمة بأنها المشكل الرئيسي في الدولة السودانية. وضحايا الهامش لهم آليات العدالة الدولية التي تعلم جيدا أن لا سبيل للمساواة بين الضحية والمجرمين. حيث لن يجدي هروب نخب المركز من تحمل المسؤولية التاريخية عن هذه الجرائم سواء بصمتهم أو محاولة تزييف أولويات الأزمة السودانية.
[email protected]