د. فيصل عوض حسن
مَارسَت عصابة البشير عُنفاً مُفرطاً ضد طلاب جامعة الخرطوم، خلال الأحداث المُؤسفة التي شهدتها الجامعة في الأيَّام الماضية، على إثر المعلومات التي رشحت بشأن نقل كلياتها إلى سوبا، وإحالة مبانيها الحالية لمَزارٍ أثري، إنفاذاً لقرار مجلس الوزراء وفق ما صَرَّحَت وزارة السياحة، مع نفي (مُربك) لوزارة التعليم العالي، وتضليلٍ سافرٍ لإدارة الجامعة، مما عَزَّز القناعة ببيع الجامعة وأراضيها، وهي عادة للبشير وعصابته، يقومون بالبيع ثم ينفونه، ويستخدمون القوة والبطش لإخماد الاحتجاجات عبر مليشياتهم الإجرامية، والتغطية على ذلك الإجرام بإعلامهم المأجور والمُضلِّل.
فقد ارتكب البشير وعصابته – ولا يزالون – أبشع أنواع الخيانة الوطنية بحق السودان، خاصةً بيع أراضي الدولة ومُؤسساتها المُختلفة التي لا يسعُ المجال لذكرها، ورَهْنْ الأصول العقارية التي قدَّموها لنيل قروض بمُعدَّلات فائدة عالية، وإحالتها لمصالحهم الخاصة وتحميل أعبائها للسودان وأهله، وتَرْكِهِمْ في مُواجهة الدائنين وأخطار الاستعمار الجديد. كما شَهِدَ السودان – في عهدهم البائس – عدداً من الأزمات المُتلاحقة والمُتتابعة، في كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بدءاً بالانهيار الاقتصادي الكامل وتعطُّل القطاعات الإنتاجية، كالقطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني والصناعات المُرتبطة به، مروراً باحتلال أجزاء مُقدَّرة من أراضينا كحالة إثيوبيا للفشقة ومصر لحلايب وأجزاء من وادي حلفا، انتهاءً بتفشي العصبية والجهوية التي انتشرت بصورةٍ مُخيفة، بعدما (غَرَسَ) البشير وعصابته غرْسَها وأشعلوا نيرانها، مع تراجع المُستوى الأكاديمي والأخلاقي رغم تدثُّر العصابة بثوب الإسلام!
وبالتوازي مع هذه الأزمات وذلك الإجرام، فقد فشلت القوى السياسية السودانية ورموزها، سواء كانت مدنية أو مُسلَّحة، في إحداث التغيير وإنقاذ ما تبقَّى من السودان، لافتقادها للرُؤى الواضحة والموضوعية والرغبة والإرادة الجادَّة، لإحداث ذلك التغيير وإدارة وتسيير الدولة لما بعده! وتشهدُ تلك القوى السياسية – في الغالب – تنازُعاتٍ داخليةٍ مُتزايدة، وصراعاتٍ دائمةٍ لأسبابٍ بعيدة كل البُعد، عن مضامين ومعاني الديمقراطية والشفافية والأمانة التي يُنادون بها، مما أسفر عن تمزُّق غالبيتها وانحسارها في كياناتٍ صغيرة، تلهثُ خلف فتات الموائد الوزارية، وارتضوا بإساءات البشير وعصابته، وخذلوا الشعب السوداني طيلة ال(27) سنةً الماضية، ولا يزال خذلانهم مُستمراً، وأثبتوا (عملياً) أنهم يسعون لمصالحهم الذاتية، وبناء أمجادهم على جماجم ورفات الشعب السوداني، وضمان مُستقبل أبنائهم وإشباع شهواتهم السُلطوية والمالية. وقلة قليلة من القوى السياسية، صادقة لكنها مُحاصرة ومُكبَّلة ولا تملك غير التصريحات والبيانات بين الحين والآخر، والتي لم ولن تُحقِّق التغيير المنشود، وهي أمورٌ معلومة للقاصي والداني، والحديث عنها يطول ولا يسع المجال لتفصيلها.
المُدهش بالأمر، موقف الجيش السوداني الذي يتفرَّج على فجور البشير وعصابته، وتدميرهم للبلاد وإشعال الحروب والفتنة، ومُساعدة الغير على احتلال أراضينا، والمُتاجرة بالجيش (نفسه) وجَعْلِه كسلعة تُباع وتُشترى لمن يدفع أكثر، وإقحامه في حروبٍ لا ناقة له فيها ولا جَمَل، ودون مُراعاةٍ للأرواح السودانية الغالية التي يُضحي بها في بحثه عن الفتات المادِّي الذي أدمنه منذ مهده. ومن أمثلة ذلك ما قام به البشير في عاصفة الحزم التي وَجَّه بالمُشاركة فيها هاتفياً من الرياض، وأدخل السودان في حربٍ لا حاجة لنا بها بحجة تافهة تمثلت في (الدفاع عن الحرمين)، بينما أعلنت السعودية (صاحبة الحرب) أنَّ حربها لإعادة شرعية اليمن! وجميع هذه المُعطيات تدفع العاقل لطرح عدد من التساؤُلات المنطقية، بشأن موقع وموقف شرفاء الجيش من هذه الأفعال العبثية للبشير وعصابته؟ وهل الأولى حماية أراضينا من احتلال المصريين والإثيوبيين أم استرجاع (شرعية اليمن) المفقودة حسب زعمهم؟ تلك الشرعية التي يفتقدها البشير لإدارة (ذاته) و(شخصيته) المهزوزة والمُنكسرة، ناهيك إدارة دولة كالسودان وشعبه الذي أذاقه كل صنوف القهر والتنكيل! وما هو موقف الجيش من مهامه الأصيلة في حماية الدولة وتأمين حدودها وأراضيها من الاعتداءات الخارجية ورعاية شعبها؟ وهل يُميِّز جيشنا بين الحفاظ على الوطن (الكيان) وبين حماية رأس السُلطة؟لجيش وهل يُدرك أنَّ تلك الحماية (مشروطة) بإخلاص ونزاهة رأس هذه السلطة وليست (مُطلقة)؟ والأهم هل يعتقد الجيش أنَّ السودان (مُنحصر) في البشير وعصابته وبالتالي حمايتهم ومُسايرتهم في المُتاجرة بالبلاد بما فيها الجيش نفسه؟! وهل من واجبات الجيوش (المُحترمة) حماية المُتجبرين واللصوص والقتلة والمُتلاعبين بالتشريعات والقوانين أمثال البشير وأزلامه؟ وهل تُدرك القوات المُسلَّحة أبعاد ما فعله البشير وعصابته بالجيش الذي سلبوه مهامه ومنحوها لجهاز الأمن ومليشياته الإجرامية؟! هل نسي الجيش كرامته التي تمرَّغت عقب (جَلْد) أفراد الدعم السريع لعميد في القوات المُسلَّحة وجَعْلِه بملابسه الداخلية؟!
إنَّ الجيوش المُحترمة وما يقع في إطارها من أجهزة، تنحازُ للديمقراطية وإرادة الشعوب، حتَّى لو أدَّى ذلك ل(إسقاط) رؤوس السلطة الفاسدة، وتقديمها للمُحاكمات العادلة بكل شفافية ونزاهة، باعتبار أنَّ سيادة القانون وكرامة المُواطن والوطن قيم أقرب للتقديس، ولا مجال للتلاعب بها أو هضمها. وهي مهامٌ لا تقتصر على جيوش العالم المُتقدم وحدها، وإنَّما بالدول القريبة منا والواقعة في مُحيطنا القاري والجُغرافي، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، ما قام به الجيش التونسي الذي وقف مع إرادة شعبه، ولم يستجب لأوامر الديكتاتورية والظلم ويُوجِّه أسلحته لصدور الأبرياء والشرفاء منهم. وهناك جيش بوركينا فاسو الذي ضرب أروع الأمثلة في انحياز الجيوش لإرادة الشعوب، حينما ساهم مع شعبه في الإطاحة بالنظام الديكتاتوري هناك خلال ثلاثة أيام! ومُؤخَّراً مصر واحترام قيادتها لجيشها الوطني وعدم توريطه في مُغامرة اليمن، فكانت ثمار ذلك الاحترام على نحو ما رآه العالم أجمع قبل أيام، ولا أعني فقط العوائد الاقتصادية للاتفاقات مع السعودية، والتي قد تختلف حولها وجهات النظر، بقدر ما أعني حرص القيادة المصرية على أرواح جيشها وعدم إقحامه في حروبٍ وصراعاتٍ لا تعنيهم، إعلاءً للنفس البشرية واستشعاراً بأهميتها، بعكس البشير الذي سارع لبيع أفراد جيشه دون تردُّد، وسيرميهم كما فعل بأسلافهم، بخلاف الاستهزاء الذي طال السودان وأهله من هذه المُشاركة.
ورغم يقيني بولاء العديدين من أفراد الجيش للبشير وعصابته، غير أنَّ بعض الأمل يحدوني في أنَّ يكون بينهم (أيضاً) من تعلو عنده قيمة السودان على ما دونه، ويكفي الاتعاظ بما فعله البشير ومن معه بقُدامى المُحاربين، بدءاً بالذين طالبوا بحقوق نهاية خدمتهم، فاستكثروها عليهم وقابلوا اعتصاماتهم بالهراوات والغازات المُسيلة للدموع والزج بهم في السجون! وفي حالاتٍ أُخرى، قتلوهم بعد اتهامهم بالجنون والعَتَه! بجانب تعامُلهم البشير وعصابته مع جرحى العمليات الحربية، وطرد بعضهم من المُستشفى وهو لم (يُكمل علاجه)، إلا ال(مُوالين) أو ذوي القُربى منهم! وهي مُعطيات تُحتِّم على ما تبقَّى من جيش عدم الاكتفاء بالفُرْجَة، على عبث البشير وصحبه وإجرامهم المُتزايد والمُتلاحق، وليعلم أفراد الجيش بأنَّ الكأس دائرة ولن يكونوا أفضل من السابقين وسيُواجهون ذات المصير من الجحود والنُكران!
إنَّ كوارث البشير وعصابته تتعدَّى (بكثير) بيع جامعة الخرطوم، لتشمل السودان بكامله وتهدد استقلاله وبقاءه ككيانٍ وأرض، وحَسْمَه وإيقافه هو وعصابته يدخل في إطار مهام الجيش الأصيلة، وحماية الدولة من الضياع والتفكُّك ومن جرائم هذه العصابة المأفونة، التي تصنع الأزمات باحترافية وتقبض الأثمان، واستعدادهم الدائم للهرب إلى البلاد التي يحملون جوازاتها وتَرْك السودان وأهله للمجهول. وعلى ما تبقَّى من شرفاء الجيش الانحياز لصالح الشعب، وعدم مُسايرة هذه العصابة الآثمة، وإنقاذ ما تبقَّى من السودان أرضاً وشعباً وكرامة، فهل يستجيب الجيش ويقوم بواجباته تجاه ذاته ووطنه وشعبه، أم يستمر في سلبيته بدعم أعداء السودان الحصريين (البشير وعصابته)؟!