صلاح شعيب
في فترة وجيزة أفرزت ثورة ديسمبر أدبيات سياسية، واجتماعية، وثقافية، وفنية، قيمة، وحيوية، وملهمة. ولقد أعادت الثقة للسوداني، وجعلت بناته، وأمهاته، وأخواته، يفتخرن – بأن بلادنا – بعد تحطيم الإسلاميين للنسيج الاجتماعي – قادر ة على بلوغ الشفاء. بل إن الثورة أكدت أن الروح السودانوية هي المنتصرة دائماً فوق كل الاعتبارات الجهوية، والحزبية، والايديولجية، وغيرها. والدليل على ذلك أن التقاء الناس الآن لهزيمة الاستبداد معزز فقط بتاريخ نضالات السودانيين في المقاومة، ولا بد أن كل الشعارات الحزبية، والسيماءات الفئوية، قد اختفت من المشهد الوطني، أللهم إلا المتعلقة بموروث الشعب، قديما، وحديثا.
كذلك اختفت محفزات العرقية التي استثمر فيها النظام، واستخدم المليارات من الدولارات حتى يفت عضد المقاومة، ويتقاتل السودانيون بعضهم بعضا بينما أصحاب المشروع يتعمقون في التمكين.
صحيح أن الشباب الملهم رد الروح لكثير من الكبار فلحقوا به، وهم الذين كانوا قبل فترة قليلة من الهبة قد أحبط حتى انزوى كثير منهم دون المثابرة في المقاومة. ولكن لاحظنا أن عطاء الشباب مستمد من تاريخ أجدادهم، وآبائهم الشرفاء، الذين رووا السودان بدمائهم، ومجهوداتهم الفكرية الملتزمة في كل المجالات. لقد أعاد الشباب إنتاج موروثنا الثقافي، والفني، ووظفه في المقاومة. ومن ناحية أخرى أنتج الثوريون أعمالا فنية متقدمة، ومتنوعة، رسالتها ضرورة وحدة النضال، وغايتها التماسك القومي، وجوهرها الإصرار على إنجاز الديموقراطية الثالثة، وإعادة بناء البلاد في كل نواحيها.
يقول الأستاذ محمد محمود راجي الذي نبهنا إلى ابداعية الثورة إن “انتفاضة يبدع فيها الفنانون بهذه الكثافة، تشكيلا، وألوانا، وأصواتاً، وإيقاعا، ودوزنة، وهتافا، وزغرودةً، وشعرا، ودراما، والله أكبر، حتما هي انتفاضة منصورة، وثورة منتصرة..والله ما شهدنا مثل هذا في أبريل التي حضرناها، وما سمعنا بمثله في أكتوبر التي حدثونا بها، وقرأنا عنها..إنها انتفاضة غير…”. وصدق راجي، فجيل الثورة استلهم منها معانٍ عظيمة أعانته لكسر حاجز الضعف من أجل هزيمة الطغيان، ونشطت مخيلته، واستمد منها المثابرة في ميادين التظاهر.
لقد كانت التفاتة متميزة من قادة تجمع المهنيين السودانيين بأن تواكب مسيرة هذا الخميس ذكرى وفاة مبدعين مهمين في تاريخنا الفني: الاعتراف بفضل الفنان مصطفى سيد أحمد، ومحمود عبد العزيز في وقت يشارك فيه جمهورهما العريض في التظاهرات، خصوصا أنهما توفيا في ١٧ يناير ١٩٩٦ و١٨ يناير ٢٠١٣. والحقيقة أن جمهور الفنانين الذي دفع ثمنا غاليا للعيش في السودان هو الذي ما يزال له القدح المعلى في تشغيل ماكينة الحراك الثوري.
بخلاف أن رمزهم الفني قد تمت إهانته، وجلده، في الفاشر، فمحمود عبد العزيز كان ملهما لهذا الجيل الذي وجد فيه العزاء عند ظروف القمع، والتضييق، والتدجين، التي أحاط بها النظام سوح الشباب. فكل هذا الجمهور قد تعرض لغسيل دماغ عبر العملية التربوية، وَقّاد النظام بعضهم قسريا لمهرقة الجهاد، وقتل منهم كثيرون في مظاهرات قادها في فترات متفرقة في الثلاثة عقود الاخيرة. فوقا عن ذلك فقد سد الإسلاميون أمام جيل محمود منافذ الترفيه، والتمتع ببعض المزايا التي وجدها الجيل الذي سبقه. إنه جيل حرم من التوظيف إلا لمن أراد أن يكون خادما للأيديولوجية المدمرة، ولَم يجد الفرصة للتثاقف مع الأجيال السابقة المبدعة نظرا لهجرتها. كذلك لم يتسن للجيل نفسه الحصول على التعليم، والعلاج المجاني، والبيئة الحرة المؤهلة في دور العلم. ولذلك رهق نفسه كثيرا بممارسة الأعمال الشاقة في ذات الوقت الذي فيه يراكم التحصيل العلمي. باختصار هو جيل النكبة السودانية الذي عاني من ممارسات النظام لتلويث الأدمغة. ولولا ثورة الاتصال التي سنحت لهؤلا الشباب العثور على المعرفة – خارج سياجات الدولة – لما تمكن من إيجاد السبل للتعبير عن حقوقه التي يثور للحصول عليها في هذه اللحظة.
إن الثورات ملهمة للإبداع الفني. ولا شك أن أكبر تأريخ مختصر لثورة اكتوبر، وأبريل، يكمن في المنتوجات الفنية التي لمسناها في ساحة الشعر، والغناء. الاكتوبريات الغنائية ما تزال يعاد إنتاجها عبر مجهودات هذه الجيل كما شاهدنا عبر أيّام الثورة. وبجانب أن هذا الشباب قدم هذه الأغنيات بإخراج جديد، قبل قيام الثورة، إلا أن حاجته قصوى الآن ليؤرخ أكثر لصنيعه الثوري عبر إشعار، وألحان جديدة. ونظن أنه سيفعل مع تصاعد المد الجماهيري للتحرر من سلطة الاستبداد. وقناعتنا أنه سينبثق وسط هذا الجيل صوته الفني الخاص كما فعل شعراء، وفنانو، اكتوبر وأبريل، والذين كانوا أيضا في عنفوان شبابهم، وحدثوا كثيرا في مجال الغناء الثوري، والوطني. إذن فإن الشباب في كل مرحلة تاريخية هم حداة التجديد الفني نسبة لقدرتهم الجيدة للتعبير الصادق، والموحي، عن مرحلتهم. والحداثة أصلا فعل الشباب في كل المجتمعات القديمة والمعاصرة. ولذلك نتوقع أن تعيد ثورتهم الاعتبار لقدراتهم في تجويد الخيال الفني المحدث خصوصا أن الثلاثين عاما الماضية كانت سببا في تحجيم قريحة الشباب في الانطلاق. وقد وجد الحواتة في محمود عبد العزيز صوتا رخيما للترفيه، والمواساة، والتواصل. بل حولوا تراثه الفني إلى محفل للتلاقي السنوي، وربطوه بأعمال خيرية كثيرة. ولا شك أن الكثير هناك الذي ينتظرهم لتفجير طاقاتهم في العمل الوطني.
إن هناك مشتركات كبيرة بين جمهور مصطفى سيد احمد ومحمود عبد العزيز، إذا راعينا أن الفنانين كانا يشحذان صوتيهما لتطوير تراثنا الفني بجانب آخرين. وليس هناك تعارضا إطلاقا بين التجربتين اللتين رغما اختلافهما في المحتوى إلا أنهما يعبران عن جيلين متقاربين جدا. بل إن عددا من الشباب من جمهور مصطفى الذين عاصروا أيامه الاخيرة ينحازون أيضا لتجربة محمود. ورغم أن هناك من يسعى للمقارنة لتفضيل هذه التجربة عن تلك، أو العكس، ولكن تظل هناك خصوصية للتجربتين اللتين تحظيان باحترام عند قطاع عريض من جيل الشباب السوداني المنفعل بثورة ديسمبر الآن.
لقد تعرض جيل الحواتة المهتم بالقضية الوطنية إلى التبخيس من السلطة، وأقلامها التي وصفتهم بأنهم مجرد “مناضلي الكيبورد” في إشارة إلى عدم قدرته على فعل شئ يغير موازيين اللعبة. ولكن كذبت ثورات الشباب هذا الزعم غير المؤسس على روية، ورؤية. فقلنا في مقال قبل عقد إن “الانترنت جهنم الدولة الاستبدادية”، وهاهو جيل مصطفى، والحواتة، يتفنن أكثر من الأجيال التي سبقته في توظيف أدوات الميديا الحديثة، وشبكات التواصل الاجتماعي، لاسترداد الديموقراطية التي هي حجر الزاوية للدولة الوطنية. إن مستقبل البلد مشرق ما دام مناضلي الكيبورد الشباب سيهزمون قريبا أعتى ديكتاتورية عرفها تاريخ المنطقة.