ألصراع الأذلي بين العسكر و المدنيين تجسده الحالة السودانية في الدولة الحديثة , و في الحركة الدائرية للتداول الحصري للسلطة فيما بين الجيش و الأحزاب السياسية , والذي حظي فيه ضباط القوات المسلحة السودانية بالنصيب الأكبر من مدد الأستحواذ على الكرسي , فلكل ظاهرة سياسية أسبابها المنطقية و منطلقاتها الواقعية , إذ لا يمكن أن يكون قسط ونصيب الحكومات العسكرية من السلطة ما جملته أربعة و خمسون عاماً من إجمالي ثلاث وستين سنة هي عمر الدولة الحديثة , دون وجود أسباب يستوعبها العقل والمنطق السليم !!.
إنّ الاستفهام الذي يلح بشدة على أذهان الناس , هو: لماذا لم تستطع الأحزاب و التنظيمات السياسية و منظمات المجتمع المدني والنقابات , الحفاظ على المؤسسات الديمقراطية التي تركها البريطاني في كامل زينتها و عنفوان شبابها؟ وبحسب اجتهادنا نرى أن السبب الجوهري لهذا الإخفاق يكمن في صفوية وطائفية تكوين هذه الأحزاب , و ليس من رجاحة العقل أن نأمل أو نمني أنفسنا بالحصول على مؤسسات تحكمها الأسس والمباديء الديمقراطية , عندما نصوت لمصلحة فوز حزب لا يتعاطى الفعل الديمقراطي داخل أروقة مؤسساته التنظيمية , و يقبع رئيسه أو أمينه العام خمسين عاماً في مقعده دون أن يسمح بالبديل الديمقراطي إلا في حالة واحدة , ألا وهي (الموت) , وهذه الأحزاب التي نقصدها هي تلك التي قادها كل من السيدين و الراحلين الترابي ونقد , وهي خير مثال لما نقول.
و المعضلة الأكبر التي ظلت ماثلة في علاقة العسكر و بعض (الأحزاب الكبيرة) , ذلك التآمر المعهود الذي تمارسه باستمرار هذه الأحزاب مع جميع مجالس قيادات الانقلابات العسكرية , التي تنقض على أنظمة الحكم الديمقراطي (فاطمة السمحة) التي يبشرون بها قواعدهم الجماهيرية , ويلقنونها لاتباعهم في الندوات والمحاضرات , فانقلاب مايو قامت بتدبيره وتنفيذه ومساندته واحدة من هذه الأحزاب , وكذا انقلاب العميد عمر حسن البشير , وفي أيامنا هذه نرى و نشاهد ذات الدعــــارة والمسافحة السياسية , التي امتهنتها هذه الأحزاب ومارستها مع العسكر في سالف الأزمان , نراها تعود من جديد لتجعل نفس الأحزاب تتهيء لحرق أبخرة (بوخة المرقة) لتخطب ود المجلس العسكري كعادتها , غير عابئة بطموحات وأشواق جيل شباب (الصبّة).
و جماعة قوى إعلان الحرية و التغيير هي الأخرى لم تبرأ من مرض مداهنة العسكر , ولم تقدر على مقاومة الانصياع لسطوة حملة الأنواط و النياشين الحربية , وذلك بقبولها الجلوس للتفاوض مع هذا المجلس العسكري من منطلق دوني , ومع ذلك الكيان الذي لا يمتاز عنها بشيء قد وجدناها منحته روح المبادرة , فاصبح يعلن متى تبدأ جلسات التفاوض و أمسى هو الذي يذيع خبر توقيت إغلاقها , ممسكاً بمفاتيح أبواب غرف اجتماعات قاعة الصداقة , وضاعت نصائح الصحفي الذكي و الحصيف (عثمان ميرغني) فأصبحت غباراً تذروه الرياح , تلك الوصايا التي كانت ستجبر المجلس العسكري على القبول بالجلوس والتفاوض مع هذه القوى الثورية , تحت ظلال خيام المعتصمين أمام ميدان قيادة الجيش , في حال عملت بها وبتوجيهات هذا الصحفي النحرير.
تجدني أسخر من اولئك الساسة والفنانيين و المثقفين الذين يستخفون بالمقدرات العقلية للعسكر , ويتهكمون عليهم برسوماتهم الكاريكاتيرية و تغريداتهم التويترية , وهذه السخرية التي تنتابني نابعة من أن الدلائل البائنة في سباق شئون السلطة و الحكم , تؤكد على أن النميري الذي وصفناه (بطيش حنتوب) , قد قاد جيشاً من حملة الدكتوراه على مدى ستة عشر عاماً , وأن العميد عمر حسن الذي قال عنه شيخه الراحل أنه متواضع القدرات , قد لعب بعقل ذات الشيخ العرّاب وضحك عليه , و استخدم مجموعة تلامذته الاكاديميين الذين كان يفاخر بهم لتمكينه من السلطة , الحواريين الذين وصفهم العرّاب بأنهم صفوة خريجي الجامعات السودانية و الأجنبية , وخوفي أن يقود جحافل هؤلاء (البروفسيرات) وللمرة الرابعة ولعدد من السنين القادمة , هذا الشاب البدوي العبقري المشبع بروح الفراسة والفروسية و المغامرة.
ومن أهم العوامل التي سوف تخصم من رصيد قوى اعلان الحرية و التغيير , تلك المماحكات الاقاصائية الضارة التي تقوم بها بعض مكوناتها , فعندما يتم ابعاد و محاربة الناشطين و الصحفيين و الإعلاميين الفاعلين , الذين لهم دورهم البائن في الحراك الشعبي الذي كلل بانبلاج فجر الخلاص في الحادي عشر من أبريل , و الذي قدم فيه الجميع النفيس و الغالي من الدماء , اليساري منهم واليميني والغير مؤدلج.
الوقت هو الفيصل في جميع محصلات الأنشطة و نتائج الممارسات الانسانية , والملاحظ أنه ومع مرور الوقت يفقد هذا الجسم الممثل للثوار الصادقين , مساحات أكبر من أراضيه المحررة داخل قلوب السودانيين , في خضم صراعه مع السلطة العسكرية الانتقالية , و في ذات الوقت تتمدد هذه السلطة الانتقالية خارجياً عبر تمثيلها للسودان في المحافل الاقليمية , وكسبها لاعتراف هذه المحافل , وتنبسط داخلياً عبر إمساكها بملف الفعاليات الشعبية من إدارات أهلية , و جماعات وطوائف دينية مورس بحقها الاقصاء من قبل قوى اعلان الحرية , ففي الوقت الذي يتقوقع فيه تحالف التغيير أمام مساحة تقدر ببضع من عشرات الأمتار المربعة , يتمدد العسكر شعبياً في مدن و أقاليم السودان الأخرى , مستخدمين أجهزة الدولة في ذلك.
فالحل ليس في (البل) كما تقول المقولة الشعبية المراهقة , وإنما يكمن في أن تتخلص قوى الحرية و التغيير من العقلية الاقصائية , و أن لا تضيع جهدها الاعلامي في مطاردة ذي النون و نائب رئيس المجلس العسكري , و أن تعمل على استقطاب جميع قطاعات وفئات المجتمع السوداني و أقاليمه , لأن السودن لا يمثله المعتصمون أمام قيادة الجيش وحدهم , وهو كذلك ليس بالضرورة يتمثل في هذه المدن الثلاث وحدها.
إسماعيل عبد الله