شؤون السياسة السودانية وامورها عجيبة، فمنذ أن استقلت البلاد ونالت حكمها الوطني، وُجد من لا يؤمنون بحقيقة هذا الاستقلال، ويستدل المشككون بالخروج الآمن للبريطانيين دون مقاومة تذكر، من غير أن يكلف اصحاب هذا الاعتقاد انفسهم جهد البحث والتنقيح، والحفر في ارضية تأسيس نادي الخريجين الذي خرّج نخبة من الأفندية، مارسوا الكفاح المدني الذي افضي الى انزال علم التاج البريطاني، وحتى يوم الناس هذا يقود العمل العام في بلادنا فريقان، فريق يعمل علانية ويشحذ الهمة الوطنية ويكاشف الناس بما يجيش في صدره، وفريق ثان يمسك بالمقود العملي الذي يسير به دفة الحكم، وهذا الفريق الثاني هو المؤسسة العسكرية المتوالدة من رحمها المؤسسات الأمنية السرية والظاهرة، المتمظهرة في شكل قوات احتياط موازية بمختلف مسمياتها عبر الحقب التالية ليوم رفع العلم، وما بين تبادل التهم بين المؤيدين للفريق الظاهر والمناصرين للفريق الباطن يتوه المراقب للشأن العام، لكن يظل المؤشر الأكثر وضوحاً هو أن قوة دفاع السودان اللبنة الأولى للمؤسسة العسكرية هي من ظلت تحدد تفاصيل المشهد السياسي على الدوام، لذلك حرصت جميع الاحزاب من وقت مبكر على زرع كادرها بهذه المؤسسة الاستراتيجية، بل اصبح طموح المتمردين على مر الحكومات الحرص على دمج منسوبيهم داخل هذا الصرح الفاعل.
نظام الحكم في السودان شبيه برصيفه المصري في النشأة والتطور والتصميم، ويكاد المرأ يجزم بأن مستعمر البلدين لن يغمض له جفن لو استشعر خطر مداهمة القوى المدنية لهاتين المؤسستين في البلدين، على الرغم من أن المستعمر في دولته الحديثة قدم انموذجاً فريداً للحكم الديمقراطي المدني المسنود بتشريف التاج الملكي (ديمقراطية وست منستر)، لكن للضرورات احكام في كثير من الاحايين مثل الضرورة التي اقنعت الولايات المتحدة الامريكية، بأن تعقد صفقة مع الجماعة المتطرفة بافغانستان، فالغرب يستمتع بديمقراطيته النبيلة لذاته ولا يكترث لسكان الاراضي الذين تكتنز بواطن ارضهم بالذهب الاحمر والاسود والفضة البيضاء، فيستأمن اشرار الشعوب على مصالحه المدفونة تحت ترابهم، لمعرفته المسبقة بأن الوطنيين الخُلّص ليس لهم من وجود، وإن وجدوا فانهم لا يخدمون اجنداته فيتخلص منهم، وجرائمه النكراء في هذا الخضم لا تحصى ولا تعد، منها على سبيل المثال لا الحصر تذويب جثمان الثائر الكونقولي لوممبا داخل حوض مليء بحمض الكبريتيك المركّز، واغتيال الرئيس البوركيني الأسبق توماس سانكارا واعدام الرئيس العراقي وخوزقة الزعيم الليبي وتدمير دولته، ان عظائم الامور مخفيّة تحت ركام ورثة العروش القديمة وسدنة المصالح الامبريالية.
الصراع المحتدم قاب قوسين او ادنى من الوصول الى ذروته، بين المؤسسة السيادية المسيطر عليها من لجنة الدكتاتور الأمنية، والمؤسسة التنفيذية مهيضة الجناح المدعومة من بعض اصحاب النوايا الطيبة، سيصل الصراع لهذه الذروة بعد ان اجمع رموز المؤسسة المدنية على تسليم رأس النظام (البائد) للمحكمة الجنائة الدولية، وهنا تحضرني مقولة احد اعضاء اللجنة الأمنية (لن نُسلّم الرئيس) الحاسمة والحازمة والجازمة، قبل أن يختفي هذا العضو من المشهد بطلب ثوري حاشد هتف باسمه رمز شهير من رموز لجنة التفكيك، اختفاء ذلك العضو الأمني لا يعني أن العهد الذي قطعه اتباع المخلوع من الاصوليين قد اختفى مع اختفائه داخل دهاليز التصنيع الحربي، المتعصبون والمتشددون الأمنيون المناصرين للطاغية يمارسون البيات الشتوي والاختباء تحت اجنحة الظلام، ومع هذا الرفض الباطن والظاهر لانصار المخلوع ارتفعت كذلك الاصوات الجهوية المتماهية مع عزم البائدين في عدم التسليم، رأت هذه الاصوات أن القضية الجوهرية التي وضعت الرئيس المعزول على قائمة المطلوبين للعدالة، قد تصافح وتسامح طرفاها في جوبا بمن فيهما الطرف الذي كان يمثل يد الدكتاتور الباطشة، لذلك انطلقت هذه الحملة الجهوية الجديدة الداعية لتحقيق العدالة الكاملة غير المنقوصة بتسليم جميع المطلوبين الواردة اسماءهم بقائمة الخمسين.
تسليم الدكتاتور للمحكمة الجنائية الدولية بمثابة القشة التي سوف تقصم ظهر بعير الفترة الانتقالية، لتعيد الحكم العسكري مرة اخرى مدعوماً بشركاء جدد تسلقوا شجرة الثورة وخطفوا ثمارها مع الخاطفين، انشغال النخبة المدنية التي اعقبت مؤتمر الخريجين بصراعاتها البينية الطائفية والأيدلوجية أخّر الوصول لتحقيق الدولة والحكومة المدنية الكاملة الدسم، فالصراع العسكرومدني لم يبدأ مع فض اعتصام القيادة العامة، إنه صراع قديم متجدد يتشكل ويتلون وحواضنه الاجتماعية والمؤسساتية موجودة بامراضها القديمة.
استمرار المناصرة العالمية والمحلية التي حظي بها رأس الانتقال المدني مقترن بكبح جماح الناشطين في السر، اولئك المستمدين شرعيتهم وقوتهم من أنهم أمنوا العقاب ولديهم المعرفة اللصيقة ببيانات الملفات الامنية والاقتصادية المركونة في اضابير المكتب القديم، فالاحلال الفوقي لبعض رموز الثورة لا يضمن العبور والانتصار.
إسماعيل عبدالله
4 سبتمبر 2021