تتصاعد فينا رغبة التغير فى السودان والشعوب من حولنا يتفاعلون معنا سلباً و إيجاباً حسب سريان الأوضاع . لكن حظوظنا فى الخيبة اكبر من النجاح بسبب عنصر فعّال ظل يتدخل في إحباط الديمقراطية، وَهُو عنصر الأجهزة الأمنية التي تبذل قصارى جهدها لإعاقة الأحزاب السياسية من إعادة هيكلتها لضمان إرساء قواعد الديمقراطية فى مؤسساتها.
بالنظر إلى التاريخ وإرجاع البصر كرتين ، نجد السلطة العسكرية الأمنية الشمولية، علي مدي ستين سنة أو ما يزيد من عمر الاستقلال هى سبب الصراعات الداخلية التي أقعدت البلاد وكلما زادت حدتها تزايد الوعى فى الهامش .إلا أن المعارضة الحزبية ظلت تخفي تشخيص العلة التي تنهش بجسد الوطن ، القادة السياسيون يهربون إلى الأمام من مطلب اعادة هيكلة الدولة و خاصة من اَي مطلب يمس بأجهزتها الأمنية .وفي سر الهروب يكمن المرض .
المنظومة التي عشعشت في الضباب الثقافي المائع تشكلت بحكم تفاعلات اجتماعية عبر التاريخ ، تري أمنها في حضن هذه الأجهزة التي تحمل اسماً لمؤسسات (الأمن الوطني) زوراً ، تتميز عناصرها القيادية من أبناء ذات المجتمع الثقافي وتتم تزكيتهم الي الكليات و المعاهد الأمنية بعناية فائقة تحت تستر بالوطنية . يتفاضلون على عامة السودانيين بإدعائهم بسحنات أهل صحراء التهامة بالرغم من انها كادت أن تذوب إلى درجة الفناء بفعل غلبة الدماء الحامية، العلاقة بين الدولة و هذه المؤسسة أصبحت عضوية قد يصعب فصلها الا بحدوث تغير جذري يؤسس الدولة السودانية.
الأمن في السودان لم يكن سوي حامي مصالح المنظومة التي تشكلت كالفطر عبر سنين في جميع مفاصل الدولة ، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني و مراكز الدراسات و احزابها السياسية في كل من المعارضة و الحكومة . القاسم المشترك هو الحفاظ على السياسة الانتقائية.
مواقف المعارضة السلمية عبر التاريخ تنحصر في مطالبة بذهاب المجموعة الحاكمة دون إجراء اَي تغيير آخر في الهياكل
ولم تنجح جميع تجارب الديمقراطية على مدى فترة الاستقلال. حين تشتد المنافسة السياسية في جو ديمقراطي تتدخل المؤسسات الامنية و خاصة القوات المسلحة لتعطيل الديمقراطية بغرض الحفاظ على المنظومة من الانهيار عبر ممارسة حق الأغلبية .
في 1976 بعد دخول المعارضة المكونة من الأحزاب التقليدية والإسلاميين للخرطوم غلب عنصر الانصار المسلح والمصنف عرقيا و جهوياً الي أقاليم بعينها ومجتمعات الهامش فتزايدت المخاوف من عواقب غير محسوبة في المستقبل، فتآمرت الأحزاب السياسية التي تقود المعارضة في إفشال خطة سقوط النميري رغبةً في بقاء مؤسسة القوات المسلحة التي يقودها ضباط تجمع بهم السكن وغرف الطعام و حسابات بنكية .
فانتهى الأمر إلى تأسيس حزب شمولي ضم المعارضة و الحكومة معاً بعد تصفية بلهاء الثورة في عملية سماها النميري بغزو المرتزقة اما القادة ما زالوا أحياء يقاسمون معنا الحياة فى الوطن .
فى نفس المنحى انتهت معارضة أخرى تأسست ضد الإنقاذ في بدايات التسعينات من القرن الماضي شملت كتلة كبيرة من الأحزاب قادت الى خواتيم تمثيلية تميزت بثلاثة وقائع غيرت مجرى التاريخ إلى الأبد : الواقع الأول هو تقسيم السودان الى شعبين ووطنين حسب رغبة الخرطوم توطئة لتعزيز أمن مصالحها بإبعاد الجنوبيين الذين تقف افريقيا و الكنيسة وراء قضاياهم .
الواقع الثاني هو ، إستياء الجنوبيين من العيش مع الأغلبية المسلمة المتماهية الهوية و المغلوبة علي أمر تفكيرها في تحديد واقع افريقتها إثنيا و جغرافيا .
هذا نقرأه في تصريح الرئيس سلفا كير قبيل الاستفتاء بأسابيع فى مضمون يقول فيه انه يرى الشماليين يحكمون السودان بالشريعة الإسلامية حتى ولو حكمه الشيوعيون ، قول يدلّ على الاستياء .
الواقع الثالث و الأخير هو ، ارتياح نسبي للمنظومة الحاكمة بنجاحها في تقليل الضغوط الأفريقية عليها بعد ذهاب الجنوب و إنفتاح مجاني للطموح العربي . بجانب عودة الحزب الاتحادي الديمقراطي برئاسة مولانا الميرغني الذي كان يتزعم المعارضة إلى حظيرة المنظومة إلى الأبد تاركاً شعاره ( سلم تسلم ) بعد أن بذل النظام كل الجهد في الاغراء والوعيد بتلفيق التهم من شاكلة النجاسة و الكفر و الارتزاق باليهودية و ابتزازه بتحريض قواعد الختمية والاتحاديين .
نكته حكاها لِي احد الزعماء البارزين ومحبي الطرفه في التجمع ، يقول فيها ، بعد دخول التجمع في كسلا بمباركة كريمة من مولانا قد هاج النظام كعادته و بدا في تحريض مواطنى الشرق الذين يغلب فيهم عضوية حزبه الاتحادي و طريقته الختمية ، فبدأ النظام يعرض صوراً مزورة لمصاحف ممزقة على شاشات تلفزيون و قصص اغتيالات و اغتصابات حُبكت بعناية ضد مولانا باعتباره زعيم الهجوم . فإنهك النظام مولانا بتلك الدعايات الكاذبة أفتقدت قدرته على مقاومة ذلك الهجوم الشرس ، فإذا به فاجأنا بتصريح يدين فيه الهجوم علي كسلا المقدسة باشد واغلظ عبارات الادانة . ( قائد الهجوم يدين الهجوم ).
قصة أخرى ، وكنتُ أحد شهودها، حدثت بعد انضمامنا الى التحالف الوطني الديمقراطي في مارس 2004. بعد فترة من هذا التاريخ و بالتحديد في أكتوبر 2004 كنّا في اسمرا اثناء انعقاد اجتماع المكتب التنفيذي للتحالف الوطني الديمقراطي، كنّا الاستاذ عبدالواحد نور وانا لأول مرة نحضر اجتماعات التحالف ، أثناء انعقاد الجلسات حصلت مجازر في جنوب دارفور ، فى العسلاية و غيرها من مناطق في جنوب سكة الحديد . قمنا بمطالبة تضمين إدانة في البيان الختامي تضامنا مع الضحايا . إلا ان الإصرار على الرفض كان سيد الموقف من بعض كبار التحالف و الصمت القاتل من البعض الآخر ، هذا المد و الجزر قد تسبب في تأخير صدور البيان الختامي لاكثر من يومين . في اليوم الأخير كنّا مسافرين نحن الثلاثة ، عبدالواحد و الدكتور شريف حرير و أنا إلى جنيف لحضور مؤتمراً للمنظمات الانسانية التي قررت العمل في دارفور مستفيدين من اتفاق وقف إطلاق النار الإنساني في ابريل 2004 وقد شهد المؤتمر حضوراً من الدول المانحة .
بعد ان حان زمن المغادرة قمنا بتفويض محمد يوسف مرسال و احمد عبدالشافع في لجنة الصياغة للقيام بالمهمة ومنع تمرير البيان دون تضمين نقطة الادانة . لكن الذي حصل كان غريب ، تم استغفال كل اللجنة وتُركت في غرفة مغلقة تناقش في الامر وفى آن كان بجوارها مولانا يتلو بيانه الختامي في قاعة اخرى وهكذا أُغفلت الادانة. وبالرغم من أن التحالف كان تحكمه وثيقة القضايا المصيرية إلا أن هيمنة المحافظين عَلَيه ظاهرة للعيان .
وفى مشهد آخر كانت في بدايات تكوين الجبهة الثورية الصحف السودانية تطالعنا بتصريحات القوى السياسية المعارضة ، تشبه بأهوال القيامة يصعب للقارئ إدراك السبب من وراء تلك التصريحات وخاصةً حين يُصنف مؤسسوها بالعنصرين ليس لسبب معتبر إنما لغلبة عدد (القطاطى ) علي ابنية (الجالوس) .
و اقل ما وصفت فينا من النعوت هو التخوين و العمالة ضد الوطن ، بعضهم زادوا الكيل الي درجة النكران بسودانيتنا .
دائماً تنمو هذه التصريحات في مناخ تنامي حراك إيجابي للمعارضة ذات بعد و انتماءات الأقاليم الطرفية لهو دليل اخر ان الحواجز الداخلية في المعارضة اسبابها مركز و ليست هامش .
و الجبهة الثورية في نظر كثير من الأحزاب ليس الا تجمع المغبونين من الزنوج ( nigers) لغزو الخرطوم . بهذا الاعتبار استمر المفهوم إلى أن أصبح خنجرا مسموما في نحر الجبهة الثورية و الدافع الوحيد لذلك هو نظرية (النقاء العرقي ) مع الاحتفاظ بتفاصيلها المرة الاليمة الي اجل مسمي .
وفي هبة سبتمبر ٢٠١٣ ، ظهرت بعض الخفايا المدفونة مع اشتداد المظاهرات الى درجة تيقن بعض منا أنها بدايةٌ الخلاص ، وسرعان ما تبدلت الرقصة التي كانت تتناسق مع إيقاع ظل يجمعنا وتحولت الجبهة الثورية الى عبارة عن حواجز (partitions ( تتناجى فيها العقارب ذات سم واحد.
في هذه المحطة تحول الاستقطاب لصالح الجبهة الثورية إلى استقطاب تقوم به الأحزاب السياسية الأخرى من داخل الجبهة الثورية
ولو قُدرت للمظاهرات أن تستمر لاسبوع واحد حتماً سيذوب الجليد وتختفي فيه عمالقة الجبال ولا ارغب ذكر أشخاص وإفشاء أسرارهم في الاسافير لحفظ مياه وجوه الرفاق ، لكني لا استبعد بَعضُنَا قد حزّم الأمتعة و توجه إلى أقرب مطارات ولا استثني عنتيبي في هذه التهمة .
تعددت مناطق الرحيل و المقصد واحد هو مطار الخرطوم ، لولا قام النظام باتخاذ خطواته الجبانة التي قضت على الأخضر واليابس قبل النضوج و نسور السلطة كل يعد في بيانه الاول في الوقت الذي تسيل دماء الشباب في شوارع الخرطوم .
مواقف المعارضة كلفتنا صبر كبير لامتصاصها و كذلك كلفت الوطن تكلفة باهظة سمحت للنظام أن يستمر فى نهش عظامه كالسوس. أضفنا في صبرنا جرعات مكثفة لإثبات أننا لا نرمى إلا إلى ما وراء المنظور من الأهداف فمواقفنا شهدت ثباتنا فى القضية بدءً من الفجر الجديد ومروراً بلقاء باريس واتفاق أديس أبابا بين الجبهة الثورية و الاجماع الوطني الي وثيقة نداء السودان التى اجتمعت حولها أغلب القوى السياسية من يسارها ويمينها الأقصى ، إلا أنها كانت قمةً بدأ فيها العد التنازلي طالما المهازل لم تقف مع التزايد في تقارب مواقف أبناء المنظومة الواحدة في النظام و خارجه .
في يناير 2018 بادر الحزب الشيوعي السوداني لوقفة احتجاجية عنوانها رفض ميزانية 2018 فاستجاب الشعب للدعوة . وقد سجلت الحركات حضوراً كثيفاً و شكلوا لوحة بطولية دعماً للوقفة والمظاهرات . والنظام كعادته باغت الشارع وتم اعتقال إعداد كبيرة من القيادات و المجتمع المدني والنشطاء بغيةً تجفيف الشارع من النشاط بسرعة لازمة. كان المواقف المعلن أشرفه هو موقف حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة في رفضهما للجلوس مع الحكومة إلا بعد إطلاق سراح الأصدقاء لنا في بيوت الاشباح التى يديرها أمن النظام .
و بهذا الموقف تدخلت الدول بحجم ألمانيا والمنظمات بحجم الاتحاد الأوروبي ومارست ضغوطاً على النظام فأضطر على إطلاق سراح بعض المعتقلين برغم من ان الطريقة الابتزازية التي نهجتها الحكومة لم ولن ترضى أحداً .
اثناء متابعتنا للوضع السياسي مع الآخرين تقع فاجعة اخرى في تصريحات نُسبت لعمنا الصديق يوسف بعد عودته الحميدة من السجون بفضل هذه الجهود إضافة لجهود أخرى بُذلت من اطراف اخرى .
قال في لقائه المطول بالصحيفة … عندما سُئل عن رؤيته ما بعد الإنقاذ و خاصة الجزئية التي تخص الحركات ، كانت الإجابة قصيرة و سهلة و لم تكلفه جهدا في التفكير مما يدل انها مترسخة في عمق العقل الباطنى وهي ، “ديل ما منهم خوف ، ديل يتم تسريحهم “.
أما الحكومة القادمة في نظره ، هي حكومة وطنية على غرار الإنقاذ الوطني اوالمؤتمر الوطني . طبعا خالية من الحركات بعد تجريدها . الرجل ربما تحركه ذاكرته وفق تجارب خاضها فى حياته السياسية وأشهرها أكتوبر وابريل اللتان شكلتا نقطة ضياع للجهد الشعبي بعد ان انتهت بتعديل النظام باحتفاظ النسخ الكربون(Carbon copies) كامل الدسم دون حصول علي اَي تغيير في هيكلة المؤسسات و لا في بنية الدولة الاساسية .
رغم إنهما ثورات شعبية لا غبار عليهما لكنهما تنقصهما وعي شارع الْيَوْم الذى أنتجته تجارب المأساة مما يصعب للآخرين قبول الخم ولو على مضض .
فالثورة القادمة تحتاج لتثبيت المرآة على وضعية التى يمكن ان تعكس وجوه السودان جميعها قبل تنفيذ حملات تجريدية . وليس من يسر استخدام مستحضرات التجميل التقليدية بإخفاء التصدعات بسبب كدمات الدهر .
فالثورة حتمية طالما أسبابها تسكن في كل بيت سوداني، النظام وحده يوفر و يصنع تلك الأسباب علي مدي عمر حكمه لذلك لسنا في حاجة لتسرع في استغلال طاقات الشارع كما اعتدنا عليها في مثل هذه التصريحات والإعلان علي وثيقة الخلاص الوطني جنبا الي جنب مع تحالف آخر اسمه تحالف قوى المعارضة ضمت عدد من مكونات نداء السودان بِمَا يوحي ان البعض في نداء السودان يفضلون تجاوز هذه المحطة التى تجمعهم بالحركات المسلحة الشوكية ، ظناً منهم أن ذلك يمكنهم من قطف ثمار الشارع لتحقيق الامرين ؛ الاول هو استباق اخوة الامس من الحركات عبر اطلاق دعوة وضع السلاح بمقابل مجهول والأمر الثاني هو التغلب علي النظام باستغلال طاقة الشارع المنهمر بالجياع ، يتناسون تلك التجارب العبثية التي أجهضت الثورات في مهدها بعدم تنسيق المواقف وكثرة التناحر بالالسن. عادةً النظام يستغل أية ثغرة تفتحها المعارضة ليعيد الحيوية مستفيداً من الخلافات ، خاصةً حين ينعدم الخيار امامه ، يستخدم أسلوبه الأخير هو ( في سبيل البقاء ، الغاية تبرر الوسيلة ) .
الشروط التعجيزية لبناء المجتمع لم تكن في يد الحركات إنما توجد في الطرف الآخر من طاولة الحوار سواء كان النظام أو المعارضة من أجل الحفاظ على مؤسسة الظلم التي تفرض وجوب الدفاع عن النفس و المال و العرض في دولة الدم و الدموع . إذا صلحت النفوس لا يصعب ان نتغلب علي نقاط ضعفنا التي تعيق صناعة دولة عظمى يحكمها القانون ويتساوي أبنائها في الحقوق و الواجبات بحكم المواطنة. قضاياها واضحة و قُتلت بحثاً في الوصف وكيفية المعالجة معاً وتراكم لها إرث أدبي نحن في غنى عن بحوث جديدة لمعرفة الأسباب.
الوثائق ذات الصلة بازمة السودان كثيرة ولكن أعظمها وثيقة اعادة هيكلة الدولة التي باركها من بين الأحزاب ، الحزب الشيوعي السوداني العتيق الذي ينتمى اليه صاحب التصريح العجيب . ” والسيف أصدق أنباء من الكتب” كما قاله الشاعر ، وسيف الفجر الجديد أكد موقف الحركات عن الأجهزة الأمنية . فالوثيقة تعتبر إحدى أهم محطات التاريخ السوداني تلتقي فيها الأضداد والأنداد خصوصاً بَعْد أن رفعت الاقلام وجفت الصحف و قلم السيد صديق يوسف حاضر بكامل إرادة صاحبه الحكيم الغنى عن التجارب والتى جعلته يحتل موقع الأبوية للجميع الذين دعوا له بطول العمر لخدمة القضية السودانية و سنظل ندعو له ولأنفسنا.
حياتى البدوية القروية تعيد الى ذاكرتى أمثال من الطبيعة على شاكلة (( فلان حرق جُدله قبل الشتاء))
الجُدل بضم الجيم (( تُولُقؤ )) باللغة المحلية للذين يفهمون الكلمَة بين القوسين ، تعني كتلة حطب من فرع او ساق شجرة يابسة . عادةً ، مرمية في العراء . نجد نفس الكلمة في المثل الشائع ، المسكين جُدلاي الدرب . اَي المسكين لا يثير انتباهة المارة مثله مثل كتلة الحطب المرمية في قارع الطريق .
المثل يقال للذي يستنفد طاقاته في أشياء ثانوية ليست لها قيمة ، اويستنفدها قبل مجيء لحظة الضرورة ، كالذي يستهلك وقود التدفئة قبل موسم الشتاء، ويفتقد في زمن الحاجة ما يقي به من البرد .
فى السياق السياسي هنا يقصد به حرق الاواصر البينية وتشتيت الأيدي التي ظلت تتكاتف مع بعضها عندما يتحدث النظام وبعض أحزاب المعارضة بلغة واحدة تجاه الحركات ، وهنا يكمن التناقض .
جرت العادة في السودان ، من يعمل على حرمان الأقاليم من حقوقها السياسية يختبئ في تشويه الحركات في محاولة لدفاع عن الأجهزة القائمة التي لم يسلم منها الوطن و المواطن .
معارضة النظام بدوافع الغيّرة على السلطة فقط دون وضع الاعتبار لمنطلقات الاختلال الحقيقي في السودان لا قيمة لها ، لان حتماً تلتقى مصالح النظام بمصالح اخواتها فى المعارضة وتسبب ضياعاً في حقوق الآخرين . لذلك الواضح ما فاضح بكلام سوداني .
هناك طرفة ُتنسب الي احد شباب الأردن يقترح ساخراً للحزب الشيوعي الأردني ان يضاف اليه الهاشمي إشارة إلى تقارب مواقف الحزب بمواقف الملك .
ذات الموقف ، ينطبق علي تصريحات القوة السياسية في قضايا الأقاليم التي عجزت فيها نيران الشمولية إحراقها و نسفها و المبدأ الذي يؤسس على بقاء هذه المؤسسات الامنية بهكذا الحال ، هو مبدأ المشاركة في الجريمة و تبديد نضال المصير المشترك ، ربما تؤدي إلى تركيز اهدافنا في إزاحة النظام فقط وتتحول إلى تكتيكات أشبه بوحدة الذئاب والأسود في لحظة الْجُوع سرعان ما يفسدها الغدر حال سقوط الفريسة في الارض .
الثوابت التي لا يمكن اسقاطها بالتقادم حتى ولو ذهب النظام هي أولها ، إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية عبر ترتيبات أمنية وطنية شاملة من شأنها تُحيّد كل الأجهزة الامنية بعيدة عن شئون السياسة و إفساح المجال للعمل السياسي يحفظ للمحرومين ممارسة دورهم الطبيعي وصون الديمقراطية بروح جديدة تدفع بالسودان الى التقدم والازدهار.
ثانيا ، دستور يعلو ولا يعلى عليه تنبثق منه قوانين لتنظيم حياة الناس وحفظ حقوقهم بعيدة عن الاعتداءات الجشعة التي اعتادت إليها السودان في ظل الحكومات الوطنية .
ثالثا ، اتفاق علي صيغة التي توحد السودان شعباً ، أرضاً و ثقافةً بعيدة عن الوحدة القهرية التى أدت إلى ذهاب جزء عزيز علينا.
رابعاً ، وضع حقوق الأقاليم التاريخية في حالة حل دائم بنص دستوري وطني يُتفق عليه ومعالجة الآثار التي نجمت عن الحرب.
خامسا، مخاطبة جادة و حلول دائمة للاجئين والنازحين ، في عودتهم ، إعادة اعتبارهم ، تكريمهم في تعويض نفسي و مادي وإعادة تأهيل حياتهم كاملة بتوفير مؤسسات خدمية فاعلة .
سادسا ، حل مشكلة الارض الي الأبد مع وضع الاعتبار جميع الحقوق التاريخية لمن يستحقونها واعتبار الانتفاع لمن سقط عن الحيازة التاريخية .
سابعاً، تبني هوية سودانية منبعها إرادة أهل السودان من دون القهر و الإكراه تزيل اثار الأحادية المفروضة استمرت طوال عهد الاستقلال .
إضافة لقضايا اخرى هي حية في متناول الخلاف السياسي ، لكن أعظمها الأجهزة الأمنية التي تنقسم إلى مؤسستين أولها مؤسسة القادة ( الضباط ) ممنوع الاقتراب منها وخاصة للذى ينحدر من الأقاليم الطرفية وأصول أفريقية خالصة. هذه المؤسسة تشكل ركيزة أساسية فى تأمين علي استمرار الوضع الراهن القائم على العنصرية القومية و التعالي الثقافي العرقي .
ثانيهما و هي مؤسسة آلتُبّع (الجنود ) وهم يشكلون أدوات ينُفذ عبرهم كل الخبيث الكريه بعد سلب إرادتهم تحت غطاء تدريبات حماية الوطن ، عادةً يتم تجنيدهم من العامة الناس دون تمييز ، طالما لا ينافسون في المواقع القيادية او الفنية بحكم تدرّجهم المحدود في الرتب العُليا، أصحاب الفرص الذهبية فى الجاه والثروة.
بناءاً على هذا الأساس المخل يصعب لهذه الدولة ان يتم تحول ديمقراطي حقيقي إلا بإزاحة السياج الذي يمنع لذلك وهو الأجهزة الأمنية . لن تنجح أية عملية سياسية تجتمع عليها أهل السودان ما لم تكون هناك هيكلة كاملة للدولة وعلى رأسها المؤسسة الأمنية التى تحولت الى ((مليشيات )).
عند إطلاق مفردة مليشيات ، تعود مخيلة المستمع الي النمط المألوف الذي عُرف به في عهد الإنقاذ مكوناته . جنجويد ، حرس الحدود ، الدعم السريع ، الشرطة الظاعنة ، ابوطيرة ، الفرسان ، المجاهدون ، الدفاع الشعبي وغيرها من أدوات القمع . لكن الأمر يختلف في حق الوطن حين تفتقد اجهزته الامنية الحيادية طوال ستة عقود و نيف لا يمكن إختفاء أسباب حمل السلاح للذين صار مقامهم وراء أسوار الحظ العظيم .
اختتم كلماتي برسالة قصيرة عبارة عن مثل من قصص الطبيعة أرسلها للذين يطالبون تجريدنا من السلاح بمقابل المجهول،
يقال ، كان الإنسان يعيش جنبا الي جنب مع الثعلب قبل وقوعه في غدر صديقه الماكر .
كان للثعلب جراء صغار وللإنسان ( تيساً ) سميناً ذَى قرنين طويلين وحاديين . في يوم من الأيام نفد زادهم من الماء و كان الدور للانسان وعليه أن يسافر مسافة بعيدة بورود الماء ، تاركاً تيسه مع الصديق الثعلب لحين العودة . قبيل المغادرة تقدم الثعلب للانسان بطلب غريب . بقوله له اريد منك يا صديقي الانسان تهشيم قرون تيسك المخيفة قبل مغادرتك لأنه يخيف بها أطفالي الصغار و ربما تُفقع عيونهم بها .رد الانسان مندهشاً من طلب صديقه الغريب سائلاً كيف يدافع عنك تيس بلا قرون اذا وقع عليه هجوم في غيابي ؟
رد الثعلب قائلا ، علي شاكلة اجابة عمنا المهندس صديق يوسف ، لا لا ما تخاف علينا ، اطمئن يا صديقي الانسان ، نحن ما تجينا حاجة و أنا كمان ما جوعان عشان أكله .
صدق الإنسان فنفذ مطلب الصديق لكنه خاب ظنه بعد عودته فقد وجد تيسه أُكل. وهكذا بدأت الخصومة بين الثعلب و الانسان من الْيَوْمَ الذي أُكل التيس.
لانجاح المهمة الوطنية وخلق الاستقرار الدائم وتوفير مناخ ديمقراطي يجب علينا الجميع معرفة مخاوف الآخر قبل المعرفة ما يفرحه .
الشيطان في الأجهزة الامنية لكننا نطعن في ظله.
بقلم منى اركو مناوى
25/02/2018