بقلم: علي صالح
تطالعنا هذه الأيام أخبار مجموعة مرتزقة فاغنر الروسية، وهي منظمة عسكرية تابعة للمخابرات الروسية بشكل غير رسمي، ويتم تكليفها بتنفيذ الأعمال القذرة والإغتيالات والأنشطة التي لا يريد الجيش الروسي التورّط فيها صراحة، أنشأها ضابط سابق في الإستخبارات الروسية، يدعى ديمتري أوتكينوكانو، وهو الذي يطلق عليه لقب “فاغنر”، وقوامها من ضباط وجنود سابقين شاركوا في حروب روسية سابقة، مثل غزو أفغانستان، وحرب الشيشان، أو غزو جورجيا والقرم، كما لا يخفى على الجميع تدخل مجموعة المرتزقة هذه في جمهورية أفريقيا الوسطى وإرتكابها لأبشع عمليات القتل بحق المدنيين والمسلمين في ذلك البلد الأفريقي ما إعتبرته الأمم المتحدة إنتهاكاً للقانون الدولي والإنساني، بعد مذبحة مسجد بامباري ومقتل عشرات من المسلمين هناك مما حدا بالمنظمة الدولية بتصنيف الإنتهاكات التي إرتكبها مرتزقة الفاغنر بحق المدنيين ترقى إلى “جرائم حرب، كما لا يخفى على الجميع دور مرتزقة فاغنر في دعم بشار الأسد ونظامه في سورية وقتل وتعذيب المدنيين هناك، وكذلك دور هذه المجموعة في القتال الى جانب قوات المشير خليفة في ليبيا والتورط في إنتهاكات حقوق الإنسان الليبي بدعوى محاربة المتطرفين، وفي بداية العام الماضي، كانت هناك قضية مثارة في الإعلام الدولي عن إغتيال فاغنر الروسية ثلاثة صحافيين، كانوا يعدّون تقارير صحافية عن امتداد نشاط المجموعة في ليبيا، لخدمة الأهداف التوسعية الروسية، وتحقيق الرغبة القديمة في وجود منفذٍ على ساحل المتوسط.
ومرتزقة الفاغنر هي مجموعة مسلحة، ولكنها أيضا لها أفراد يعملون تحت غطاء مدني وذلك لإبعاد شبهات الجاسوسية والعمل لصالح المجموعة، ويتستر هؤلاء الأفراد تحت غطاء مؤسسات بحثية أو إعلامية أو مراكز دراسات وبحوث ، ويساعد هؤلاء الجواسيس المرتزقة شركات تجارية تتبع جميعها لفاغنر وتسهل مهامهم بتقديم الدعم اللوجستي والمالي.
في آواخر العام 2019 قررت الفاغنر إرسال أحد أخطر أفرادها الى السودان في مهمة مستعجلة عقب الإطاحة بنظام المخلوع عمر البشير الذي كان يجد كل الدعم من روسيا، لكن الثورة التي أطاحت بنظام البشير جعلت الفاغنر تقرر إرسال رجلها مكسيم شوغالي الى ليبيا بدلاً عن السودان.
مكسيم شوغالي هو أحد افراد هذه المجموعة، وهو الرئيس المباشر لمؤسسة حماية القيم الوطنية الروسية، والباحث أيضا في منظمة افريك وهي منظمة يديرها رجل الأعمال الروسي، رئيس شركة فاغنر يفغيني بريغوجين، وهي منظمة متخصصة في التلاعب والتدخل في الإنتخابات في الدول، وترتبط هذه المنظمة بوكالة أبحاث الإنترنت التي تعود لـ بريغوجين نفسه الملقب بـ”طباخ الرئيس” بوتين، و عملت هذه الشبكة الإعلامية المضللة على التدخل والتأثير في الإنتخابات في العديد من الدول من بينها انتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016 وإنتخابات مدغشقر في العام 2018 ، وإلإنتخابات في جنوب أفريقيا وتشويه سمعة المنافسين، بل وحتى عملت على محاولة التدخل والتأثير على الناخبين في الانتخابات البرلمانية في الإمبراطورية العظمى (المملكة المتحدة) في عام 2019.
قررت الفاغنر إرسال شوغالي في مهمة مستعجلة عقب الإطاحة بنظام المخلوع عمر البشير الذي كان يجد كل الدعم من روسيا، بل ويستنجد بها كلما ثار عليه الشعب، و في المقابل كانت روسيا تهرع الى حماية حليفها الإستراتيجي المخلوع وتقدم له المزيد من العون المادي بيدها اليمنى، ولكن في ذات التوقيت كانت يد الشركات الروسية اليسرى تنهب الثروات والمعادن في شرق وشمال السودان بعد ما قدم لها المخلوع الكثير من التسهيلات، عقب اللقاء الشهير الذي جمع المخلوع البشير بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في منتجع سوتشي الروسي على ضفاف البحر الأسود في العام 2017، وإشترط الأخير موافقة حكومة السودان على التصديق بمنحه قاعدة فلامنغو على سواحل البحر الأحمر شمالي مدينة بورتسودان كمقر لبناء القاعدة العسكرية الروسية مقابل مساعدة روسيا تقديم الحماية وقمع المظاهرات الإحتجاجية عبر مرتزقة فاغنر، وبالفعل وقع الطرفان على إتفاق بمنح روسيا حق إستخدام السواحل السودانية وبناء القاعدة العسكرية الروسية، وإستفادة روسيا من السواحل السودانية لفترة تصل الى خمسة وعشرون عاماً، لكن الطاولة إنقلبت على بوتين حينما إندلعت الثورة في السودان وأصبح القرار في يد الحكومة المدنية بالتشاور مع الجناح العسكري في المجلس الإنتقالي الحاكم في السودان.
وبالرغم من وصول العشرات من أفراد البحرية الروسية في أبريل الماضي الى قاعدة فلامنغو البحرية، من بينهم 10 ضباط كانو يقيمون بصفة دائمة في القاعدة، وجلب القوات الروسية لتعزيزات عسكرية شملت منصات إطلاق صواريخ، وناقلات جنود، ونصبت رادارا، بل ومنعت أي قوات أخرى من الإقتراب من مناطق تمركزها بعد أن أصبحت القاعدة مركزاً لوجستياً للبحرية الروسية في السودان يستوعب ما يبلغ 300 جندي وموظف، ويمكنه أن يستوعب سفنا مزودة بتجهيزات نووية.
وبالعودة الى مكسيم شوغالي، وبعد أن فشلت خطة زعيم مرتزقة الفاغنر يفغيني بريغوجين في إرسال الرجل الى الخرطوم، قام بإرساله الى ليبيا في مهمة إستخباراتية، كانت مهمة شوغالي تتمثل في إجراء بحوث استقصائية واستطلاعات رأي في البلد الذي وقع ضحية الميليشيات الإرهابية حينها، لكن السلطات الليبية كانت تعمل على مراقبة شوغالي طيلة الوقت، لا سيما أن الرجل دخل الى البلاد بصفته عالم إجتماع حسب الأوراق الرسمية، ولكنه كان يمارس أعمالاً لا تتوافق مع كونه باحثا إجتماعيا، وبعد إعتقاله تم تفتيش مقر إقامته وتم العثورعلى 50 ألف وثيقة سرية، الى جانب العثور على معلومات في الحواسيب والهواتف الشخصية في غاية السرية، تثبت أن شوغالي عالم الإجتماع الروسي ومترجمه سامر سويفان ما هما إلا جاسوسين يعملا لصالح شركة فاغنر الأمنية للمرتزقة الروس ، وأثبتت التحقيقات أن شوغالي ومجموعته تعمل على التخطيط للتدخل في الانتخابات الليبية التي كان من المزمع إجراؤها لولا تصاعد القتال في ليبيا. وعثرت النيابة الليبية في مقر إقامة شوغالي ومترجمه على أختام رسمية مزورة وذلك لإتمام إجراءات مالية، والكثير من المعلومات وجدت في الوثائق وأجهزة الكمبيوتر وهواتف الجاسوسين، وكان يرافق شوغالي جاسوساً روسياً آخر وهو الكسندروفيتش بروكوفييف، لكنه فر من مسكنه قبل القبض عليه.
وعلى الفور إتهمت الحكومة الليبية شوغالي بالتجسس والعمل لصالح رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوجين و شركته الأمنية الخاصة فاغنر، وقالت النيابة أن شوغالي سبق له أن لعب دوراً مشابهاً في دول أفريقية عدة، ووفق تصريحات الحكومة الليبية، فإن شوغالي عمل خلال وجوده في ليبيا على إرسال تقارير يومية لرؤسائه ركزت على الأوضاع العسكرية والاقتصادية في ليبيا، كما التقى شوغالي سيف القذافي المتهم بارتكاب جرائم حرب في ليبيا، أكثر من مرة”. وأشار بيان الحكومة الى أن الهدف الرئيسي للتجسس هو معرفة امكانية قيام قاعدة عسكرية روسية في ليبيا، والسيطرة على صناعة البترول والغاز الليبي”.
بعد قضاء الجاسوسين الروسيين أكثر من عام ونصف في السجون الليبية، تم ترحيل مكسيم شوغالي ومترجمه سامر سويفان الى موسكو، ولكن بعد أن عرضت شركة فاغنر الروسية دفع 18 مليون روبل روسي (نحو 250 ألف دولار) للافراج عن الرجلين.
وبعد قضائه لما يقارب العام كإستراحة محارب في العاصمة الروسية موسكو، قررت الفاغنر إرساله في آواخر الشهر الماضي الى أفغانستان، حيث وصل الجاسوس الروسي مكسيم شوغالي الى العاصمة الأفغانية كابول في الخامس والعشرين من أغسطس عقب إستيلاء حركة طالبان على الحكم وذلك “لإجراء تحقيق إجتماعي مستقل” و دراسة الوضع الحالي والتحدث مع السكان المحليين حول التغييرات السياسية التي حدثت، حسب ما ذكرت مؤسسته.
يبدو أن مكسيم شوغالي لم يفهم الدرس الليبي جيداً، فقبل إقلاع طائرته المتوجهة مطار كابول كان (الباحث الإجتماعي) يخاطب السلطات السودانية في الخرطوم بإعادة النظر بتوصيات تم تقديمها لنظام المخلوع عمر البشير في 2018، ويقول شوغالي إنه كان قد تقدم بعدة توصيات تحتوي على “تفاصيل دقيقة، ودراسات على أعلى مستوى، لتحقيق أعلى إستفادة ممكنة من الموارد المائية في السودان، وتطوير عمل السدود وتفادي الأزمات الناجمة عن سوء الإدارة، وكذلك كانت ستجنب السودان من كل الآثار المترتبة على بناء وملء سد النهضة، وبالتالي عدم الانشغال بالصراع الدائر حاليا مع إثيوبيا حول حصص مصر والسودان، التي سوف ستتأثر بعد ملء السد.” وإنتقد شوغالي عدم إهتمام أن الحكومة الانتقالية، وقال أن الحكومة المدنية لم تلتفت نهائيا لهذه التوصيات ولم تعمل بها، وأهملتها تماما مما أوصل السودان لمرحلة حرجة مع إثيوبيا.
وقال شوغالي أنه مؤسسته تقدمت بمجموعة مساعدات غذائية للسودان في الفترة الماضية، بالتعاون مع رجال أعمال في روسيا. ويقصد شوغالي الذي يبحث له عن موطئ قدم في السودان، المساعدات التي قدمها رجل الأعمال الروسي ورئيس مرتزقة فاغنر يغفيني بريغوجين ، وأشار شوغالي بكل وضوح أن بريغوجين أحد شركاء مؤسسته.
وبالنسبة لسؤال تم توجيهه في مقابلة صحفية مع شوغالي حول المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي وإمكانية إزالة العقبات القانونية أمام ترشيح نجل القذافي، وصف شوغالي المحكمة الجنائية بـأنها “منظمة تافهة” منتقداً محاكمتها للرئيس المخلوع عمر البشير في السودان.
يتضح جلياً أن الكشف عن عمل الجاسوس الروسي شوغالي في ليبيا وأفغانستان والسودان يوضح بشكل قاطع من يعمل على إرساله الى تلك الدول، والغرض من إرساله ، وللعلم أن آلية التدخل الروسي في الإنتخابات سرية ومعقدة، ولكن الغرض منها بسيط جداً، إذ إن روسيا تستخدم كل الأدوات الممكنة لقلب الثورة المناهضة، وفي حالة ليبيا كان الهدف هو تنصيب سيف الإسلام القذافي كديكتاتور جديد لليبيا، وفي السودان دعم عودة نظام البشير الى الحكم، حتى تعود كافة الإتفاقيات التي وقعتها روسيا مع النظام السابق الى الطاولة، وبالنسبة الى السودان فإن شوغالي هو مكون رئيسي في هذه العملية السياسية العسكرية، وذلك لتأمين حصة كبيرة من ثروة السودان المعدنية لشركات يفغيني بريغوجين وبالتالي لمرتزقة فاغنر سيئة السمعة.