بقلم عثمان نواى
يظل المشهد الدامى وحالة الاحتمالات المفتوحة التى يعيشها السودان منذ يوم المجزرة موقع صدمة الكثيرين لكن لا ينكر احد ان ما حدث كان متوقعا. وان المسؤولين عنه معروفين وخاصة أولئك الذين يقومون بالقتل المباشر للشعب السوداني فى الشوارع. ولكن هناك مسؤولين مباشرين آخرين عبر إعطاء الأوامر وآخرين مسؤولين مباشرين عبر الصمت والوقوف على جانب الطريق متفرجين. اذن السؤال المهم جدا الان ليس من المسؤول عن ما حدث ولكن من مصلحة من ان يحدث ما حدث وما سوف يحدث مستقبلا ؟
ان فزاعة القش فى وسط حقل السياسة السودانية الملغوم المسماة بالجنجويد وحميدتى تبدو للكثيرين من الوهلة الأولى وكأنها هى المستفيد الأهم مما يجرى. لكن واقع الأمر ان حميدتى لا يعلم انه كتاجر حمير سابق انه هو نفسه يتم امتطاؤه من قبل النخبة السياسية والعسكرية والكيزانية. وأنه فى تعريف كل سادته الذين صنعوه وأولهم البرهان ليس سوى مرتزق يُشترى بالمال ولا يمكن ان يرتقى الى اعلى من ذلك. الان ما يحدث من عملية إطلاق لمليشيات الجنجويد حتى ترعى فى الشوارع الفساد هو عملية حريق ممنهج لكل طموح الرجل فى حكم السودان ،وكل طموحه فى الافلات من قيد سادته او التساوى بهم. فحميدتى لم يصنع نفسه ولكنه وكل مليشيات الجنجويد منذ المراحيل وما قبلهم هم صنيعة النخب السياسية الحاكمة. وصناع حميدتى فى ظل صراعاتهم الحالية إنما يستخدمونه كبيدق لضرب بعضهم البعض بينما يتم أيضا التخلص منه فى داخل نفس العملية.
ان تصريحات الصادق المهدي وعدد مقدر من القيادات المنضوية تحت قوى الحرية والتغيير قد قامت بالترويج لحميدتى والمجلس العسكرى واعتبره البعض شريك فى الثورة والتغيير. وللأسف ان عملية التفاوض الطويلة و التى هى أيضا كان لها دور كبير في الوصول لهذه النقطة المؤسفة ، تلك العملية استندت على هذه الرؤية وتلك التصريحات المتواجده على النت حتى قبل يومين من المجزرة حينما صرح الامام ان قوى الحرية والتغيير لا تملك تفويض شعبى كامل فى لقاء مع القدس العربى. بل وصرح باستعداده للانتخابات. ان الوضع السياسى السودانى لا يمكن فهم مجريات أحداثه من السطح، فلا بد من الغوص عميقا فى علاقات المصالح المترابطة بين كل القوى الفاعلة فى السودان تاريخيا. تلك القوى تتمثل فى النخبة العسكرية والنخبة المدنية او الافندية والنخبة الطائفية والدينية بما فى ذلك الكيزان والقيادات القبلية والاثنية. اى منتج سياسى على الأرض هو ناتج تفاعل مباشر لهذه القوى المحركة للواقع السوداني . فكل الانقلابات غى تاريخ السودان لم تصنعها النخب العسكرية وحدها، بل المدنيون هم من يوزعون للعسكر فى السودان بالقيام بالانقلابات منذ عبود وحتى البشير ولازالوا كذلك يفعلون. ومن الملاحظ ان القوة الوحيدة الغائبة عن المعادلة المذكوره أعلاه هو الشعب السوداني.
فقد نصبت تلك النخب نفسها ممثلة للشعب السوداني منذ الاستقلال واتخذت بالنيابة عنه كل القرارات الخاطئة التى اوصلت البلاد الى ارتكاب الجرائم ضد الانسانية فى وسط العاصمة وضح النهار أمام قيادة الجيش وبيده ويد مليشياته التى ولدت من رحمه “سفاحا” . اذن القوة الوحيدة المتاثرة بكل ما يجرى فى السودان والتى تدفع الثمن باستمرار اى الشعب السودانى هى الوحيده التى لا تصنع القرار ،بل تصنعه النخب المذكورة أعلاه وفى ظل تغييب وتعتيم كامل لبقية الشعب. وهذا المشهد التعتيمى وطبخ مصير السودان فى الغرف والصوالين المغلقة ومن قبل زملاء الدفعة من الجامعات الى الخلاوي الى الكلية الحربية ومعهم اولاد سيدى فلان والامير علان والشيخ فرتكان هؤلاء هم من اوصلوا السودان لهذه النقطة ولايزالون فى غيهم القديم. فقد شهدنا كيف كانت تجرى عملية التفاوض فى ظل تغييب للشعب المعتصم وتعلن الاتفاقات تلو الأخرى مع اللجنة الأمنية التى سموها مجلس عسكرى وجعله البعض شريك واعطوه شرعية قتل بها الان الثوار وفى الطريق لقتل الثورة نفسها.
وما حميدتى الا عدو صناعى يشغلون به الشعب حتى تحسم القوى المتحكمة فى السلطة والنخبة السودانية التاريخية صراعاتها الداخلية والتى تجلت بوضوح فى الايام الاخيرة قبل المجزرة واثناء الإضراب ووضح من هم أصحاب المصلحة فى استمرار الشعب بعيدا عن اتخاذ القرار. فحميدتى ليس هو الخطر الحقيقي فهو ليس سوى مرتزق مدفوع ظن انه سيكون له شان لكنه الان يتم عقابه اولا على خيانه سيده البشير تحسبا من ان يقدم على خيانة ساداته الجدد الذين ظن انهم يتوددون له ويعطونه الاعتراف نسبة لقوته. لكنهم كانوا جميعا يحتمون به تحسبا لان يكون تحت خدمتهم مستقبلا. لكن صعود طموح تاجر الحمير السريع سوف يوقعه من البردعة ليكسر عنقه بنفسه وهو سيذهب كما ذهب من قبله موسي هلال والدبابين والمراحيل ومن كان قبلهم من اتباع وانصار حاولوا التهجم على دولة النخب مغلقة العضوية.
لكن المؤسف ان النخب المهيمنة قد وصلت لعبتها الان الى سدرة المنتهى. لقد وصلت الى الانكشاف الكامل. فهم كانوا دوما يوظفون ويشترون آخرين لكى تبقى ايديهم نظيفة من الدماء فى نظر الشعب السوداني. لكن تسقط بس شعار الثورة لم يكن يعنى حكومة الكيزان فقط ، بل كان يعنى ان تسقط بس كل الأقنعة المزيفة وكل الجدران التى يجتمعون خلفها ويامرون بحمامات الدم فى كل السودان عبر تاريخه من مذبحة توريت وعنبر جودة ومذبحة الضعين ومرورا بمعسكر كلمة و… وحتى مجزرة القيادة، بينما يخرجون للعلن بجلابيب وقمصان بيضاء تسر الناظرين. ان سيطرة الشعب السوداني الثائر على الشارع والعصيان المدنى الشامل ما هو الا بداية المعركة مع هؤلاء الذين يريدون كتم أصوات الشعب وانتزاع حقه فى حكم نفسه وتقرير مصيره. ان النخب السياسية المهيمنة قد اعتادت الافلات من العقاب والحساب وعدم الاعتراف بالأخطاء، واعتمدت على ذاكرة الشعب السوداني القصيرة وسماحته وغفرانه. لكن الآن الشعب السوداني ولاول مرة من شرقه الى غربه ومن جنوبيه الى شماله يقف موحدا مطالبا بسلطته المدنية. ولذلك فإن تلك النخب العمياء هى تحترق بذات النار التى اوقدتها لصناعة الفوضي ، ورغم الألم والاوجاع الا ان شهداء هذه الثورة هم متاريس الخلاص للشعب السودانى كله من سلسلة الاستبعاد النخبوي منذ الاستقلال. فعلى الشعب السوداني ان يعى كل الحقيقة لا نصفها حتى يطالب بعقاب وحساب كل الجناة وحتى ينزع حقه كاملا فى وطن ديمقراطى مستقر.
[email protected]