صلاح شعيب
في خطوة جديدة تنم عن عجز النخب عن توصيف الحلول لأزمة البلاد بادر عدد من كرام، ولئام، الشخصيات الوطنية برفع مذكرة للرئيس البشير حتى يساعد على إنقاذ البلاد. وبدلا من أن تطالب المذكرة البشير نفسه بالتنحي، على أقل تقدير، فقد وضعت أمامه مهمة جديدة ستساعده بجانب حزبه حتما على تسويف التحايل على الأزمات التي تحيط بالسودانيين كافة. ولذلك ليس مستغربا بأن يدعو فورا من تسلم الرسالة إلى التقاء البشير بمن وقعوا على المذكرة القاصرة عن فهم طبيعة النظام، والإخوان المسلمين، والقاصرة أيضا عن فهم تطلعات المواطنين الذين يكتوون اليوم بجحيم مأساة أسلمة الدولة، ونهبها، وتشريد أبنائها، وقتل المعارضين سلميا.
فمن ضمن أكثر من ستة عشر شخصية إسلاموية منثورة أسماؤها ضمن القائمة الموقعة بما يشبه الحبكة، وهذا العدد يمثل ثلث الموقعين على المذكرة، تجد شخصيات مصنفة ضمن اليسار، واليمين، والوسط، والحياد. ورغم أن هناك فعلا بعض شخصيات مشهود لها بعطائها الفكري، والأكاديمي، والإعلامي، والمهني، وعمق بصيرتها السياسية، إلا أن مشاركتها في التوقيع على هذه المذكرة يطرح أكثر من سؤال حول الحكمة التي خرجت بها من استدامة سلطان الإسلام السياسي، وتمدده في البلاد. فقد كنت أتوقع من الأساتذة عوض السيد الكرسني، وفيصل محمد صالح، ومحجوب محمد صالح، ونبيل أديب، وعطا البطحاني، وصديق أمبده، وقاسم بدري، وعبد العزيز حسين الصاوي، وآخرين، دعم تطلعات القوى السياسية، وشباب الجامعات، ومنظمات المجتمع المدني في حراكها الجديد لإحداث التغيير، بدلا عن تحويل الانتباه إلى مذكرة لم تبدأ حتى بالإشارة إلى إيقاف القمع الذي يتعرض له الطلاب العزل في العاصمة، وكذلك إيقاف القصف الجوي الذي يتعرض له المواطنون في مناطق النزاع.
الغريب أن المذكرة ضمت بعضا من الذين ما يزالون في المؤتمر الوطني، ويعمقون الأزمة الآن بأدوارهم داخل النظام. والغريب أن البروفيسير الطيب حاج عطية، والذي ظل حتى قبل فترة صامتا دون التعبير برأيه عن النظام عاد له الروح لينشغل وطنيا. أما الأستاذ علي شمو الذي يقمع الرأي الآخر عبر منصبه السابق في مجلس الصحافة والمطبوعات فقد غدا شخصية وطنية أهمتها حالة البلد. وهكذا وجد شمو فرصة لينضم لركب المطالبين بـ “تأسيس حكم راشد يقوم على مبادىء الديموقراطية والتعددية، والفصل بين السلطات الثلاث، وتأكيد احترام الدستور وسيادة حكم القانون، وبسط الحريات العامة وحماية حقوق الإنسان”. ربما اقتنع علي شمو في ثمانيناته أخيرا أن اعتماد مبادئ الديموقراطية، والتعددية، في إدارة البلاد شأن طيب، وأن لازمة الديموقراطية هي مطلب شعبه منذ نصف قرن قضاها هو في إعانة الديكتاتوريين.
ويتعجب المرء كذلك كيف أن أشخاصا كانوا إلى عهد قريب يرفعون سقف التغيير بضرورة ذهاب النظام ثم يتحولون بين وليلة وضحاها إلى ترجي البشير بأن يحقق “معالجة الحالة الوطنية المأزومة الراهنة بـ”التوافق على التقدم إلى مرحلة انتقال تاريخية من موقع الأزمة السياسية الراهنة إلى مشارف مستقبل يتجاوزها، بمشاركة القوى السياسية والمدنية كافة..” ههههههه، أولم يرفض إبراهيم محمود فكرة الحكومة الانتقالية بأغلظ التأكيد أثناء مداولات الوثبة؟ وأين هي توصيات الوثبة نفسها التي منحت النظام أكثر من عامين من التسويف، وها هي المذكرة الجديدة تجد الاستقبال العاجل حتى يجد فيها الدكتاتور مجالا لتسويف جديد.
وهل ما يزال هناك من أهل الوعي من يتوقع أن يستجيب المؤتمر الوطني لمحتويات تلك الوثبة، وهذه المذكرة، وهو الذي فصل غازي صلاح الدين لمجرد مطالبته بالإصلاح؟. بل أولم يركن رئيس الحزب جانبا مذكرة الألف إسلاموي، والتي تضمنت بنودا أقوى مئات المرات من هذه المذكرة التي ضمت بعضا من قنعنا بأنهم أهل الوعي الذين أدركوا مكر الدولة الدينية التي أقسم دعاتها بتسليمها إلى النبي عيسى؟.
إن المذكرة، في جانب، استنسخت بامتياز مقالة الدكتور الواثق كمير الذي انتقده بعضنا بألسنة حداد نتيجة توخيه الثقة في البشير بأن يفعل شيئا. الشئ الجديد في هذه المذكرة أن النخبة اليسارية والمستقلة، بالذات، وافقوا على خلوها من نص صريح، وجامع ومانع، يدعو إلى محاسبة المتورطين في الجرائم التي ارتكبت في العاصمة مثل مجزرة سبتمبر، وجرائم الأقاليم التي تنوعت لتشمل جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية، والإبادة، والاغتصاب. وإذا كانت هذه المذكرة لا تهتم بهذا الأمر الهام الذي أرق السودانيين المتظلمين فما الذي لا يدعو مستلمها من سرعة قبولها كونها تسعى إلى معالجة “مسألة المحكمة الجنائية”؟.
المبادرة عموما لن تجد آذانا صاغية لدى البشير، أو أركان حزبه حتى يشرع في تنفيذها برغم أنها ضمنيا تعني قيامه بمسؤولية إصلاح الأزمة رغم أنه هو الأزمة نفسها، بجانب حزبه. ومن جانب آخر فإن محتوياتها الإنشائية تحتاج إلى آلية للتنفيذ، هذا إذا ارتضاها اللاعبون الأساسيون في المشهد السياسي. ولعل المحتوى نفسه لا يستجيب لسقوفات هؤلاء اللاعبين أنفسهم ومن ضمنهم المؤتمر الوطني الذي ظل أصلا يتحايل لاحتواء المعارضين أكثر من الاستجابة لموضوعية أهداف المعارضة. أما بالنسبة لقوى الإجماع الوطني، والحركات المسلحة، ومختلف منظمات المجتمع المدني، والتنظيمات الشبابية المعارضة، والناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي، فإنها لا ترى أي إمكانية لدى البشير، أو البقية الذين وقعوا على المذكرة من الإسلاميين، لإصلاح ما أفسده الدهر.
إن الكرام من الشخصيات الوطنية التي وقعت على المذكرة يدركون تماما الإدراك أن هذا النظام الذي يقوده البشير هو نظام يرأسه رجل إجرامي بامتياز. وليس هو نظام سياسي مشبع بالوطنية، والشرعية، حتى يرتضي الاستماع للرأي الآخر. فإستراتيجية النظام واضحة لكل ذي بصر، وهدفه الأساسي هو تحطيم كل البناءات الوطنية بدلا عن تنميتها، وإلا نجحت المئات من الاتفاقات التي ظن موقعوها أنهم سيساهمون في حل القضايا محل الاتفاق لتطوير، ونماء البلاد. ولولا ثقتنا الكبيرة في هؤلاء الكرام لقلنا إن توقيت هذه المذكرة هدف به مفكرو المذكرة في الأساس إلى قطع الطريق أمام الحيوية الجديدة في الحراك السياسي الساعي لإسقاط النظام، والذي دشنه طلاب جامعة الخرطوم الصناديد، وتصاعد بعد مقتل الطالب محمد الصادق ويو. وقد ضخ هذا الحراك حيوية أخرى لدى أحزاب الأمة، والحزب الشيوعي، والمؤتمر السوداني، والتي طالبت قيادتها جماهيرها بالنزول إلى الشارع لإسقاط النظام. عموما ننتظر لنرى ثمرة هذه المذكرة، والأيام دول، وسنرى إن كان البشير يستجيب لدعوة المذكرة بتحقيق التدول السلمي، والحكم الراشد. وأكرر التداول السلمي، والحكم الراشد.