أ. محمود يوسف
بعد فشل عملية السلام بليجنا ، كان تلفون كوكو المسؤل العسكري عن الريف الجنوبي ورئاسته في مدينة برام، والذي يتضمن طبانيا. فحدث ان تحرك الجيش في اتجاه برام، وكان تلفون علي علم بهذا التحرك وكان من المفترض ان تقوم القوة الموجودة في المدينة بإلدفاع عنها، ولكن بدلا من ان يقوم تلفون كوكو بوضع خطط للدفاع عن المنطقة بوصفه قائدا لها ، اهمل هذا الواجب فسافر الي طباني في جنوب برام ، ومن خلال تلك الثغرة دخلت القوة العسكرية الحكومية مدينة برام دون اية مقاومة بالرغم من ان القوة التي كانت في برام كبيرة ويمكنها تشتيت العدو، فلماذا فعل ذلك؟ ذكرت استخبارات الحركة انها رصدت محادثات سرية لتلفون مع كادقلي وان ما حدث كان مجرد تسليم من جانبه، فارسل يوسف كوة من نيروبي الي اسماعيل جلاب امر باعتقال تلفون كوكو ، فدعا جلاب الي اجتماع وفيه تم تكليف يوسف كرا بتنفيذ ذلك القرار، فذهب الفريق كرا بذلك الامر مع تفويض كامل في حالة الرفض ، فوجد معه موسي كوا وكان الراحل سايمون كالو قريبا اخذ يوسف كرا تلفون الي غرفة جانبية وسلمه امر الاعتقال، لم يقاوم تلفون فتم اعتقاله، وفي التحريات مع احد زوجاته، ذكرت بانه طلب منهن الاستعداد للذهاب الي كادوقلي، وكان ذلك بالاضافة الي عدم مقاومته للعدو من الاثباتات الذي اقنع الكثيرين بانه خطط لتسليم الريف الجنوبي الي الكيزان ، ولو تاخر يوسف كرا عن تنفيذ القرار، لكان طبانيا في ايد الحكومة ، تم اعتقال تلفون ، وسمح يوسف كوة لمنظمة الحقوق الافريقية لحقوق الانسان باجراء مقابلة معه ونشر في كتابهم، “النوبة في مواجهة الابادة.” كان يوسف كوة إنسانيا في تعامله مع الجميع ، لم يعذب تلفون ، ولكن ولكي لا يترك تاثير سلبي في المنطقة قرر دكتور جون قرنق نقله الي جنوب السودان ، اخبرني عبدالإه ان عبور تلفون لمنطقة جنوب رمبيك فقام احد القادة بسجنه وأساء معاملته ، وحتي يوسف كوة لم يكن يعلم بما تعرض لها.
في مايو عام ٢٠٠٧ تعرض العميد يوسف كرا الي جلطة في مدينة التونج ، ادت الي اصابته بشلل نصفي، واحضر الي نيروبي، وعندما بدأ يتماثل للشفاء، حضر تلفون كوكو في زيارة مريبة الي نيروبي وكان معه رئيس المجلس التشريعي بولاية جنوب كردفان والقيادي البارز في المؤتمر الوطني إبراهيم بلندية عليه الرحمة والمغفرة، اخبرني موسي كوة الذي اخذته بعربته لموقع التجمع للسفر لدورة في جنوب افريقيا، بوصول تلفون من الخرطوم وانه ذهب لمعاودة يوسف كرة، فذهبت بعربة موسي الي يوسف كرا، وعندما دخلت وجدت الاثنين يجلسون في جو يسوده التوتر ، بعد التحية جلست ، حينها كان كلاهما برتبة العميد، ففتح يوسف كرة الحديث بما معناه، “يا تلفون زي ما شايف انا يا دابو طالع من الجلطة وحالتي ما بتسمح لي بمناقشة سياسية، كنت فاكرك جيتني علشان تكفر لي، لكن لو جاي في مسألة سياسية، فلست مستعدا لذلك.”
يظهر انني وصلت في لحظة حرجة للغاية ، ومن الواضح فان هنالك ما لم احضره من حديث ، لكن كان ذلك واضحا من الرد الحاسم والمحرج ل يوسف كرا وأمامي ، حينها اهتزت صورة تلفون كوكو في ذهني ولأول مرة ، وبخاصة عندما اخبرني احد الاصدقاء انه قابل تلفون وكان هنالك اثنان ينتظرانه خارج المسجد الكبير بنيروبي احدهم من السفارة السودانية ، كما اخبرني موس كوة لاحقا وشخص آخر عن وصوله مع ابراهيم بلندية، فلماذا فعل تلفون ذلك؟
بعد اصابته بالجلطة في مدينة التونج عند مخاطبته للجنود يوم استلامه قيادة المنطقة تم تسفير يوسف كرا الي كينيا للعلاج ، كان تأخير الطائرة السبب في عدم وصوله نيروبي ذات اليوم ، وعندما علم تلفون والمؤتمر الوطني بذلك ارادوا الاصطياد في المياه العكر ، لان في تصورهما ان الشخص في هذه الحالة يفكر في مستقبله ومستقبل ابناءه وحتي علاجه ، وطبعا علي الرغم من كل ما يحظي به الانسان من ذكاء فطري ومكتسب فانه عاجز عن اخفاء ما بداخله، “وهو في نهايه الامر اناء ينضح بما فيه كما تقول تلك القاعدة.”
لقد ظن المؤتمر الوطني ان يوسف كرا في هذه الحالة من الضعف يمكنه ان يستجيب لإغراءات مادية تجعله يتناسي المبادئ التي من اجلها انضم للجيش الشعبي ، مثلما فعل تلفون ، كانت الصدمة كبيرة جدا بالنسبة لي ، ولقد شعر تلفون كوكو في تلك اللحظة بصغره اما يوسف كرا ، واثبت من حيث لا يدري بصدق الاتهام الذي وجه له بتسليمه لمدينة برام ، واعطي الي يوسف كرا المبرر النفسي المطلق والقناعة بانه كان محقا عندما اعتقله عام ١٩٩٣ ، ولقد سالت الاخ الصديق يوسف كرا عما ذكره تلفون قبل وصولي ، فقال انهم يعملون من اجل الاتفاق مع المؤتمر الوطني، فكان وصولي ، اخذت تلفون الي غرفتي ، ولكنه كان مشتت الفكر للصدمة التي تلقاها من يوسف وحضوري لتلك الواقعة .
في النهاية عندما دعا الرئيس سلفا كيير تلفون كوكو للاجتماع بقادات الحركة الشعبية من ابناء النوبة كان التصور بان يتم التوصل الي اتفاق والوحدة بينهم من اجل الهدف الاكبر المتمثل في العمل من اجل استرداد كرامة الإنسان السوداني، لكن تلفون كوكو ولما كتبه عن الحركة الشعبية ، فلقد طالب بضمانة والتي اعطيت له كتابة فحضر الي جوبا عام ٢٠١٠ وقبل الانتخابات القومية، لكنه وبدلا من مراعاة شروط الضمانة، فلقد انتهز تلك الفرصة لخدمة الاجندة الخفية للمؤتمر الوطني، فقام بعقد اجتماعات مع المجتمع النوبي في جوبا وسافر الي ياي عاملا علي تحريض الشباب بالرجوع الي جبال النوبة ، كان ما حدث منه صدمة للذين ظنوا بان تلفون قد تغير . كان الهدف من حضوره الي جوبا لمجرد خدمة الاهداف الخفية للمؤتمر الوطني، فدفع ثمن ذلك، ورغم ذلك قامت عناصر المؤتمر الوطني في الجبال بتسجيل اسمه في الانتخابات العامة عام ٢٠١٠، وكان الهدف من ذلك، تشتيت اصوات الحركة الشعبية، ورغم انه تحصل علي اصوات قليلة، لكنها كانت خصما علي مرشح الحركة الشعبية.
هذه النماذج الخمسة عما قام به تلفون كوكو او حرف تأويله توضح بصورة قاطعة بان تلفون كوكو لم يكن يعمل من اجل إسترداد كرامة النوبة والشعوب السودانية ، منذ عام ١٩٩٢، وانه كان خلال تلك الفترة اقرب للمؤتمر الوطني حينما كان النظام يبطش بمنسوبين الحركة الشعبية في المدن التي كانت تحت سيطرة النظام، لذلك فهو اقرب لصديق تاور من المنطلقات الفكرية بعد ان فقد البوصلة الوطنية ، لانه ابعد نفسه من نضال الجماهير لعدم ايمانه بقدرة الحركة الشعبية علي كسب المعركة ومن ثم قيامه بالحلف الجديد والذي يتضمن صديق والراحل ابراهيم بلندية ، لذلك فهو عندما يدافع عن صديق تاور واسرته بالرغم مما هو شائع عنهم، فهو في الحقيقة يدافع عن نفسه بطريقة غير مباشرة ، بعد ان أغرق ماضيه الجميل في مستنقع التعامل مع من عملوا علي تدنيس ارث وقيم الإنسان الافريقي السوداني، ذلك الماضي النضالي مع رفاقه يوسف كوة ويوسف كرة ومحمد جمعة وغيرهم من الشرفاء ، عندما اعطوا الشباب الاحساس بالامل بمستقبل إنساني جميل في ارض السودان ؛ حينها كان صديق واسرة تاور يعملون علي إنجاح برامج المؤتمر الوطني [١٢] ، والعمل علي فوز المجرم احمد هارون ، فكان لزاما علي قوي الحرية والتغيير البحث عن شخص آخر تتوفر فيه الشروط الموضوعة لإختيار ممن سيتولون المناصب السيادية والتنفيذية في المرحلة الانتقالية، ولكن وكما هو واضح فإن قياديين قحت من الشمال النيلي لا يكترثون للمواقف المبدئية للمجموعات الافريقية السودانية ولا لمشاعرهم ، إنما يهمهم في المقام الاول تنفيذ ارادتهم المتمثلة في سياسة التعريب والتغريب ، وسيعمدون خلال الفترة الانتقالية علي شراء زمم الضعفاء وتزييف هذا الواقع الذي يمكن تشبيهه كأنهم يريدوننا ان نتجرع كأس الحياة بذلة، فنقول ل قحت التي رأينا منهم المؤامرة تلو الاخري ، بدأت برفضهم اشراك العناصر الافريقية في اجتماعاتهم منذ نجاح الثور في ابريل وتجسدت في الإذلال باختيار البعثي صديق تاور في مجلس السيادة ، ولسان حالهم يقول تقبلوا ذلك ام أشربوا من ماء البحر ، فنقول ل قحت كما قال عنترة بن شداد :
مـاءُ الـحَياةِ بِـذِلَّةٍ كَـجَهَنَّمٍ وَجَـهَنَّمٌ بِـالعِزِّ أَطـيَبُ مَنزِلِ .
لقد اتضح لنا من تعامل قحت وقراراتها ، انها لم تكن لتعبر عن تطلعات شباب الثورة ممن سكبوا الدماء الطاهرة ضد العنصرية والجهوية ، لم نكن نطالب بالكثير ، فقط كنا نطالب بالمساواة وبمعاملة كريمة ، لكن قحت ومن خلال الكثير من المواقف في تعاملها مع العنصر الأفريقي فلقد ظهرت علي حقيقتها بإعتبارها حفنة ممن يصعب عليهم التخلص من الارث القديم ، وان ما يقومون به هو المحافظة علي هذا الارث دون مراعاة لرغبات وإرادة العناصر الافريقية التي ساهمت مساهمة فعالة في الثورة ودفعت الكثير من الشهداء والمفقودين تجاوز ٤٠٠ ممن اختفوا من ميدان القيادة اثناء فض الإعتصام ، وبهضمهم لهذه المشاركة ودوسهم لكرامتنا فلقد حولت قحت نفسها الي إمتداد لمؤسسة ظالمة ، مثلهم مثل النميري وسوار الدهب والصادق والبشير الذي اتي بالانقاذ ١ ، وبن عوف الذي قاد الانقاذ ٢ ، ولكنهم ذهبوا جميعا الي مذبلة التاريخ . فإن ارادت عناصر قحت العربيين ان يصبح المجلس السيادي مذلة لنا كما خططوا ، فإنهم سيمثلون الإنقاذ ٣ ومصيرهم سيكون سلة مهملات التاريخ مثل غيرهم ، وما حدث في الفاشر ما هو إلا تعبير عفوي بإستعادة الكرامة التي داست عليها قحت ، وادعوا تلفون كوكو ومثله ممن خدعوا أن يراجعوا مواقفهم لأن السودان الجديد قادم لامحالة بإذنه تعالي. وأخيرا ، كان نجاح الثورة وإقتلاع نظام البشير العنصري عمل كبير يجب ان نفتخر به جميعا ، وان تعيين عبدالله حمدوك لمنصب رئيس الوزراء هو اختيار شعبي لرفضه العمل في نظام البشير، واثبت منذ اللحظات الاولي رفضه لكثير من تعيينات قحت، انه يعمل في وسط صعب مع مجموعة سرقت الثورة ولكن كما صبرنا مائة عام سنصبر ثلاثة اعوام من اجل بلورة الارادة الحقيقية للشعب السوداني.