عثمان نواى
“جميع القيم مهدرة ولكن الأمن مستتب!” لسوف تكون هذه الإجابة الوحيدة الممكنة والمنطقية إذا ما انتهت الحرب فى السودان فجأة كما بدأت فجأة. والعبارة هى من مجموعة قصصية لنجيب محفوظ بعنوان ( الجريمة ). حيث تأتي العبارة على لسان وكيل نيابة تخفى بهيئة سائق فى حى شعبى للتحقيق فى جريمة اكتشف خلالها انعدام ثقة الناس فى قدرة الدولة على تحقيق العدالة نسبة لتفشى الفساد بين الشرطة والمواطنين.
لقد كشفت لنا هذه الحرب أسوأ ما فينا كشعب سودانى، وكشفت ضعف وهشاشة منظومات القيم التى كان يتباهى بها السودانيون. فمن علاقات البشر فيما بينهم إلى خذلان الأقرباء وجشع الغرباء وفشل الساسة وو هن الدولة. ان الهشاشة التى تبدت فى منظومة قيم المجتمع السودانى عبر هذه الحرب هى فجيعة لا تقل فى مستواها عن ماسى الحرب ذاتها من قتل وتشريد وترويع.
فجشع التجار والغلاء الغير مبرر فى إيجار المنازل فى الأقاليم و استغلال أصحاب السيارات فى نقل الفارين من الحرب وقطاع الطرق فى الطرق القومية والنهب الواسع الذى شارك فيه مواطنون من كل الفئات داخل الخرطوم والخيانات الكبرى للوطن من المرشدين المتعاونين مع الجنجويد داخل الأحياء، ناهيك عن الخيانات داخل المنظومة الأمنية والسياسية نفسها، كل هذه الفظائع تفجر كل اوهام السودانيين عن كرمهم الفياض ووقوفهم فى الحوبة وكل تلك المنظومات القيمية المدعاة.
ان ما فعله الجنجويد فى الخرطوم شارك به كثيرون من غير السودانيون، ولكن من امر به ومن سمح به ومن قام به أيضا غالبيتهم سودانين. الاغتصاب والنهب والسلب والقتل والخطف، كل هذا قام به سودانيين فى غالبهم. كرهنا فعلهم مثل كرهنا الكيزان او الحرب ضدهم لا تنفى ابدا انهم خرجوا من هذه الأرض وهذا المجتمع. ولا نستطيع الفرار من هذه الحقيقة بعبارات مستهلكة مستسهلة مثل كل مجتمع فيه الصالح والطالح. ان أردنا بناء مجتمع ودولة صحية وقوية ما بعد هذه الحرب فان المواجهة مع أزمة انحلال منظومة القيم فى السودان لهو أولوية قصوى فى هذه البلاد وهى جزء هام من التعامل مع الازمة السياسية والوجودية للدولة ذاتها.
بل ان القيم المهترئة التى برزت خلال الحرب يطرح تساؤلات حول وجود منظومة قيم قوية حقيقية ما قبلها. فهل السودان كان يوما بتلك المثالية التى يظنها اهله؟ ان المكاشفة مع الذات التى فرضتها هذه الحرب على المجتمع السودانى، هى مرآة لا يجب أن تنحصر فى أيام الحرب ويجب أن تنتقل إلى ما خلفها وما بعدها. إذا لم يتم إسناد البنية المجتمعية فى البلاد إلى منظومة قيمية يتوافق عليها المجتمع للحفاظ على وجوده بشكل أمن وسلمى، فإن المنظومة السياسية ونظام الحكم لن يجد ما يستند عليه. لذلك يبدو التساؤل مشروعا حول ما اذا كان ما يجرى فى السودان على مستوى الحكم هو انعكاس لما يحتكم اليه المجتمع من قيم مهدرة؟ وهل إهدار الدولة والموارد الذى نعيشه الآن هو أيضا امتداد إلى القيم المهدرة فى مستوى الفرد والمجتمع؟
لقد فشلت الدولة الدينية او المتدينة فى صناعة منظومة قيمية قوية فى السودان، بل ما أُهدرت القيم الا فى رحاب دولة المتدينين. إذن فإن الحل لا يكمن في الرجوع إلى الدين، ان الدين نفسه أتى ليكمل مكارم الأخلاق، أي أن مكارم الأخلاق يفترض وجودها فى الأصل حتى يكملها الدين. ولذلك فإن بنية المجتمع السودانى بقيمها المهدرة لا يمكنها إلا إهدار الإنسان والدولة معا. وهذا جوهر بنيوى رئيس لبناء سودان ما بعد الحرب الأخيرة. ان هتك القيم لهو الذى أدى إلى هتك العروض وانتهاك الحقوق. وإن علو صوت الجهال وخفوت صوت اهل العلم والمعرفة والحكمة لهو من دلائل الهلاك. ولن تقوم لهذه البلاد قائمة ما لم يكن لأهلها حد أدنى من القيم التى تشكل مرجعية يقف عندها الجميع. وأن أزمة القيم فى هذه البلاد لهى أزمة الهوية الحقيقية. فديباجة دستور اى بلاد هى ترسيخ لبنية القيم فيها. فبلا منظومة قيم فالننسى بناء دستور او حتى بناء دولة. وما فائدة الدولة ان امنت من الحرب وظلت القيم فيها مهدرة؟ سيظل أمنها فقاعة وهم تفرقعه طلقة نار فى لمح البصر!