لا يبدو أن المشهد السياسي السوداني يتجه نحو انفراجة بل إلى مزيد من التعقيد خاصة في مربع الحكومة والنظام الحاكم. فعلى كل المستويات التنظيمية والإدارية للحزب الحاكم وتنظيم الحركة الإسلامية المساند له ومنتجاتها الفرعية من مؤتمر شعبي ووطني وحركة الاصلاح والسائحون وغيرهم، يتبدي أن مطبخ النظام الان يعج بفوضي عارمة بين المتحالفين والمتخاصمين والمصلحين والمصلحجيين. وهؤلاء الأخيرين هم الأشد خطورة على السودان وعلى النظام الذي ينتمون له لأنهم دائما قادرون على التلاعب بكل الأوراق لصالحهم الشخصي وبدون تحمل أي عواقب، فهم دوما أول القافزين من المركب الغارقة.
الواقع أن المشهد داخل أروقة النظام الان يصعب تشريحه وذلك إذا أخذنا بشكل دقيق تعريف النظام الحاكم باعتباره نظام الإسلاميين في السودان والابن الشرعي للحركة الإسلامية في البلاد. وبالتالي فإن الإصدارات المحدثة- بلغة أهل البرمجيات- من تنظيمات الإخوان المسلمين والحركة الإسلامية هي لاتزال جزء من هذا النظام. ليس فقط على مستوى المشاركة السياسية أو المشاركة في الحكم مثلما هو حال المؤتمر الشعبي ما بعد مسرحية الحوار الوطني، لكن أيضا على المستوى الأهم وهو الدعم المعنوي والمالي والدعم الشعبي بالتأكيد. وعند الحديث عن الدعم الشعبي الأمر لا يتعلق بالإعداد الفعلية للمؤيدين للنظام بقدر ما أنه يتعلق بالقدرة على استخدام آليات التحييد والقمع والدعاية بشكل متساوي لدعم بقاء النظام بكل الوسائل الممكنة.
وفي هذا الإطار يتضح أن هناك ما يمكن تسميته تيارات داخلية في المطبخ السياسي للحركة الإسلامية الحاكمة بكل أجنحتها داخل الحكومة وخارجها. أبرز هذه التيارات في داخل حلبة الصراع الان هو التيار المؤيد لبقاء البشير، ليس فقط ما بعد 2020 بل حتى في الفترة الحالية، وبين تيار لا يؤيد بقاء البشير. وهذا التأييد وعدمه قد يتسع في دائرته ليشمل بعض التنظير من بعض أفراد من يسمون بالاصلاحيين في الحركة الإسلامية لرفض شكل النظام القائم ككل وهؤلاء ليسوا بقلة، وهناك أيضا من لديهم أحكام على مستواهم الشخصي أدت بهم للانسحاب من الحركة الإسلامية ككل وهناك منهم من انضموا إلى المواكب والمظاهرات التي سارت في الأيام الماضية على مستواهم الشخصي على الأقل.
هذا المشهد المعقد داخل النظام وتفريعاته المرتبطة بكيان الحركة الإسلامية يوضح تماما أن تجربة الإسلاميين الان على المستوى الداخلي تمر بسوال أن تكون أو لا تكون. ولكن يبدو رغم أن الثلاثين عاما من الماضية هي فترة كافية لإدراك فشل الرؤية والنظرية وأيضا التطبيق، الا ان الحركة الإسلامية لا زالت في كل مكوناتها تري انها جديرة بالحكم وان التجربة الفاشلة معلقة على أعناق منفذيها. وبالتالي فإن البشير الان اصبح رمزا للفشل بالنسبة للإسلاميين أنفسهم وهم يريدون التخلص منه كما يبدو للنزول إلى السوق بماركة وشعار تجاري جديد وشخصية دعائية جديدة تمثل واجهة لمشروعهم لحكم البلاد الا انهم غير قادرين إلى الان على الاتفاق على تلك الواجهة. حيث أن الحركة الإسلامية تعاني هي أيضا من مرض سيطرة الشيوخ والعجائز وعدم تقديم الشباب الي القيادة. وبالتالي فإن الحركة الإسلامية في السودان يبدو أنها تعاني من صراع أجيال أيضا كجزء من طبقات الصراعات المستترة فوق بعض.
من بين كل هذه التعقيدات تخرج رائحة هذه الصراعات من مطبخ الإسلاميين عبر قرارات مثل إقالة أو استقالة غندور. وهو الحدث الذي رغم اختلاف أسبابه المعلنة وغير المعلنة والتي من ضمنها أن غندور من ضمن مؤيدي انتهاء عهد البشير أو أنه كان غاضبا من نزع ملفات الخارجية من يده وإعطائها للمعسكر الأكثر تشددا من امثال عوض الجاز. وأي كان السبب فإن هذا الحدث هو إحدى التجليات الهامة لمدى عمق الخلافات والتحديات داخل النظام الحالي. أيضا الخبر الذي انتشر منذ الأمس حول منع دخول أعضاء مجلس الشورى المؤتمر الوطني حاملين موبايلاتهم هو أيضا مؤشر هام جدا على مدى سوء وحدة الخلافات وانعدام الثقة ومحاولة منع أي تسريب محتمل لمحتويات النقاش الذي يبدو أنه سيكون ساخنا. فقد انسحب البشير من الجلسة ولم يخاطبها كما كان مخططا بالأمس وأعلن عن جلسة مغلقة السبت.
ان الازمة الاقتصادية الخانقة يبدو أنها الان تخنق النظام نفسه بنفس القدر الذي اختنق بها الشعب. كما أن الاحتجاجات التي جرت لها دور في بعث تحذير قوي للنظام المترنح لضرورة حلحلة ازماته الداخلية ليتمكن من مواجهة تحديات الحكم. لكن وعلى عكس اي وقت مضى فإن خيارات النطام الان والحركة الإسلامية لم تعد واسعة، فقاعدته الدولية المستندة على قطر وتركيا وإيران بعد سوء العلاقات مع معسكر السعودية والإمارات ومصر، هي نفسها قاعدة تعيش تحت ضغوط كبيرة داخلها مما لن يجعلها قادرة على تقديم أي معونة حقيقة تغيث النظام وتخرجه من أزمته الاقتصادية أو عزلته السياسية.
من ناحية أخرى فإن مقدار الفساد وسوء الدارة المتراكم عبر ال 29 عاما الماضية جعلت اي مدد من أي نوع لن يشكل مخرجا من الأزمة الاقتصادية. أذن التغيير السياسي هو المخرج الأساسي والذي يعلم النظام أيضا أنه لا مهرب منه فبدون تغيير سياسي شامل لن يجدى اي حلول اقتصادية مهما كانت. لكن الأزمة الأساسية هي في تناقض ان الحركة الإسلامية لازالت ترى نفسها قادرة على صنع بديل سياسي وأنها من حقها إلبقاء في الحكم سواء كان البشير موجودا أم لا. وبالتالي هنا يحدث الاصطدام مع الحقيقة وهي أن الحركة الإسلامية فكرا وممارسة فشلت عبر أطول تجربة حكم لكيان سياسي في تاريخ السودان. وعدم اعتراف الحركة الإسلامية بكل تياراتها وعدم اقتناعها بفشلها هو التحدي الأكبر والذي سيمنع ليس فقط إيجاد حلول للخلافات داخل النظام بل سيضع أيضا توجهات التغيير السلمي في السودان امام تحدي مواجهة الحركة الإسلامية التي لا تتوانى ابدا عن استخدام القوة والعنف من أجل الحفاظ على أي مكتسبات تعتقد أنها تخصها. والآن تعتقد الحركة الإسلامية ان السودان ككل هو ملكية خاصة بها وهي فعلا قامت عبر سياسات التمكين من السيطرة على مفاصل الدولة السودانية اقتصاديا وسياسيا فيما يشبه إحدى مستويات الدولة العميقة الأكثر تعقيدا.
إذن فإن عملية التغيير في السودان سواء من داخل النظام نفسه أو من خارجه سوف لن تكون عملية سهلة في ظل وجود الحركة الإسلامية المتشبثة بحلمها الذي تحقق بعد مجاهدات كما يحب أن يسمى ذلك أعضائها. ولن يترك هؤلاء المجاهدين مكاسبهم في الحياة الدنيا في حين عدم وجود ضمانات حول مكاسب الآخرة. فهم قد نجحوا في حكم السودان ل 30 عاما، ومع عدم وجود أي قوة سياسية مجتمعة أو متفرقة قادرة على هزيمتهم عسكريا وسياسيا بشكل ساحق حتى الآن، فإن نظام الإسلاميين السودانيين سيظل يقاتل ليحافظ على سيطرته على البلد. لذلك يجب أن يركز الان كل القوى السياسية الواعية على حقيقة أن البشير نفسه ربما سيقدم كبش فداء لبقاء الحركة الإسلامية على سدة الحكم. لذلك فإن الرجل طلب الحماية من روسيا ليس فقط خوفا من امريكا لكن خوفا أيضا ممن هم حوله. فالرجل تحمل كافة جرائم الحركة الإسلامية في الحكم وصولا إلى أن أصبح مطلوبا دوليا بجرائم حرب وهو لن يقبل أن يذهب إلى المشنقة وحيدا في حين يبقى في الحكم من أمروه وخططوا له. ان مؤامرة الحركة الإسلامية في ألسودان هي مؤامرة هيمنة ضاع خلالها الجنوب وإذا استمرت هذه المؤامرة فإن السودان كله سيضيع من بين أيدينا.
[email protected]
تعليقان
ليس هناك اي تهديدات من الخارج بل يتهربون من الازمه الموجوده الله ينجينا من حكومه العسكر هذا لن تسقط الا بالدعاء والرجوع الي الله