ألجزاء الذي نالته الحركة الشعبية قطاع الشمال من مخرجات إتفاقية السلام الشامل أقل ما يوصف به أنه جزاء سمنار، فقد قامت برفد الحركة الأم بخيرة الشباب المقاتلين الأشاوس من منطقتي جبال النوبة والأنقسنا في الوقت الذي انفض فيه السمار الجنوبيين من حول القائد الملهم الدكتور جون قرنق ديمابيور، فصمد يوسف كوة مكي ومالك عقار مع قائدهما المهزوم عندما باعه أبناء عمومته أمثال أروك طون أروك وكاربينو كوانين ورياك مشار ولام أكول بثمن بخس فهادنوا نظام الهوس الديني، ما يعني أن الذين وطدوا دعائم الحركة الثورية الوليدة التي مضى على تأسيسها في ذلك الوقت ثمان سنوات، هم الجنود والكوادر الذين يمثلون القطاع الشمالي للحركة، لكن عندما جاء موسم الحصاد لم يحصلوا على غير ذلك الحظ الذي ناله المهندس الماهر والبارع والفنان سمنار، الذي قطع السلطان يده بعد أن بنى قصر السلطان كما حدثتنا الرواية التاريخية التقليدية.
ألخطأ الأكبر الذي يرتكبه الصادقون دائماً وأبدا ويدفعون ثمنه أضعافاً مضاعفة لاحقاً، هو الإعتقاد في شخصية القائد الملهم والزعيم الأوحد والتماهي معها، حينها تسقط الحقوق وتضيع الممتلكات وتخيب الآمال وتحبط الطموحات، ما كان للقائمين على أمر التفاوض حول المنطقتين بضاحية نيفاشا أن يقبلوا بآلية المشورة الشعبية كخيار في حال رجّح الجنوب كفة الانفصال، بل كان عليهم التمسك بخيار أفضل وأكثر إلزاماً لإجبار وتركيع حكومة المؤتمر الوطني آنذاك مثل حق تقرير المصير، ومسؤولية التقصير هذه تقع على أكتاف الحلو وعقار وعرمان باعتبار انتمائهم للشق الشمالي للوطن قبل الانشطار، لكن ذوبان هؤلاء الثلاثة في كاريزما قرنق حرمهم من الرؤية المستقلة لمآلات الأمور، فدخلوا في متاهة كبرى بعد أن غلّب الجنوب خيار الانفصال فانشقوا الى فصيلين مختلفين في الرؤية والجغرافيا.
ألذي نراه اليوم من تقلبات في المواقف لقيادات القطاع الشمالي للحركة الشعبية نابع من خلل في المبدأ الذي تأسست عليه هذه الحركة الفرعية التي لم يستوعب فكرها ولم يتموضع هيكلها التنظيمي مع تطورات الأمور السياسية بعد انفصال الجنوب، فتأرجحت وتذبذبت ما بين الحنين لرفقاء الأمس الذين أخذوا متاعهم ورحلوا، وبين التحدي الجديد القائم بين يديها والذي فشل في تفسيره فكر السودان الجديد، فدارت حول فلك الحركة الأم شكلاً ومضموناً وسلوكاً، فتقوقعت في كاودا ولم تستطع الانفتاح على ذلك القطاع المجتمعي المنتمي لذات المكونات السكانية لنفس الاقليم، والذي يتمتع بثقل ودور سياسي وتاريخي ووطني مشهود، وأقصد بهذا القطاع سكان الأقليم من المجموعات الرعوية الراحلة والمقيمة، وانعكست المضامين السالبة لهذا التقوقع في الموقف الأخير لزعيم الحركة من رئيس الوفد الحكومي المفاوض الذي ينتمي إثنياً لهذه المجموعات.
ألمأساة الإجتماعية المستحكمة التي تعيشها الحركة الشعبية الشمالية، ليست معزولة عن مآسي اخواتها من حركات الكفاح المسلح الأخرى في إقليم دارفور، فذات الفصام المجتمعي حاصل بينها وبين بعض المكونات السكانية الراحلة والمقيمة، والاحتكاكات والمخاشنات مازالت جارية بين السكان بعضهم مع بعض بناءًا على ولاءاتهم السياسية المنقسمة ما بين الحركات والحكومات، وهذا يدل على عدم تحرر الثائر السوداني في كل الجهات من نعرة العنصر والقبيلة، فعلى الرغم من الخطاب الجميل لزعيم الحركة الشعبية والمشحون بروح الثورة ووطنية الطرح إلا أن سلوكه يقول (أنا نوباوي)، ويتطابق ذات الأمر مع الحركات الدارفورية التي عندما يقول فلاسفتها يكون قولهم فاصلاً وحاسماً لجدل الهوية وقاصماً لظهر القبيلة ومعترفاً ومقراً بمبدأ العدالة والمساواة، لكن فعلهم وسلوكهم يخالف هذا القول الجميل المتوشح بمعاني النبل الأفلاطوني البهيج، فتجد للقبيلة والعرق جذور ضاربة باطنابها في عمق أعماق عقل هذا الرمز القيادي وذاك.
ألطرح الذي قدمه جون قرنق حول رؤية السودان الجديد في المؤتمرات والندوات والمحاضرات آمنت به معظم جماهير الشعوب السودانية، وبشرت به النخب السياسية الحداثية وتلك التي تمردت على الموروث الفكري النخبوي القديم كالراحل منصور خالد والواثق كمير ومحمد جلال وغيرهم، لكن ما يزال السؤال الحائر يطرح نفسه:لماذا انفصل جنوب السودان؟ ولماذا انقسم مجتمع دارفور إلى عرب وزرقة؟ ولماذا إنفرط عقد المنظومة الاجتماعية لسكان إقليم شرق السودان؟، في تقديري أن الأجابة على كل هذه الأسئلة تكمن في تفكيك وتحليل عقلية رجل الفكر والسياسة والدين والمجتمع السوداني، الذي لا يأخذ التحديات الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية مأخذ الجد، هذا إضافة إلى هيمنة التناول الترفي والبذخي والشوفوني على هذا الرجل.
ألحركة الشعبية الشمالية بعد الأنشطار لشقين لم تعد تملك المسوغ السياسي لمخاطبة جموع السودانيين من المنظور الوطني الشامل، وفي المستقبل القريب غالباً ما تنصهر في تنظيمات سياسية وليدة وجديدة وحديثة تقودها ثورة الوعي الشبابي، وهنا نجد قائد الفصيل الأنقسناوي (عقار) أكثر براغماتية من صنوه الحلو في مواكبة تحديات المرحلة، ويتوقع أن يقود هذا العقار عملاً سياسياً ناجحاً بعد تحقيق مشروع السلام بعكس الحلو الذي تسيطر عليه العقلية العسكرية والذهنية الأمنية المعيقة لعملية التعاطي السياسي.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com