وفقاً للمعاجم اللُّغَويَّة فإنَّ الـ(إِلهاء) يعني إشغال أو صَرْفْ النظر عن الفعل أو الحَدَث، في مُختلف أوجُه الحياة، بدءاً بإدارة الدول ومُؤسَّساتها العامَّة والخاصَّة، وانتهاءً بالأفراد والجماعات. وتبعاً لقوته، فقد احتلَّ (الإلهاء)، أعلى مراتب استراتيجيات خداع الجماهير وتشتيت انتباه الرأي العام عن الأزمات والمشاكل الهامَّة، سواء بتحجيم المعارف الأساسية كالاقتصاد وعلم النفس والاجتماع والسياسة (صناعة الجَهْلْ)، وأحياناً بإشغال الجُمهُور المُستَهْدَف بأزماتٍ مصنوعة كالقتل والتشريد وإشعال الصراعات العرقية والعقائدية والأزمات الاقتصادية والمعيشية، ورُبَّما بالأخبار الهايفة وأماكن اللهو والعَبَث، فالهدف هو (أَسْرْ) الجُمهُور وتحجيم تفكيره في حدود مُعيَّنة. مما يعني، أنَّ الإلهاء يتمُّ عبر استراتيجية مدروسة بعناية ودقَّة، ليُحقِّق أهدافه المرجوة في التحكُّم بالمُجتمع المعني.
ولقد عانينا كثيراً في السودانِ من (إلهاء) المُتأسلمين الذين أجادوا تطبيقاته على أكثر من صعيد ولا يزالون، ساعدهم في ذلك آخرين بأدوارٍ مُحدَّدةٍ بعنايةٍ (أيضاً)، منهم من أدَّى دوره وذهب ولا يزال بعضهم مُستمراً، والضحية الأوحد كان السودان كدولة وكيان. وبنظرة فاحصة لأوضاعنا، يُمكن إدراك مَشَاهِدْ أكبر مسرحية الهائية دفعنا ثمنها غالياً من أرواحنا وكرامتنا وسيادتنا الوطنية، والتي شَمَلَت غالبية صور وأشكال الإلهاء المعروفة عالمياً، وأدَّت لتعزيز سيطرة المُتأسلمين، وتفتيت السودان وتمزيق نسيجه الاجتماعي والإنساني وتشريد أهله، وسيزدادُ الحال سوءاً إذا ما استمرُّوا هم وأشياعهم.
قادني لهذه المُقدِّمة التي اجتهدتُ في اختصارها، تصريحٌ للقائم بالأعمال الأمريكي في الخرطوم نَشرته صحيفة التغيير يوم 2 يوليو 2016، بشأن (استئناف) تعاوُن بلاده (الأمني) مع السودان، و(فَتْحْ) فُرَص (تدريب) عناصر جهاز الأمن بإشراف الاستخبارات الأمريكية، ولم يَنفِ المُتأسلمون هذه التصريحات التي جَرَت في احتفالٍ أقامته السفارة الأمريكية، بحضور ضباط للأمن والشرطة من رتب عقيد لفريق! وقبل هذا، وفي حواره مع صحيفة (واشنطن تايمز) بشهر مايو 2016، أقرَّ سفير المُتأسلمين في أمريكا بتعاوُن جماعته (الوثيق) وتنسيقها (الكامل) مع المُخابرات الأمريكية، والمعلومات الـ(ثمينة) التي قدَّموها لها، حيث قال نصاً: إنَّ دور جماعته غير محدود، ومن المُمكن توسيعه في شتى المجالات، وأنَّ آفاق التعاون بين (أجهزة مخابرات) البلدين ظلت دائماً مفتوحة! وهذا يتماشى مع إقرار مدير أمن المُتأسلمين السابق في يناير 2014، عن التعاوُن الوثيق بين جهازه أمنه ونظيره الأمريكي، وقال بوضوح أنَّ ذلك التعاوُن كان دائماً بـ(موافقة) و(إشراف) البشير المُباشر، وإطلاعه على كافة تفاصيله الصغيرة والكبيرة. بما ينفي مسألة (استئناف) التي ذكرها القائم بالأعمال في تصريحه أعلاه، والمُدهش حدوث ذلك التعاوُن في ظل حصار أمريكي شامل، كما يزعم المُتأسلمون!
وإذا أردنا الحديث بموضوعية عن الحصار ضد السودان، من الأهمية معرفة المُتسبب فيه والمُتضرر منه (فعلياً)، حيث بدأ العداء الأمريكي (الشكلي) للسودان منذ غزو العراق للكُويت، واتبعه تشديد الحصار الاقتصادي منتصف التسعينات، ثمَّ وضع بلادنا في ما يُسمَّى قائمة الدول الراعية للإرهاب. وبنظرةٍ فاحصة نجد بأنَّ الحصار طَالَ فقط السودان (الكيان والمقدرات)، بعدما اتَّخذه المُتأسلمون مُبرراً لتدمير عددٍ من مُؤسَّساتنا القومية كالخطوط الجوية والبحرية ومشروع الجزيرة، والتخلُّص من أصولها في صفقاتٍ مشبوهة لصالحهم. وتأثَّرَ قطاعنا الزراعي (محور اقتصاد السودان)، وارتفعت تكاليف إنتاجه ومُدخلاته، وتَرَاجَعت تطبيقات التقنيات المُستخدمة فيه، وزادت وارداتنا الغذائية وانخفضت صادراتنا منها .كما تأثَّر قطاع النقل الداخلي كالسكك الحديدية والنقل النهري لعدم توفُّر قطع الغيار، وقطاع الخدمات كالسياحة والاتصالات، حيث تمَّ بيع مُؤسَّساتها الكبيرة والناجحة التي كانت مملوكة للدولة كدار الهاتف وتوابعها وعددٍ من الفنادق، لمجموعة من الطُفيليين بحجة الحصار تارةً، وبحجة التحرير الاقتصادي تارةً أُخرى، وكلا المُبررين كانا لتغطية نهب وتدمير البلد ومقدراتها.
ومن بين انعكاسات الحصار كذلك، تعثُّر البعثات والمنح الدراسية التي كانت مُتاحة لجميع السودانيين سابقاً بأوروبا وأمريكا (وفقاً للتفوُّق والكفاءة)، واستفاد منها عددٌ كبيرٌ من قيادات المُتأسلمين الحاليين، وباتت مُتاحة فقط لمُؤيديهم دون بقية أبناء السودان. كما اتخذ المُتأسلمون الحصار مُبرراً لتعطيل استيراد أدوات المعامل والمُختبرات، ومُتطلَّبات العملية التعليمية بصفةٍ عامَّة، إلا ما يخص الـ(تجسُّس) والـ(تلصُّص) والـ(تضييق) على الشعب السوداني! وهناك العمل المصرفي تبعاً لسيطرة أمريكا على المُؤسَّسات المالية الدولية، كصندوق النقد والبنك الدوليين والمُنظَّمات التمويلية والتنموية الأخرى، حيث اصطدمت جميع برامجها في السودان بذلك الحصار! غير أنَّ الأخطر في موضوع الحصار، هو ارتباطه (المُباشر) بتمزيق السودان ومُساهمته بنحوٍ كبير في (فَصْل) الجنوب، باتفاقية نيفاشا التي أتت برعاية وضغط أمريكي (مُقابل) رفع الحصار، كما أشَاعَ المُتأسلمين والأمريكان والمُغامرين معهم آنذاك، وتتواصل ذات المسرحية الآن لتكرارها بكلٍ من دارفور والمنطقتين والحديث يطول في هذا الجانب ولا يسع المجال لذكره. وهنا نتساءل: لماذا يُحَاصَر السودان؟ وما حدود ذلك الحصار؟ وهل يستثني جهاز الأمن الإسلاموي بإجرامه الظاهر على السودان وأهله؟! والأهمَّ هل (طَالَ) الحصار المُتسبِّب فيه فعلاً؟
الواقعُ أنَّ المُتأسلمين هم الذين صنعوا الحصار عَمْداً، دون أن يتأثَّروا به سواء ككيان طُفيلي أو أفراد مُغامرون، بل العكس تماماً، فقد سيطروا على مفاصل الدولة، وأحدثوا بها تراجُعات مُخيفة. ويبدو أنَّ للحصار الأمريكي أهدافاً أُخرى غير المُعْلَنَة والمُتأسلمون هم أداة التنفيذ، استناداً لعددٍ من المُعطيات (الواقعية)، لعلَّ أبرزها إقرار المُتأسلمين والأمريكان على حدٍ سواء بـ(تواصلهما) و(تعاوُنهما) الدائم، في أخطر الجوانب وهي الأمنية والاستخباراتية، والذي شَمَلَ بجانب ما ذكرناه أعلاه، بناء أكبر سفارة أمريكية في أفريقيا والشرق الأوسط بالسودان، مما يجعلنا أمام نتيجة واحدة فقط وهي التآمر المُشترك على السودان، وهي أمورٌ واضحة ولا تحتاج لاستدلال! وهنا لا نلوم أمريكا لسعيها نحو مصالحها، وإنَّما نلوم المُتأسلمين والمُتاجرين معهم بالوطن وأهله.
الحقيقة القاسية والمُرَّة أنَّنا كنا، ولا زلنا، نحيا مسرحية (إلهائية) كبيرة، بدءاً بالحروب والصراعات والفتن الداخلية باسم الإسلام، وانتهاءً بمُتاجَرَة غالبية (قادة) المُعارضة والموالين والإصلاحيين، عبر فتاويهم وخُطَبهم وبياناتهم ومَطَالِبْهم الثورية (شكلاً) والكارثية (مضموناً)، وزوابعهم المصنوعة باحترافية لإهاء الرأي العام وإكسابهم بعض المصداقية، مدعومين ببعض أرزقية القلم الذين لم يُراعوا قدسيته وحَطَّموا قِيَمَهُ ومُثُلَه، حتَّى بلغنا قاعاً ما بعده قاع، وساد فينا الانحطاط بكافة صوره، وأصبحنا بلداً منكوباً ومُعَرَّضاً للتلاشي بكل ما تحمله الكلمة من معاني. إنَّها الحقيقة نقولها ببساطة ووضوح كواقعٌ عشناه ولا زلنا، ومُفتاح خلاصنا بأيادينا، وعلينا تحرير ذواتنا وألا سنكون (جُزءاً) من مآسينا، علينا العمل على التأسيس لسودانٍ مُحترم يسوده العدل والحرية والمساواة، دون انتظارٍ لمُجتمعٍ دولي سواء أمريكا أو غيرها، ولنثق بأنَّهم سيأتوننا لاهثين بعدما نقتلع هؤلاء لأنَّ مصالحهم ستُصبح معنا.
والدعوة مُوجَّهة لشرفاء السُودان عموماً ولمُنتسبي الكيانات المدنية والمُسلَّحة بصفةٍ خاصَّة، لتجاوُز الديناصورات والمُتاجرين والمُتـكلِّسين وذوي المصالح المُشتركة مع المُتأسلمين، دون مُبالاة أو إحساس بالبلاد المُتآكلة والمُمزَّقة وأهلها المقتولون والمُشرَّدون! فكيف نعفوا عمَّن أجرموا في حق شعبٍ كامل؟! وهل فوَّضناهم ليبيعوا ويشتروا ويقتسموا البلد وأهلها هم وأبناؤهم، ويحجبون عنا حتَّى حقَّ الـ(مُساءلة) ناهيك المُحاسبة والاقتصاص! فرفعُ الحصار لا يُلغي المُحاسبة والعقاب، ينبغي أن يكون الهدف الاستراتيجي اقتلاع ومُحاسبة كل من تسبَّب وساهم فيه، وفي كل مآسينا وأزماتنا التي ذكرنا بعضها أعلاه، ولابد أن يتحمَّلوا ما اقترفوه من جرائم تشيبُ لها الرؤوس وتندي لها الجباه حياءً.
ونقول للضُبَّاط الذين حضروا تصريحات القائم بالأعمال أعلاه ولزملائهم، لقد آن أوان انحيازكم لأهلكم وبلدكم فلا تُساهموا في الفجور الإسلاموي، ولا تغُرَّنَّكم دورات القتل والإجرام التي يبتعثوكم اليها بالخارج حتَّى ولو كان لأمريكا، فسوف يتخلَّصون منكم كما فعلوا بأسلافكم ولتسألوا ذواتكم عمَّا جنيتموه وجناه البلد من إتباع البشير وأزلامه؟ ولمصلحة من تقتلون ولماذا تتحمَّلون هذه الأوزار وإلى متى، وما الذي يحدث لو انقلبت الأحوال وذهب هؤلاء؟ فالمُتأسلمون لا أمان لهم ولا عهد، وسبق ووصف كبيرهم (المقبور) موتى العمليات الحربية (أسلافكم) بأنهم ليسوا شهداء! هكذا ببساطة جعلهم (فطائس)، لمجرَّد إكمال أحد مشاهد مسرحياتهم العبثية التي لا تنتهي! وكم من قائدٍ كان بينكم تجاهلوه و(رموه)، في أبشع صور الغدر بعدما أَكْمَلَ دوره وصار (عبئاً) عليهم!
ولبقية شعبنا المنكوب بالمُتأسلمين والأمريكان بصفةٍ خاصة، ولمُترقِّبي المُجتمع الدولي عموماً، أُكرر ما ظللتُ أقوله بأنَّنا المعنيون بأنقاذ ذواتنا، فقد عشنا أسوأ كوابيسنا خلال ربع قرنٍ مضى، لم ينفعنا فيها الخوف أو التغاضي عن الإجرام بحجة البُعْد عن بُؤر الصراع، فما من بُقعةٍ في في السودان إلا وطالها إجرام المُتأسلمين، على مَسمَع ومرأى من أمريكا والمُجتمع الدولي بل وبدعمٍ مُباشرٍ منهم كما أوضحنا، فلنَهُب جميعاً لإنقاذ ذواتنا وبلادنا، وحتماً سننجح لو توفَّر الصدق والإرادة بعيداً عن المُتاجرين والمُغامرين.