عقب نَشْرْ مقالي الأخير (ثُمَّ مَاْذَاْ بَعْدَ اَلْعِصْيَاْنْ ؟!)، انهالَت مئات الرسائل على بريدي ما بين مُختلفٍ ومُتِّفق جُزئياً أو كاملاً، ولَفَتَ نظري تعليقات البعضُ بشأن مجلس الشباب (السيادي) الذي اقترحته لقيادة التغيير وإدارة البلد عقب اقتلاع الكيزان، وبصفةٍ خاصة الاستفسار عن مُبرِّراتي لاستبعاد الكيانات السُّودانية، وعن (قُدرة) الشباب على إدارة السُّودان بظروفه الماثلة وغيرها من الأسئلة.
من المعلوم أنَّ فئة الشباب هي الأكثر حماساً وحيوية، وتقبُّلاً للأفكار الجديدة والتفاعل معها وتطويرها، وعدم التقوقُع أو الجمود، ولديهم القدرة على التعاطي مع ديناميكية الحياة بمُستجدَّاتها ومُتغيَّراتها المُتلاحقة والمُتسارعة، ويتمتَّعون بطاقاتٍ كبيرةٍ وإبداعاتٍ وطموحاتٍ عالية، مُقارنةً بغيرهم من فئات المُجتمع العُمِرِيَّة الأخرى، وهو ما تنتهجه العديد من دول العالم كأساسٍ للنهضة والتقدُّم، حيث أتاحوا فرصاً واسعة أمام شبابهم لإدارة وتسيير بلادهم في إطارٍ من الديمقراطية، المحروسة بالقوانين والتشريعات الرصينة، والمدعومة بالعلم والمعرفة والأخلاق! ونحن في السُّودان بعيدون تماماً عن هذه المفاهيم والمُمارسات الحضارية، التي نهضت وارتقت بالعديد من الدول استناداً لسواعد وعقول الشباب، وكل ما تفعله كياناتنا السياسية (دون استثناء) هو انتظار (توقُّع) تحقُّق الغايات لـ(واقع) مُعاش، ويخلطون (بكارثية) بين مصالحهم وغاياتهم الحزبية والذاتية وبين الوطن!
وبتعبيرٍ آخر، فإنَّ الصراعات السياسية القائمة بالسُّودان منذ الاستقلال وحتَّى الآن سببها المنافع السُلطوية والمالية، وهي بعيدة تماماً عن نهضة الدولة وبقاءها واستقرار وترقية أهلها، ويتجلَّى الأمرُ بوضوح في (سيادة) قِيَمْ الـ(ولاء) وتقاطُعها مع (الكفاءة)، وتركُّز كل أمور الكيان المعني في الهرم المُسمَّى مجازاً (قيادة)، وعدم مُراجعة ذلك الهرم والتعامل معه بصورةٍ أقرب للتقديس، رغم فشلهم (قادة الكيانات السُّودانية) المُتراكم، وعدم مُراعاتهم لعوامل العُمر واختلاف الأفكار وأسلوب الحياة بين الأجيال، وعجزهم عن مُحاكاة القادة العُظماء الذين يهتمُّون بتهيئة وتفريخ (القادة)، وليس الإبقاء على (التابعين) كما يفعل (ديناصورات) كياناتنا، وهي إشكالية تُعاني منها جميع الكيانات السُّودانية، وساهمت – بشكلٍ أو آخر – في قصور الأداء السياسي وتعميق سلبياته وتحجيم مُساهماته، وأفْضَت لتشرذُم عدد من كياناتنا. فالديكتاتورية والانفراد باتخاذ القرار هي السِمَة الغالبة، مع غياب الفكر والتخطيط الاستراتيجي (الرُؤى العلمية والعملية)، ويرفض (قادة) كياناتنا عمليات الإحلال والتجديد، ويُعرقلون جهود الأفراد ولا يعقدون اللقاءات أو المُؤتمرات التنظيمية لتقييم المسيرة وتقويمها والتخطيط للمُستقبل، بما يتنافى ومبادئ الإدارة العلمية، التي بدونها يتعذَّر تحقيق أي تقدُّم في عالمٍ لا يعرف غير العلم وتطبيقاته في العمل.
وفي الوقت الذي يحيا فيه الموصوفين بقادة ورموز وأسرهم في دَعَّةٍ ورفاهية، انحصرت التضحيات على الشباب ولا نُبالغ إذا قلنا بأنَّ سُمعة ومنافع جميع الكيانات السُّودانية (مدنية/مُسلَّحة)، اعتمدت على الشباب الذين قَدَّموا الغالي والنفيس إيماناً بقِيَمٍ ومُثُل تَجاَوَزها الديناصورات والمُتاجرين، الذين استفردوا بالسُلطات داخل كياناتهم دون إنجازاتٍ تُذكَر، واعتبروا الشباب مُجرَّد معابر لتحقيق غاياتهم المالية والسُلطوية، بما يعكس اختلالاً فكرياً وتربوياً (مُتوارثاً) يتحتَّم تعديله. وهذا هدفٌ يصعُب تحقيقه مع غياب التفكير ومُتَاجَرَة وتكلُّس قادة كياناتنا وقصور طموحاتهم، وتمجيدهم لذواتهم وترسيخ تواجدهم وتوريث أوضاعهم لأسرهم، واستهلاكهم لطاقات الشباب في صراعاتٍ جانبية خارج وداخل الكيان الواحد!.
لهذا اقترحتُ إنشاء مجلس الشباب، الذي يضم كل شباب السُّودان سواء المُستقلِّين أو المُنضوين في الكيانات السُّودانية (أحزاب/حركات مُسلَّحة)، فهو مجلسٌ شبابيٌ قومي لا يعزل أي طرف يرغب في خدمة بلده وأهله، ويحتوي على ممثلين اثنين من كل إقليم وفق التقسيم الإداري القديم (دارفور، كردفان، الشرقي، الأوسط، النيل الأبيض، النيل الأزرق، الشمالية والخرطوم)، يُساعدهم نُخبة من خُبرائنا (المُستقلين) في شَتَّى المجالات (وما أكثرهم)، ليقوم الجميع بوضع استراتيجية السُّودان العامَّة بالفترة الانتقالية عقب اقتلاع الكيزان، والتي ينبغي أن ترمي لتحقيق هدفين رئيسيين، أوَّلهما ترقية (الوعي) بكافة صوره وحدوده، وعيٌ يشمل كل مناحي الحياة عبر ترقية النظام التعليمي (أكاديمي وتربوي/أخلاقي). والهدف الثاني، تحقيق التنمية المُتوازنة وتقوية الاقتصاد لتخفيف مُعاناة الشعب وإنهاء التهميش الذي استغلَّه المُتاجرون بقضايا البلاد وأهلها.
الحقيقة المُرَّة أنَّنا لم نَرْتَقِ بعد لمُمارسة العمل السياسي الرصين، ونحتاجُ لوعيٍ كبير يدعم مُمارساتنا السياسية عقب فشل الجميع في (المُحافظة) على السُّودان ناهيك تقدُّمه وتطوُّره، خاصةً كياناتنا التاريخية التي فشلت منذ الاستقلال وحتَّى الآن في وضع دستور دائم، كما فشل الجميع في اقتلاع المُتأسلمين وإيقاف تدميرهم المُتواصل للبلاد التي باتت على حافة التلاشي، وهذا يكفي تماماً للاقتناع بعدم (حاجة) الشباب للموصوفين بـ(قادة) وكياناتهم المُتهالكة، وليس من الحكمة تجريب المُجرَّب، ولا يُوجد مُبرِّر لحَصْرْ وتحجيم الشباب تبعاً لأهواء ومطامع شخصية لثُلَّة من المُغامرين والمُتكلِّسين. وينبغي على شبابنا التعلُّم من تجارُب الدول المُجاورة، كالتجربة المصرية، حينما أطَاحَ الشباب بمُبارك استناداً لوسائل التواصل الاجتماعي، لكنهم فشلوا في الحفاظ على الثمرة التي اختطفها المُغامرون، لافتقاد الشباب لاستراتيجية تغيير مُتكاملة (قبل وبعد التغيير).
وليثق الشباب بأنَّهم قادرون على تحقيق التغيير المنشود وإدارة وتسيير السُّودان عقب اقتلاع، ولديهم الإرادة والعزيمة لبلوغ هذه الأهداف النبيلة في ضوء نضالاتهم المشهودة التي لا تُخطئها الأعين. وفي ذات الوقت، ليعلم شبابنا أنَّ إحداث التغيير (المنشود) له مُتطلَّبات بعيدة عن الهتاف والبيانات أو (التجزئة) والعمل بالقَطَّاعي، فهو عملٌ مُستمر يحتاجُ لتنظيمٍ وتخطيطٍ مُحكم، وقيادةٍ واعية و(أخلاقية) لا يعلو عندها أي شأنٌ آخر سوى السُّودان (الكيان) وأهله، وما لم تتوفَّر هذه العناصر يصعُب إحداث تغيير (جذري) حقيقي، وحتَّى لو حدث فسيفشل (إعادة إنتاج/تدوير الفشل). وليعلم شبابنا، أيضاً، أنَّ مرحلة ما بعد التغيير هي الأخطر، وتحتاجُ لرُؤيةٍ (استراتيجية) رصينةٍ وموضوعة مُسبقاً والبدء بتنفيذها فور نجاح التغيير، تلافياً لأي فراغٍ مُؤسَّسيٍ أو فوضوي قد يحدث فلا تُحمَد عُقباه، وستجدون معكم العديدين من خُبراء السُّودان (المُستقلِّين) في مُختلف المجالات، داعمين ومُرشدين ومُؤيدين لكم.
لقد أبليتُم يا شبابنا بلاءً حسناً حتَّى، وبذلتم جهوداً مُقدَّرة وأدخلتم الرُّعب في دواخل المُتأسلمين ومن والاهم، وما تهديداتهم وخُطَبِهِمْ وتصريحاتهم الجوفاء إلا دليلٌ على ذلك الرُّعب، أنكم فقط بحاجة للاتحاد والتنظيم وأنتم الحاضر والمُستقبل لكم.. سارٍعوا بتشكيل مجلسكم الشبابي القومي وتكملة الطريق لأجل أهلكم وبلادكم، ولا تلتفتوا لأقاويل المُخذلين الذين يُقلِّلون من نضالاتكم ويسعون لتثبيطكم، فأنتم أصحاب قضية وحق، وحتماً ستقطفوا ثمرة غَرْسِكُم (قريباً) حريةً وعدالةً وعِزَّة.