في بيانها الختامي واعلانها الدستوري يوم امس , اسقطت قوى نداء السودان خيار المقاومة المسلحة من اجندتها , برغم عظم تمثيل التنظيمات المسلحة في هذا الكيان , مثل الحركة الشعبية وحركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة , فقد ورد في اكثر من فقرة من فقرات البيان الختامي و الاعلان الدستوري التأكيد على العمل السلمي في مقاومة النظام , دون غيره من الوسائل الاخرى مثل العمل العسكري , السؤال الذي يطرح نفسه : هل جاء هذا التوافق بين التيارين المدني و العسكري في نداء السودان على هذا المبدأ , نتيجة لغياب فصيل عبد العزيز الحلو الموجود على الارض ؟ فكما هو معلوم ان فصيل الحركة الشعبية الذي يتزعمه الحلو هو الفصيل الاوحد من الفصائل المسلحة الذي لم يبارح ارض الوطن , و ظل محتفظاً بجيشه وقوته العسكرية , كذا و مقاومته للنظام , ان تنازل فصيلي عقار وعرمان من جهة ومناوي وجبريل من الجهة الاخرى عن خيار المقاومة المسلحة له تفسيران , الاول : انهما فقدا قوتهما العسكرية على الارض , ولم يعد لهما قطعة سلاح واحدة يحملها جندي من جنودهما في وجه مليشيات النظام , ولذا آثرا اختصار الطريق المفضي مسلكه الى حضن النظام , في اقرب جولة مفاوضات مرتقبة مع المنظومة الانقاذية , خاصة وان الصادق آتٍ اليهم من عمق المطبخ السلطوي , وهو الاكثر معرفة ودراية بنوعية الوجبات التي يطبخها (شيف) القصر الجمهوري , الذي يعمل على اعدادها للقاديمن للاستوزار و الالتحاق بجوقة السلطان , لا سيما وابنه يتمتع بحضور ماثل داخل القصر الرئاسي , اما التفسير الثاني هو : ان الثنائي عقار و عرمان وبحكم خبرتهما السياسية الطويلة و حنكتهما التكتيكية , قد طغى تأثيرهما على الآخرين , فنجحوا في اسقاط خيار المقاومة المسلحة من اجندة الوثيقتين , خوفاً من ان يسقطهما النظام من حساباته , ويصل مع الحلو الى اتفاق سياسي عبر مفاوضات سريعة وخاطفة .
المراقب لتطورات مسيرة قطار الثورة المسلحة في دارفور يجزم تماماً , انه ما كان بامكان الكادر السياسي والمدني الدارفوري الوصول لبعض الحقائب الدستورية العليا في الهيكلية الحكومية للمنظومة الانقاذية , لولا اولئك الفتية الذين حملوا ارواحهم على اكفهم بداية الالفية الثالثة , فارعبوا مركزية الدولة الانقاذية في ذلك الاوان , الذي كان فيه النظام يتأهب لحسم ملف الحرب في الجنوب عبر منبري ماشاكوس و نيفاشا , بل ما كان للراحل قرنق ان يحصل على ما حصل عليه من نصيب ملك الغابة , في اتفاقية السلام الشامل النيفاشوية , لولا تلك الشرارة التي اشعلها اولئك الشباب من قمة جبل مرة , فكل هذه المكاسب حققتها فوهة البندقية , فالطغاة لا يهابون الا من يحمل المدفع , والرفيق مني اركو مناوي هو سيد العارفين , فاليرجع بذاكرته الى تلك الايام التي وصف فيها نفسه بمساعد الحلة , فتلك الحلة ما زالت تغلي على نار القصر الهادئة , وسوف تقوم بالامساك بمسواط ومفراكة تلك الحلة مرة اخرى ايضاً , اذا دخلت مع النظام في اتفاقية سلام وانت اعزلاً مجرداً من السلاح , فدويلة كتشنر لا تقيم وزناً لمن يحمل الرؤى و الافكار و العلوم , ان لم يكن مسلحاً براجمات الكاتيوشا , لقد قيل و العهدة للراوي , ان احد الصحفيين سأل الراحل قرنق بعد توقيعه لاتفاقية نيفاشا , ما هي ضمانة تنفيذ هذه الاتفاقية التي وقعتموها مع الطرف الحكومي ؟ فكان رد قرنق : جيشي . , فلولا الجيش الشعبي لما وصل شعب السودان الجنوبي الى الانعتاق من اغلال دويلة الاقلية , فاليوم كل من مناوي و جبريل وعقار و عرمان يخذلون شعوبهم التي دهستها آلة المنظومة الانقاذية , وتركتهم لاجئين و نازحين ومهاجرين و مهجّرين في ارض الله الواسعة.
اكثر من يعجبني مِن الذين ينتقدون الصادق المهدي , هو الدكتور منصور خالد , فعندما يسأل عن رأيه في الصادق يقول , ارجو ان يكون صادقاً وان يكون مهدياً , فمسيرة الصادق السياسية اتسمت بالتذبذب و الامساك بالعصا من منتصفها , وعدم اكتراثه للعمق الجغرافي الذي تقطنه الجماهير التي تدين له بالولاء , في كردفان ودارفور , فهو رجل ضعيف في طرائق حفاظه على الارث الشعبوي الذي تركه جده المهدي الاكبر , و فاشل في احتواء قضايا شعوب غرب البلاد التي أتت به فائزاً في سباق آخر انتخابات ديموقراطية في السودان , تلك الديموقراطية التي لم يعمل على الحفاظ والعض عليها بالنواجز , فتركها لقمة سائغة للاخوان المسملين فالتهموها و التهموا معها وطناً بأكمله .
من عيوب الاعلان الدستوري لقوى نداء السودان ماورد بالفقرة رقم (6) , وتعريف هذا الحراك لنفسه (بالمؤسسة) المدنية و الديمقراطية الجامعة , في رأيي ان حصر مسمى هذا الحراك في اطار المدلول الاصطلاحي المتعارف عليه من قبل اهل علم الادارة عن المؤسسة , يخصم كثيراً من استقلالية و خصوصية المكونات المنضوية تحت لوائه , فكان يستحسن ان يطلق عليه مسمى تحالف او تجمع , فمصطلح مؤسسة هذا فيه تذويب لكيانات هذه الحركات السياسية المسلحة التي لها كسبها في حقل العمل العام , في وعاء ضيّق , وانه ليس من الانصاف ادراج هذه المنظمات السياسية في جسم يشبه شركة المساهمة العامة , التي لها مساهمون و مجلس للادارة ومدير عام ومدير تنفيذي , فيها تتنزل القرارات من اعلى الى اسفل , ليقوم المدير التنفيذي بمهمة انفاذ ما جائه من الدائرة التي تعلوه , دون ان يكون له وضعية مستقلة , في ابداء الرفض او الرأي الجامع الذي يأتيه من منظومته التي ادخلها في هذا الحيّز الضيق لهذه المسماة (مؤسسة) , ايضاً من هلامية ما جاء في هاتين الوثيقتين هو وضع جند الازمة المعيشية التي يعانيها سكان المدن السودانية قبل جند قضية النازحين و اللاجئين , هذه القضية المحورية التي تعتبر الاكثر اهمية و الاقدم , والتي لها اولوية سابقة لازمة الخبز و الغاز في البلاد , فهؤلاء النازحون فقدوا ديارهم و ذويهم و تركوا مزارعهم و بيوتهم ليعيشوا تحت ظلال الرواكيب المبنية بجوالات البلاستيك لمدى اكثر من اربعة عشر سنة , كان من الاولى ان يقوم من يمثلهم في حركتي التحرير و العدل والمساواة بالزام ادارة محضر اجتماع نداء السودان بوضع بند النازحين و اللاجئين في صدارة اجندة البيان الختامي , حتى يحفظوا لاهاليهم حقهم الادبي , وذلك يعتبر اقل تقدير يمكن ان يوفوا به لهذا النازح و ذاك اللاجيء , في قضيته العادلة التي عرف عنها القاصي و الداني.
فالقضية اجمالاً تتمحور حول الظلم الممنهج الذي أسست له الحكومات المركزية المتعاقبة , فرمزية مثل رمزية الصادق تعتبر احدى ركائز هذه الانظمة المركزية , التي لا يؤمل فيها ان تخدم قضايا اطراف البلاد البعيدة , ولو كان هنالك رجل بمقدرات قرنق في هذا الحراك السوداني المعارض , لما اتاح لرمز طائفي ان يتسيّد الناس , تماماً مثلما قام قرنق في الماضي القريب باستخدام رموز الطائفية في التجمع الوطني الديمقراطي , كجسر للعبور الى تحقيق اجندته واهدافه , فقادة الحراك الدارفوري فشلوا في هذا الامتحان السياسي , ورهنوا مشروعهم الثوري الذي سكبوا فيه نفيس الدماء و غالي الدموع , لرجل له تاريخ عريق في الخذلان و تثبيت اوتاد واركان انظمة الحكم المركزية الظالمة في السودان.
اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com