عقد المجلس القيادي العشريني لقوى نداء السودان في الفترة من الاثنين ١٨ وحتى الخميس ٢١ يوليو في العاصمة الفرنسية باريس إجتماعه الذي هو الأول للمجلس الوليد، وقد أصدر في ختام جدول أعماله بياناً حفل بالكثير من التنظير والتسويف، لا يُفهم من البيان سوي ميزة التسويف الذي أصبح نهجاً ونبراساً تهتدي به المعارضة السودانية، كنا ننتظر خطوات عملية ولكن قد خرجت لنا المعارضة الباريسية بشيئين رئيسيين نقيضين تماماً وهما إسقاط النظام عبر الإنتفاضة السلمية والنقيض الآخر الإستبشار بفلاح جهودها في إدراج بعض ما يرغبون في إلحاقه بخارطة طريق أمبيكي وأن هناك مؤشرات تؤكد ذلك بعد إجتماعاتهم مع مناديب المجتمع الدولي وأنهم حتماً في هذه الحالة سيوقعون على الخارطة في مقبل الأيام في أديس أبابا، بل إن ترتيب النقيضين في البيان يدل على أنها لا تملك إستراتيجية واضحة في معارضة النظام، فالأوفق أن تكون محاولات الحوار المستحيل أولاً وبعد فشله التظاهرات السلمية ثانياً ويتضح من هذا الترتيب حجم المأزق الذي تحيا فيه المعارضة.
فليعلم الجميع أنه طالما هناك دكتاتور فلابد أن تكون هناك مقاومة ومعارضة بحجم هذا السوء المقيم فلكل فعلٍ رد فعل مساوٍ له في الجهد ومضادٌ له في الإتجاه، فمابال الناس إذا كان هذا النظام الدكتاتوري هو من أسوأ الأنظمة الدكتاتورية التى عرفها التأريخ وفليفخر أهل الإنقاذ بهذه الريادة ولكن يوماً ما سيصبح فخرهم هذا ندامةً إذ لاجرم أنهم سيلاقون جزاءهم الأكبر؟ ولكن ما يعنينا هنا المعارضة، لماذ ظلت تبحث دوماً عن حائط ليسند عليه نظام الإنقاذ ظهره كلما لاح في الأفق بارقٌ يُبشر الشعب السوداني بزواله ؟ ماذا يعني التوقيع على خارطة طريق حوارٍ لا يفضي في خواتيمه إلى تشكيل حكومة إنتقاليه تخرج البلاد من عنق الزجاجة التي تحيا فيه، في الوقت الذي أنهي فيه النظام الحوار بالطريقة التي تحلو له وتضمن بقاءه في السلطة بصفةٍ نهائية؟ لقد قالوها، همساً وجهراً، أن الحوار لن يُفضي إلى تسلم حكومة إنتقالية لزمام الأمور في البلاد، وكلنا نعلم أنه لن تنفرج أزمات البلاد وهذا النظام في سدة السلطة، فلماذا تخشى المعارضة دفع تكاليف التغيير؟.
لو كان هناك إستراتيجية تتبعها المعارضة في تحقيق هدف إسقاط النظام لعذرناها ولكن كل الشواهد تؤكد أن المعارضة لا تملك شيئاً من ذلك، وأيضاً لاتملك القدرة على تحريك الشارع كما تزعم ولكنها تملك القدرة على إصدار ضجيجٍ يصم الآذان حتى ليخال المرءُ أن نظام الإنقاذ سيُواجه وقتاً عصيباً جرّاء فعل المعارضة، فإن لم يكن ذلك صحيحاً فمتى سوف تخوض المعركة الفاصلة مع نظام الإنقاذ؟ وطالما تدعي هي بأنها المعارضة وأنها تتحدث بإسم المسحوقين وضحايا النظام الفاشي فلابد أن تتحسب على أن الرأي العام ينتظر منها أن تتخذ موقفاً واضحاً حيال المعركة الفاصلة، أو سيعتقد الآخرون، وهم محقون، أن المعارضة ليست معارضة حقيقية وأنهم ثلةٌ من الإنتهازيين ينتظرون الفرصة الملائمة بعد ذهاب الإنقاذ للقفز على السلطة بحجة أنهم كانوا يُعارضون النظام، موقفها هذا يُشبه موقف ذلك الحيوان القمَّام الذي لا يصطاد ولكنه ينتظر ذهاب الحيوان الصياد ليأتي ويستفرد بباقي الجيفة!!.
للأسف المعارضة تريد أن يسقط النظام بطوعه وبيده لا بيد عمرو وتتولى هى أمر سدانة سلطة البلاد، ولكنها لا تريد أن تدفع فاتورة أي نوع من أنواع التغيير، فهي تتحدث عن التغيير السلس والسلمي، وحتى مطلوبات التغيير السلس والسلمي لا تريد أن تدفعهما، ولا تفتأ تكرر ذلك ونظام الإنقاذ في ذات الوقت ظل يُكرر أن من أراد السلطة فعليه بحمل السلاح وهو موقفٌ واضحٌ وجلي لم تحد عنه العصابة الحاكمة منذ إستيلائها على السلطة وحتى تاريخ هذا اليوم، وإن كانت هناك محمدة واحدة لرجال نظام الإنفاذ وكلمة صدق قالوها في عهدهم الملئ بالأكاذيب فإنهم أهدوا للمعارضة السياسية سبلها ولكنها لم تسلكها، إذ أجابوا عليها إجابةً صادقة عن الكيفية التي ينبغي عن طريقها يتم تدوال السلطة في البلاد وأنهم لن يتركوها إلا بالطريقة التى بها عليها استولوا، قالوها منذ بواكير عهدهم قبل أكثر من ربع قرن وثبتوا على ذلك وما بدلوا تبديلا، كذبوا في كل شئ إطلاقاً إلا في هذه، لم يجاملوا قط وظل قفاز التحدي ملقً على وجه المعارضة لكنها تِزْوّر وتُحيد بحججٍ مضحكةٍ ومثيرةٍ للشفقة.
لقد إتضح جلياً أن المعارضة تنتظر أمرين لاثالث لهما، أولهما أن يهب الشعب السوداني ويثور ويملأ شوارع البلاد والساحات العامة بالهتاف الدواى حتى يفر جمع الطاغية وحينها تهب هي لإعتلاء خشبة المسرح السياسي والسيطرة على مقاليد الأمور، هنيئاً مريئاً، كما في سالف الأيام وغابر الأزمان، إلا أنها في غمرة الأحلام التي تدغدغها بسقوط النظام سهواً نسوا أن أهل الإنقاذ قد خبروا سيرة التاريخ السياسي السوداني ووضعوا لكل إحتمالٍ ما يستحقه من إحتياط ولا غرو في ذلك إذ أنهم كانوا مشاركين بفعاليةٍ في صنع ذلك التأريخ ومنذ ذاك كانوا يتآمرون للوصول إلى ما هم فيه اليوم، ولذلك تحسبوا لأي طارقٍ قد يهدد سلطتهم المغتصبة خاصةً وهم يعرفون خصومهم في الساحة السياسية الذين يواجهونهم ويعرفون طريقة “لعبهم وتكتيكاتهم” في مثل هذه المواقف، وأنهم لا يطيقون المخاشنة وكآبة الزنازين ولكنهم يحتملون ملامسة الكراسي الوثيرة وحياة الدعة ولكن مشكلتهم أن نفوسهم تنازعهم نزعاً لمعاقرة السلطة لولا ذلك لما حفلوا إن بقت الإنقاذ أو زالت.
بل حتى عندما سنحت للمعارضة السياسية الفرصة في سبتمبر 2013م وخرجت جماهير طلاب المرحلة الثانوية وأشعلوا الشوارع غضباً ووعداً وتمنى وحانت ساعة المواجهة الحقيقية توارت المعارضة تنتظر لحظات السقوط المدوي للنظام إثر مظاهرات وإحتجاجات الأيفاع الذين قمعهم النظام بلا رحمة لتنكمش المعارضة في مخابئها حتى بدا وكأن السودان لم يشهد قط معارضة سياسية في عمره المديد، وإن صدق ما نقوله وثقته الكاميرا فلم تكن أشلاء الموتى سوى لتلاميذ المدارس الثانوية وبضع طلاب من المستوى الجامعي، أين كانت المعارضة تختفي والتلاميذ يقدمون لها فوق جثثهم فرصةً ذهبية لقيادة البلاد وكتابة تاريخ مشرقٍ للسودان؟ الإجابة واضحة مثل الشمس في رابعة النهار فالمعارضة أحجمت عن التصدي لقيادة تلك المظاهرات العفوية والتي كانت في أمس الحاجة للقيادة السياسية المجربة لأنها أدركت بحسها المتقهقر أن النظام الذي فعل ذلك بهولاء التلاميذ الصغار لن يتوانى في سحق الكبار وسحلهم، ولا يُلام النظام فهذا هو ديدنه وماذا ينتظر الناس من نظامٍ دموي سوي القتل وسفك الدماء؟ ولكن تُلام المعارضة التي تدعي جنوحها للسلمية وترفض أن تواجه النظام بأسلحته، تُبدي للرأي العام تمسكها بالحلول السلمية في ظاهر الأمر ولكنها تخفى بؤساً وجبناً وإنتهازيةً مقيتةً من مواجهة نظام الإنقاذ.
أما الفرضية الثانية التعويل على دول الغرب لمساعدتها في تغيير النظام، من أكبر أخطاء المعارضة السودانية، بشقيها المسلح والمدني، أنها عوّلت على الغرب بصفةٍ عامة وعلى أمريكا بصفة خاصة في التأثير على القضية المركزية للشعب السوداني والتي تتعلق بإسقاط نظام الإنقاذ الآيل أصلا إلى السقوط !! وهو أمرٌ ما كان يجدر بالمعارضة التعويل عليه لو كانت تلم بطريقة تفكير الغرب ومنهجه في التصدي لقضايا دول العالم الثالث وعلى وجه الخصوص تلك التي تتعلق بدول القارة الأفريقية وصراعاتها، وأنا أعجب لمعارضةٍ بعض قيادتها قد بلغوا من العمر عتيا ولم يتعلموا بعد كيفية تعامل الغرب مع مثل هذه القضايا، لقد قال الغرب مراراً وتكراراً إنه لن يدفع فواتير التغيير السياسي في أي بلد إلا في حال تهديد مصالحه ونظام الإنقاذ لم يهدد مصالحه وهذه حقيقة تثبتها مفاوضات تجسير العلاقات التي تدور الآن بين نظام الإنقاذ والولايات المتحدة الأمريكية.
إذا كانت المعارضة تأنس في نفسها الكفاءة وترغب في تصحيح الأوضاع المغلوطة في الوطن فعليها إتباع الطرق المعروفة في مثل هذه المواقف فلابد من دفع ثمن التغيير فلا يجوز مسك العصا من النصف فقد قيل منذ عهدٍ بعيد أن الحرية ثمنها الدماء، وإلا فليبتعدوا مثلما فعل الدكتور يوسف الكودة الذي كان صادقاً مع نفسه فقد جرب معارضة النظام وتأكد من تقاصر قامته عن ذلك فقرر إعتزال العمل السياسي، فإن لم تستطيعوا فخلوا ساحة المعارضة ففي آخر الأمر سيخرج الشعب السوداني إلى الساحات والشوارع ليسقط النظام الذي سامه العذاب، ولكنه لو خرج يقيناً فإنه حتماً سيخرج هذ المرة على الجميع، حكومة ومعارضة.
Almotwakel [email protected]