أسامة عبدالرحمن النور
ملخص الورقة
تحاول هذه الورقة مناقشة التسميات المختلفة التى أطلقت على السودان في الأزمان التاريخية المتعاقبة. استخدم المصريون القدماء عدداً من الأسماء التى أطلقها الملوك الكوشيون (السودانيون القدماء) أنفسهم على بلادهم. على سبيل المثال تسمية تا سيتى (أرض السهام) التى استخدمت بداية للدلالة على إقليم محدد من الأطراف الشمالية للسودان. من ثم انتشرت التسمية لتشمل القطر بأكمله. أيضاً استخدمت تسمية الواوات للدلالة على الأطراف الشمالية للسودان إلى جانب استخدام تسمية تا نحسى للدلالة على السودان ككل، وكلمة نحسى للإشارة إلى كافة الشعوب التى تعيش إلى الجنوب من مصر. أما الإغريق فإنهم منذ أزمان هوميروس قد أطلقوا على البلاد تسمية “إثيوبيا” التى تعنى “ذو الشكل المحروق”. وقد ثبت الكتاب الإغريق الحدود الشمالية لاثيوبيا في أسوان، في حين ظلت حدودها الجنوبية مجهولة لهم. أما تسمية النوبة التى تستخدم بكثرة أيضاً في الكتابات المتخصصة للدلالة على إثيوبيا النيلية (كوش) فإنها تظهر في فترة متأخرة . أول ذكر لبلاد النوبة نجده في أعمال الكتاب العرب. يحتمل أن يكون أولئك الكتاب قد استخدموا الصفة المصرية الشائعة في تلك الفترة للدلالة على المنطقة الواقعة إلى الجنوب من أسوان.
في القرن السادس عشر قبل الميلاد، واحتمالاً في وقت أسبق، بدأت في التلاحم والتوحد المشيخات الكوشية إلى الجنوب من مصر، تلك العملية التى قدر لها على مدى ثمانمائة عام ليس فقط أن تحكم قبضتها على كل وادي النيل من البطانة جنوباً حتى ساحل البحر الأبيض المتوسط شمالاً، بل وأن تدخل في تنافس مشهود مع الإمبراطورية الآشورية من أجل السيادة على سوريا وفلسطين يمكن القول بأن كوش ظهرت للمرة الأولى على مسرح السياسة الدوليَّة تحديداً تحت هذا الاسم منذ نهاية النصف الأول للألفية الثانية قبل الميلاد. وقد أطلق ملوك نبتة ومروى على بلادهم اسم كوش وهو ما فعله كل من أسبالتا، وهورسيوتف، ونستاسن. ورغم أن اسم كوش قد استخدمه المصريون إلى جانب أسماء أخرى منذ عهد المملكة الوسطى، وعنهم استخدمه الآشوريون والفرس في مدوناتهم، بل وبهذا الاسم ذكرت البلاد في الكتاب المقدس، فانه وفي أزمان لاحقة صارت الكتابات المتخصصة، بفعل تقليد يعود إلى الإغريق والرومان بداية وإلى الكتاب العرب في القرون الوسطى لاحقاً، تلجأ إلى استخدام تسمية إثيوبيا أوالنوبة للدلالة على كوش. من ثم يرى الكاتب أن تسمية النوبة المستخدمة حالياً للدلالة على اسم البلاد في الفترات التاريخية السابقة للقرن الخامس الميلادي، لا تتطابق مع الواقع الفعلي التاريخي. ويرى الكاتب أن تسمية النوبة تظهر للمرة الأولى فقط في العصور الوسطى، وتم اشتقاقها في الغالب الأعظم من قبائل النوبا أو النوباديين، الذين وصلت أول إشارة عنهم في القرن الثالث الميلادي. بهذا فإن استخدام تسمية النوبة بدلاً عن كوش لا يتطابق مع الواقع التاريخي، بالإضافة إلى أنه يثير بلبلة فيما يتعلق بالحدود الجغرافية ذلك أنه لم يتم إطلاقا إدخال البطانة في مفهوم النوبة. بالتالي فإن تطبيق اسم النوبة على أزمان مملكة مروى غير صحيح إطلاقاً. إنه حتى في أزمان الادريسى، حين أصبحت تسمية النوبة تفهم بمعنى أكثر اتساعا، فإنها كانت تشمل فقط شمال السودان حتى الجندل السادس جنوباً بمجرى النيل وهو ما يعنى استبعاد الصحراء على ضفتيه والجزيرة المرًّوية (البطانة).
فيما بين ملتقى النيلين الأبيض والأزرق عند الخرطوم في الجنوب، والجندل الأول عند أسوان في الشمال، يجرى النيل عبر أرض نعرفها حالياً “بالنوبة”. بين مسافة وأخرى يعكر صفو جريان النيل سلاسل صخور جرانيتية أطلق عليها الكتاب العرب الأوائل نعت الجنادل، لكن شاع نعتها اليوم بالشلالات. يؤلف الجندل الأول منها بالقرب من أسوان حداً طبيعياً وفي الآن نفسه حاجزاً ثقافياً بين مصر والسودان. حالياً فان المنطقة الواقعة بين الجندل الأول وبين بطن الحجر إلى الجنوب مباشرةً منه يطلق عليها تسمية النوبة السفلى أو الشمالية. هنا يشكل نهر النيل وادياً ضيقاً بين تلال ومنحدرات صخرية شاهقة مُتشكلة من حجر رملي أحمر مع وجود رقع صغيرة من الأرض الصالحة للزراعة. أبعد إلى الجنوب، في الجزء المسمى النوبة العليا يتغير المنظر الطبيعي إلى مساحات مفتوحة كبيرة مع أرض مرويَّة تحدها الصحراء. فقط في منطقة الجنادل الثالث والرابع والخامس والسادس يصبح النيل ضيقاً مجدداً ليتشكل منظر طبيعي أشبه إلى حد ما بأجزاء النوبة السفلى. وقد وصف إميل لودفيغ في كتابه “النيل : حياة نهر”، والذي ترجمه عادل زعيتر بأسلوبه النثري الرائع، منظر الجندل السادس (شلال السبلوقه):”واذا سرت من الخرطوم مرحلتين أو ثلاث مراحل؛ أي مسافة تسعين كيلو متر من مجرى النهر التحتاني؛ وجدت عرض النيل لا يزيد على خمسة وسبعين متراً وأبصرت عامودين من الحجر البركاني للدلالة على مدخل ضيق؛ وهذا هو مدخل الجندل؛ ويسميه الجغرافيون بالجندل السادس وذلك لأنهم عدوا الجنادل بادئين من مصر متوجهين إلى مجرى النهر الفوقاني؛ وأرانا مضطرين لمجاراتهم مع أن النهر يوصف كما توصف حياة الإنسان فلا يبدأ من خاتمتها” لودفيغ
تتسع الأجزاء الجنوبية الأقصى للنوبة، السودان الأوسط، في الحزام الممطر مما يجعل السكان أقل اعتماداً على النيل وفيضانه السنوي. تسود هنا سافانا عشبية وتكثر أشجار السنط. بفعل هذه الاختلافات الجغرافية والمناخية كان تاريخ النوبة والسودان الأوسط مختلفاً عن تاريخ مصر. ففي حين كانت مصر متجانسة اثنيا وثقافياً على مدى آلاف السنوات؛ فإن أجزاء النوبة المختلفة استوعبت جماعات اثنية متنوعة في أزمان مختلفة. اليوم فإن الحد الجنوبي للجماعات الاثنية المتحدثة باللغة النوبية يقع بالقرب من الدبة في منتصف المسافة بين الجندلين الثالث والرابع. إلا أن هذه الجماعات كانت ممتدة في العصور الوسطى على طول وادي النيل من أسوان حتى الأطراف الشمالية للنيلين الأبيض والأزرق.
إذا حاولنا العودة إلى مسألة تسمية “النوبة” فإنه يتضح عدم مطابقتها للواقع الفعلي التاريخي في الفترة الممتدة حتى القرن الخامس الميلادي. من ثمَّ نرى ضرورة التوقف لمناقشة هذه التسمية وتحديد المصطلحات بدقة أكثر. ففي نص يعود تاريخه إلى عصر سيادة الهكسوس في مصر ورد :” كيف لى أن أتحقق من سلطتي وهناك ملك يحكم في أفاريس وآخر في كوش وأظل أنا عاجز عن التصرف اذ يشاركني الحكم آسيوي وكوشي وكل منهما يمتلك جزءاً في مصر هذه”. هكذا كانت كلمات كامس، آخر فراعنة الأسرة المصرية السابعة عشر، أمام حشدٍ من مستشاريه استعداداً لخوض معركة التحرير ضد الهكسوس. ويبدو أن كوش المشار اليها كانت دولة قوية فرضت على حاكم الهكسوس في أفاريس أن يسعى إلى ملكها طالباً المساندة والدعم له في حربه مع كامس. محتوى رسالة حاكم أفاريس الموجهة إلى حاكم كرمة رأي كامس أن يسجله في النقش الذى يحكى عن مآثره في الكرنك: “التقطت رسالة في جنوبي الواحات أثناء صعود حاملها إلى بلاد كوش واكتشفت أنه خطاب من ملك أفاريس بخط يده يقول فيه: عا اوسر رع أبيبى، ابن رع، يحى ابنه ملك كوش. لمَّ أعلنت نفسك ملكاً دون أن تحيطني علماً؟ وهل بلغك ما فعلته مصر معي؟ فالعاهل القائم عليها-كامس- فليوهب حياة وعمرا ! يشن الهجمات على ممتلكاتي رغم أنني لم أناصبه العداء. لقد عاملني كما عاملك تماماً ! لقد وقع اختياره على بلدين لينشر فيهما الخراب… بلدي وبلدك. وعاث فيهما فساداً. هيا ! احضر لا تخف ! انه هنا في الوقت الراهن حيث يتعقبني. فلا أحد يترقبك في مصر. ولن أتركه يرحل قبل وصولك”. عندئذ توقفت العمليات الحربية بمعنى الكلمة. وعاد كامس إلى عاصمته طيبة لينقش قصة مآثره وبطولاته دون أن يشير إلى إنجاز نصر. أفلا يجوز أنه اكتفي، على أكثر تقدير، بأن أمنَّ لنفسه طريق القوافل قاطعاً الطريق بين الدلتا في الشمال وكوش في الجنوب؟
هكذا فانه وفي القرن السادس عشر قبل الميلاد، واحتمالاً في وقت أسبق، بدأت في التلاحم والتوحد المشيخات الكوشية إلى الجنوب من مصر O’Connor 1991 ، تلك العملية التى قدر لها على مدى ثمانمائة عام ليس فقط أن تحكم قبضتها على كل وادي النيل من البطانة جنوباً حتى ساحل البحر الأبيض المتوسط شمالاً، بل وأن تدخل في تنافس مشهود مع الإمبراطورية الآشورية من أجل السيادة على سوريا وفلسطين على نحو ما سنبين لاحقاً (انظر الأسرة الكوشية الخامسة والعشرين).
لذلك يمكن القول بأن كوش ظهرت للمرة الأولى على مسرح السياسة الدولية تحديداً تحت هذا الاسم منذ نهاية النصف الأول للألفية الثانية قبل الميلاد. وقد أطلق ملوك نبتة ومروى على بلادهم اسم كوش وهو ما فعله كل من أسبالتا، وهورسيوتف، ونستاسن. ورغم أن اسم كوش قد استخدمه المصريون إلى جانب أسماء أخرى منذ عهد المملكة الوسطى، وعنهم استخدمه الآشوريون والفرس في مدوناتهم، بل وبهذا الاسم ذكرت البلاد في الكتاب المقدس، فانه وفي أزمان لاحقة صارت الكتابات المتخصصة، بفعل تقليد يعود إلى الإغريق والرومان بداية وإلى الكتاب العرب في القرون الوسطى لاحقاً، تلجأ إلى استخدام تسمية إثيوبيا أوالنوبة للدلالة على كوش. فإلى أي مدى يمكن عد التسميتين مطابقتين للواقع، وما هو المعنى المضمن في كل منهما؟
كما هو معروف فإنَّ أول ذكر لإثيوبيا نجده عند هوميروس. وهناك اتفاق أن هذه التسمية مشتقة من كلمتين إغريقيتين: ايثو بمعنى يحرق، واوبس بمعنى مظهر أو شكل، أي أن معناها يصبح ذو الشكل المحروق. بهذا المعنى وردت إثيوبيا عند هوميروس، أي أنها تسمية أطلقت على البلاد انطلاقاً من معيار لون البشرة، مثلها مثل التسمية العربية للبلاد بالسودان، وهو معيار أنثروبولوجي. أما بلينى الأكبر فقد ربط تسمية إثيوبيا بالبطل الأسطوري إيثوبس ابن الاله زيوس، وفي ذلك إشارة إلى أن بليني احتفظ في تفسيره بعلاقة التسمية بالنار ذلك أن البحث الدقيق يمكن أن يكشف عن علاقة من حيث الدلالة والمعنى بين الشمس والنار الأبدية والناس من ذوي البشرة السمراء.
شملت المعالجات القديمة لمفهوم إثيوبيا كل من الهند، وكوش، كما شملت أفريقيا والمناطق الأخرى التى عاش فيها الزنوج أو البربر. لكنه معلوم أن احتكاك الإغريق للمرة الأولى مع من هم من ذوي البشرة السمراء كان من خلال التقائهم بالكوشيين وهو ما أدى إلى تثبيت تسمية إثيوبيا على كوش. مع ذلك فانه تمَّ لاحقاً، كما هو الحال في الكتاب الثالث لهيرودوت، التمييز بين إثيوبيتين أو ثلاث. وإذا كانت الحدود الشمالية لإثيوبيا عند معظم الكتاب الإغريق تقع عند أسوان فان حدودها الجنوبية ظلت مجهولة بالنسبة لهم. يقول سترابو في كتابه الجغرافيا “لا نستطيع أن نسمى لا حدود إثيوبيا ولا حدود ليبيا ولا حتى الحدود الفعلية للمناطق المتاخمة لمصر”. ومن رواية سترابو عن حملة قمبيز إلى مروى، ومن وصف هيرودوت، وأعمال بطليموس وغيرها من أعمال المؤرخين والجغرافيين الهلنستيين فإن مملكة مروى بالإضافة إلى المناطق الأبعد إلى الجنوب منها شُملت جميعها تحت تسمية إثيوبيا النيلية. من هنا يجوز القول بأن إثيوبيا النيلية تطابقت مع كوش مع أن الإغريق والرومان ضموا إلى التسمية مناطق واقعة إلى الجنوب مثل أدوليس وأكسوم، لكن كان ذلك في وقت متأخر عندما ضعفت العلاقات مع مملكة مروى.
فيما يخص علماء الدراسات المصرية القديمة فإنهم أشاروا حتى وقت قريب بإثيوبيا إلى المنطقة الواقعة إلى الجنوب من النوبة السفلى الحالية. إلا أن ذلك خلق نوعاً من البلبلة بحيث نجد الكثير من الكتابات التاريخية المعاصرة (بخاصة المصرية) تترجم إثيوبيا بالحبشة. هكذا نجد أن الكثير من الكتب المصرية عن تاريخ مصر القديم تتحدث عن الأسرة الخامسة والعشرين (الكوشية أو الإثيوبية) واصفة إياها بالحبشية. كما تطال البلبلة مفهوم إثيوبي الذى قد يشمل كل من هو أسمر البشرة في أي بلد يقع مابين شمال غرب أفريقيا والهند وهو العالم المعروف للإغريق والرومان حينها. حالياً فإن تسمية إثيوبيا تطلق على أبيسينيا (الحبشة الحالية)، ويعتقد بأن اسم أبيسينيا جاء بنطقه هذا من طريقة النطق الأوربية لتسمية حبشة أوحبيش أوحبشات وهو اسم لقبيلة عربية وصلت إلى المنطقة من اليمن في القرن السادس، ويطلق الأبيسينيون (الأحباش) على أنفسهم اسم الإثيوبيين. لازالت مسألة التمسك بهذه التسمية غامضة. في الغالب ما يكون ذلك مرتبط بتقليد قديم يصعب تحديده بثقة. معروف فقط أن الرهبان، السوريين في الغالب، الذين قاموا بترجمة الكتاب المقدس إلى لغة الجيوز قد طابقوا كوش بابيسينيا وترجموا كوش بإثيوبيا، أما الكتاب العرب فإنهم ميزوا بدقة بين النوبة (كوش) وأبيسينيا…هكذا كتب الادريسى”تجار هذه المنطقة، وأبيسينيا، ومصر”.
أما تسمية النوبة التى تستخدم بكثرة أيضاً في الكتابات المتخصصة للدلالة على إثيوبيا النيلية (كوش) فانها تظهر في فترة متأخرة، ففي مقتطف من إراتسفين يقول أنه مأخوذ عن سترابو يرد للمرة الأولى اسم النوباى [النوباويين] “جزء من الجانب الأيسر للنيل في ليبيا مأهول بقبيلة النوباويين الكبيرة الممتدة من مروى حتى انحناءة النيل. لا يخضع النوباويون للإثيوبيين لكنهم ينقسمون إلى عدة ممالك”. إلا أن قول إراتسفين هذا يتناقض مع قول سترابو نفسه: “في الأجزاء الأخرى باتجاه الجنوب (يقصد من مصر) يعيش التروجلوديت، والبليميون، والنوباويون، والميجبارى. ويعيش الإثيوبيون إلى الجنوب من أسوان، وهؤلاء مراحيل”.
اللافت للانتباه أنه في الحالتين إراتسفين وسترابو يوضع النوباويون بمواجهة الإثيوبيين، أي الكوشيين. تتوافق المعلومات المعروفة لبلينى عن النوباويين، والتى أخذها عن أجاثارخيد، مع معلومات سترابو. بهذا يمكن القول بأن النوباويين قد شغلوا المنطقة الواقعة إلى الغرب من النيل حتى انحناءة النيل الكبرى عند الدبة، وهى منطقة تتوافق حالياً مع إقليم الدناقلة الناطقين باللغة النوبية (اللهجة الدنقلاوية). في الوقت الراهن يطلق اسم النوبا على سكان جبال جنوب كردفان الذين يمثلون خليطاً من المجموعات الاثنية تغلب عليها الزنجوية ويتحدثون بلغات مختلفة. في أواسط القرن الثالث الميلادي شغل النوباى، وفق ما سجله بطليموس، الضفة الغربيَّة للنيل وجزره. في الغالب ما يعنيه بطليموس هو منطقة ممتدة من كردفان حتى النوبة السفلى الحالية. ومن إشارات أوردها بروكوبيوس نعرف أن الإمبراطور دوكليتيان استدعى في عام 292 م. النوباديين الذين يعيشون، حسب بروكوبيوس، في الواحة الخارجة وذلك للدفاع عن حدود مصر الجنوبية، وجعلهم يعيشون في الدوديكاسخيونس (الإقليم الثاني عشر لمصر الرومانية). إلا أنإشارات بروكوبيوس أثارت قدراً من التشكك لدى الباحثين الذين أشاروا إلى أن النوباديين قد ورَّد ذكرهم للمرة الأولى في بردية يعود تاريخها إلى عهد فيودوسيا الثاني 425-450 م. وكان ذلك في شكل أنوباديين. ويصف مونير دى فيلارد النوباديين بأنهم جماعة غير كبيرة من البربر من ذوى الأصول الليبية استقروا في النوبة وفقدوا لغتهم الأصلية. إلا أن هناك الكثير من الاعتراضات على مثل تلك الفرضية. فانطلاقاً من معطيات اللغة طرح كل من تسيلارز وهيللسون رأياً يقول بأن النوباديين قدموا من كردفان، واستقر الجزء الأساسي من قبائل النوبا الذين يؤلف النوباديون فرعاً منها هناك حتى القرن الميلادي الرابع حين اجتاحوا العاصمة مروى وتوغلوا جنوباً إلى منطقة الجزيرة، ومن ثم يطابق تسيلارز وهيللسون هؤلاء بالنوبة الزرق الذين أشار اليهم نص عيزانا، إلا أن آركل يرى أن النوباديين (النوباتيين) اسم مشتق من التسمية الجغرافية “نبتة” التى سماها بليني ناباتا.
ويعتقد آركل أن تسمية النوبة إنما تمثل اسماً قبلياً مثلها مثل أسماء أخرى في السودان الحالي: البرتى، والبرتا، والبورجو الخ. تأصلت عن الكلمة النوبية التى تعنى “عبيد”، ويرى أيضاً احتمال أن تكون كلمة نبو المصرية القديمة الدالة على الذهب مرتبطة بتسمية النوبا الذين تحصل المصريون منهم على الذهب للمرة الأولى ومن ثم عدوا من يجلبه لهم عبيداً. إلا أنَّ هذه الفرضية تواجه الكثير من الاعتراضات وذلك لثلاثة أسباب: الأول أن المصريين كانوا قد تعرفوا على الذهب بفترة طويلة سابقة لعصر المملكة المصرية الوسطى، فمنذ عصر المملكة المبكرة تورد النصوص كلمة “نبو” 1963 Kaplony وثانياً فإن تسمية البلاد أو سكانها بالنوبة في الوثائق المصرية لا تقابلنا إطلاقا. كما أشرنا فإن المرة الأولى التى وردت فيها التسمية تعود للقرن الثالث ق.م. مع ملاحظة أن ذلك ورد في أعمال الكاتب الإغريقي. ثالثاً، فإن اللغة المرَّوية المكتوبة نفسها، كما يعترف بذلك آركل نفسه Arkell1961 لم تكن نوبية؛ بالتالي، يستبعد أن تكون التسمية ترجع إلى عصر المملكة الوسطى. كما وتسقط أيضاً الحجة، التى يمكنها أن تدعم فرضيته- أنهم الأحفاد المباشرين لأهل المجموعة الثالثة.
هناك محاولات أخرى لتفسير أصل تسمية البلاد بـ “النوبة”. ذلك عن طريق ربط الكلمة بالفعل المصري “نبد” والذي يعني ” ضفر” “جدل” Erman and Grapow، والذي يظهر للمرة الأولى فقط في اللغة المصرية الحديثة (في القبطية نويبت). في مسلة تحتمس الأول من العام الثاني لحكمه، والتي تتحدث عن انتصارات الملك جاء “وحد (حرفياً جمع) هو الحدود من جانبيها الاثنين، ولم يتبق أي من ذوى الشعور المضفورة” Urkunden . في تلك الأسطر ذاتها سميوا بـ نحسي، وسمي قائدهم بـ “زعيم ستيو”، أي، كما أسمى المصريون سكان كوش. بقدر ما قد يغوينا مثل هذا التفسير إلا انه يستحسن انتظار بينة تثبت أننا نواجه نطقاً صدفياً. نادراً ما استخدم المصريون هذا المصطلح بالنسبة لجيرانهم الجنوبيين، وأن تسمية “النوبة”، كما أشرنا، تظهر في وقت متأخر أكثر.
على كل فان أول ذكر لبلاد النوبة نجده في أعمال الكتاب العرب. يحتمل أن يكون أولئك الكتاب قد استخدموا الصفة المصرية الشائعة في تلك الفترة للدلالة على المنطقة الواقعة إلى الجنوب من أسوان. فكما أشرنا فانه منذ بداية العصر الهلنستى، إن لم يك في وقت أسبق، عاش في إقليم دنقلا النوبا، ومنذ القرن الثالث الميلادي النوباديون…هذا إذا ما كان النوبا والنوباديون مجموعتين اثنتين مختلفتين. أشار الكاتب ابن سليم الأسواني الذى حُفظ جزء من كتابه في “الخطط المقريزية” إلى أنه وفي أزمانه سُميت المنطقة الواقعة على مجرى النيل بين انحناءته الكبرى عند الجندل الخامس ومصر بالنوبة. وبهذا يكون الأسواني، لا الادريسي، كما اعتقد البعض، الأول من بين الجغرافيين العرب الذى استخدم تسمية النوبة وحدد بدقة المناطق الداخلة في تركيبها.
من ثم يجوز التأكيد على أن تسمية النوبة تظهر للمرة الأولى فقط في العصور الوسطى، وتمَّ اشتقاقها في الغالب الأعظم من قبائل النوبا أو النوباديين، الذين وصلت أول إشارة عنهم في القرن الثالث الميلادي. بهذا فإن استخدام تسمية النوبة بدلاً عن كوش لا يتطابق مع الواقع التاريخي، بالإضافة إلى أنه يثير بلبلة فيما يتعلق بالحدود الجغرافية ذلك أنه لم يتم إطلاقا إدخال البطانة في مفهوم النوبة. بالتالي فإن تطبيق اسم النوبة على أزمان مملكة مروى غير صحيح إطلاقاً. إنه حتى في أزمان الادريسي، حين أصبحت تسمية النوبة تفهم بمعنى أكثر اتساعا، فإنها كانت تشمل فقط شمال السودان حتى الجندل السادس جنوباً بمجرى النيل وهو ما يعنى استبعاد الصحراء على ضفتيه والجزيرة المروية (البطانة).
اقترح دنهام منذ عام 1946 الرجوع إلى استخدام تسمية كوش للدلالة على إثيوبيا النيلية وذلك استبعادا لسؤ الفهم والبلبلة. وكانت شعوب الشرق الأوسط قد أخذت التسمية عن المصريين كما ألمحنا. ففي مكاتبات تل العمارنة ورد الاسم كاشي وكاشا وفي حالات كوش. وقد أسمى الآشوريون مملكة كوش التى خاضوا ضدها حرباً ضروساً “مانتو كوشي”، وورد ذكرها في الكتاب المقدس باسم “كاش”. وفي نقوش ملك أكسوم عيزانا تم التمييز بين الكاسو والنوبا. يحتمل أن يكون عيزانا يشير بالكاسو إلى السكان المستقرين في البطانة. وبانتهاء مملكة مروى أخذ اسم كوش في الإندثار ولم يعد يستخدم إلا في كردفان ودارفور. برغم ذلك نجد إصراراً في الكتابات المعاصرة على استخدام اسمي إثيوبيا والنوبة بديلاً عن كوش، وهما اسمان تعرف عليهما الكتاب الأوربيون منذ أزمان سابقة من أعمال الكتاب الإغريق والرومان ومن الكتاب العرب.
يجدر التنويه إلى أن المصريين القدماء استخدموا عدداً من الأسماء التى أطلقها الملوك الكوشيون أنفسهم على بلادهم. على سبيل المثال تسمية “تا سيتي” (أرض السهام) التى استخدمت بداية للدلالة على إقليم محدد من الأطراف الشمالية لكوش. من ثم انتشرت التسمية لتشمل القطر بأكمله. أيضاً استخدمت تسمية “الواوات” للدلالة على الأطراف الشمالية لكوش إلى جانب استخدام تسمية “تا نحسي” للدلالة على كوش ككل، وكلمة “نحسي” للإشارة إلى كافة الشعوب التى تعيش إلى الجنوب من مصر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اميل لودفيغ، النيل حياة نهر، ترجمة عادل زعيتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1979.
بالنسبة لاستخدام “نموذج” المشيخة في الدراسات الخاصة بتاريخ السودان القديم يمكن الرجوع إلى بحث أوكونور:=
David O’Connor 1991, ‘Early States along the Nubian Nile’, in: W.Davies (ed.), Egypt and Africa: Nubia from Prehistort to Islam, London, pp.145-165.
Kaplony P. 1963, Die Inschriften der agyptischen Fruhzeit, Bd. II, Wiesbaden: 679.
Arkell A.J. 1961, A History of the Sudan from the Earliest Times to 1821, 2nd Ed., London: 177, footnote 3.
Wörterbuch der ägyptischen Sprache,… herausgegeben von A.Erman und H.Grapow, Bd II: 246. Berlin.
‘Urkunden des ägyptischen Altertums’, herausg. Von G.Steindorff, IV. K.Sethe, Urkunden der 18 Dynastie, Liefer. 1-16, Leipzig 1906-1916: 84, lines 6-7.