صحيفة الهامش
عبر مركز أبحاث السودان صدر الجهد البحثي المميز للدكتور سلمان محمد أحمد سلمان المعنون بـ”انفصال جنوب السودان ـ دور ومسئولية القوى السياسية الشمالية”. وقد تم تدشين توزيع الكتاب من خلال ندوة عامرة أقامها اتحاد الصحافيين السودانيين في الولايات المتحدة بفندق “ويستين هوتيل” في فرجينيا، يوم السادس والعشرين من مارس الماضي. وقد حضر المناسبة عدد فاق المئتي شخصا من المهتمين بالقضية السودانية، وقدم الدكتور سلمان محاضرة بهذه المناسبة عن المراحل التي سبقت، وأعقبت، انفصال الجنوب. وقد حظيت الندوة بنقاش مثمر شارك فيه بالحضور، والنقاش، عدد من الإخوة الجنوبيين، وعقب الندوة تم تكريم منظمات المجتمع المدني في المنطقة للسيدة عوضية محمود كوكو بعد فوزها بجائزة أشجع عشر نساء في العالم، والتي رعتها الخارجية الأمريكية.
الكتاب الكبير في حجمه يقع في تسعمائة صفحة أخذت منه الملاحق التي تضمنت الوثائق 230 صفحة، وهي نادرة، ولم يسبق تجميعها في سفر محدد لتسهيل الأمر للباحثين، والمهتمين بقضية جنوب السودان. كما أن عددا منها اختفى من أضابير حكومة السودان، ولا توجد حتى في الجامعات السودانية، أو المراكز البحثية المهتمة بقضايا السياسة، والحكم، والنزاعات الإقليمية في البلاد، ولو إن الكتاب قد صدر بهذه الوثائق وحدها لكفى ذاته بالأهمية. ومن هنا ينبع السبق الأكاديمي للكتاب، لا من ناحية رصده المرتب، وعمقه التحليلي لمسارات القضية فحسب، وإنما أيضا لشموله على هذه الوئائق التي لا غنى لأي باحث في قضية الجنوب، أو تطورات نظرات القوى السياسية الشمالية، واتفاقاتها مع سياسي الجنوب بشأن الحل السياسي. ومن ناحية التحليل يتناول الكتاب بمنظور شامل مسار قضية جنوب السودان في علاقتها بالعهود الوطنية منذ الاستقلال وحتى مرحلة الانفصال في عام 2011. ورغم أن الكتاب يتناول عبر فصوله التسعة عشر قضية الجنوب عبر الرصد التاريخي إلا أنه في ذات الوقت يكشف من خلال حججه أزمة التفكير الشمالي حول القضية سواء في العهود الديموقراطية، أو الديكتاتورية، ودور، ومواقف، النخب الطائفية، واليسارية، والليبرالية، والإسلاموية في القضية.
ولعل صدور كتاب بهذا الحجم، والطباعة الراقية، والجهد الذي بذله الدكتور سلمان وحده دون إعانة من باحثين متفرغين، أو مراكز بحثية محلية، ودولة، وعلى نفقته الخاصة، يطرح سؤالا عن أهمية الكثير من مراكز الدراسات التي ظلت الحكومة تغدق عليها ملايين الدولارات منذ مجيئها. وكذلك ينطرح السؤال عن إسهام مديري أقسام الكليات المعنية في الجامعات السودانية حول ما هو متوقع من هذه الساحات الأكاديمية في إثراء التأليف حول هذه القضية الهامة التي شغلت البلاد لمدى يزيد عن ستين عاما. بل إنها القضية التي أهدرت فيها مليارات الدولارات، وراحت ملايين الأنفس من الجانبين، وما تزال تلقي بظلالها على مستوى الحياة السياسية، والاقتصادية، والأمنية، وعلى مستوى الجوار، أو الهامش، الذي يربط البلدين، ومع ذلك لا يتناسب البحث المتعدد المناهج حولها بما يتناسب من شغلها لبال السودانيين.
أغلب الظن أن الذين يديرون هذه المراكز الحكومية يفتقرون للقدرات العلمية، والخيال، والقدرات المنهجية التي بها يمكنهم تحقيق تأليف يوازي هذا الجهد الذي بذله الدكتور سلمان بمفرده. فضلا عن ذلك فإن جامعاتنا التي كان ينبغي أن تتناول هذا الأمر من زواياه المتعددة افتقرت إلى الباحثين القديرين بعد تطبيق ما سمته الحكومة سياسات الصالح العام، كما أن هذه الجامعات التي أفرغت من خبراتها تعاني اليوم من شح في التمويل البحثي الذي يساعدها على أداء دورها. ضف إلى ذلك غياب شرطي الحريات العامة، وحرية البحث العلمي في السودان اليوم، ولعل كل هذا الحصار فرض قيودات جمة على الباحثين، وكبل حركتهم دون إنجاز مشاريع موازية لمشروع الدكتور سلمان، ومشاريع بحثية أخرى تتعلق بقضايا البلاد كافة. والملاحظ أن معظم رؤوس المواضيع التي هي بحاجة إلى البحث لا بد أن تتوافق مع الواقع السياسي الذي فرضته الحكومة، ولا بد أن تأتي خلاصات البحث متماشية مع رغبات الحاكمين. والحقيقة أن قادة الدولة في إطار سعيهم إلى النجاة من ملابسات قضية الجنوب، ودارفور، وقضايا أخرى تورطوا فيها إجراميا، صرفوا ملايين الدولارات على الانتهازيين من الباحثين الغربيين، وبيوتات الخبرة الأجنبية، وذلك لإعانتها في مسار القضيتين. ومع ذلك لم تسعف الأبحاث المعنية التي كتبت بخلاصاتها المطلوبة سلفا لتوطيد أركان النظام، أو حلحلة القضايا السياسية، والاقتصادية، أو فك العزلة الدولية.
-2-
ناقش كتاب الدكتور سلمان دور القوى السياسية منذ نشوء أزمة جنوب السودان، عبر فصوله الثرية التي كتبت بلغة رصينة، وركز على التطرق إلى التحولات السياسية داخل كل مرحلة، وكذلك التحولات بينها وبين مرحلة أخرى. ولعله حمل نتيجة الفشل الشمالي في التعامل مع ملف الجنوب إلى معظم القوى السياسية زعامات، وقيادات، ولم يستثن أحدا، ومن هنا يكتسب الكتاب أهميته من زاوية استقلالية الكاتب، ومواقفه المعارضة لكثير من رؤى النخب المركزية للشأن الجنوبي. وخلافا للكتب الأخرى التي رعتها الحكومة ودعمتها، أو التي أنجزها كتاب منتمون سياسيا لهذا التنظيم أو ذاك، وخلافا أيضا للدراسات التي تناولت القضية بأقلام عرب، وأفارقة، وأجانب، فإن كتاب الدكتور سلمان يمثل بالحق وجهة نظر تأخذ الصبغة الأكاديمية المكتملة من حيث أمانة الرصد، وجرأة تحديد المسؤولين عن هذا الإخفاق التاريخي، ومن حيث اتباعه لمنهج استقرائي متكامل لا تشوبه المواقف العرقية التي سمت كثير من جهد الزعامات والقيادات الشمالية في نظرتها للآخر الجنوبي، والذي لم يجد التعاطف المركزي إلا من خلال نخبة لا يتجاوز عددها أصابع اليد. كما أن الكتاب لا ينطلق من نظرة أيديولوجية محددة حتي يتأثر به التحليل، وخلاصته، والأمر الآخر هو أن قيام الدكتور سلمان وحده بالبحث الشاق لمادة الكتاب، والتكفل بإنتاجه، منح سفره مصداقية أكبر لكونه يعبر عن جهد أكاديمي سوداني حر لم يرتبط بتمويل حكومي، أو إقليمي، أو دولي. رغم أنه كان يمكن أن يوظف علاقاته الدولية ليقلل الرهق الكبير الذي بذله في إصدار هذا الكتاب، والذي أخذ منه جهدا يقارب السبع سنوات في ظروف اجتماعية قاهرة تجاسر بالصبر لنتيجتها التي تمثلت في وفاة زوجته الأستاذة فوزية عمر عبد الغني، رحمها الله.
ولقد أهرق حبر كثير حول نظرية المؤامرة ودورها في تعميق مشكلة الجنوب، ولعل معظم الكتابات التي تناولت هذه القضية استندت إلى هذه النظرية وحدها لبحث ما سمته بالمخالب الإمبريالية، والصهيونية، والمسيحية، وغيرها في تسعير نار الخلاف بين الجنوبيين والشماليين طوال فترة النزاع الدامي الذي أضاع نصف قرن من عمر البلدين. وإذ لا يمكن البتة نكران التأثيرات الإقليمية، والدولية، ومطامعها في فصل أو استقلال الجنوب، إلا أن الدكتور سلمان لم يكتف بهذا التقييد النظري وحده، وإنما ركز النظر إلى الإخفاقات الحقيقية في تفكير وسياسة النخب الشمالية التي تأرجحت بين الانطلاق من البعد المحلي، ثم الإقليمي، ثم الأيديولوجي لحل النزاع. ولا بد أن الطريقة التي عالج بها المسؤولون الحكوميون والباحثون أمر المشكلة لم يكن متسقا بطبيعة حال تغير المسيطرين على السلطة. وكذلك يمكن القول إن المرحلة الأخيرة التي كثف فيها النظام القائم تعاطيه الجهادي مع مشكلة الجنوب ساهمت في تخصيب أرضية التدخلات الخارجية. وبالتالي يمكن القول إن الحكومات المتعاقبة، إنطلاقا من عدم جديتها، واستعلائيتها أمام الحق الجنوبي، هي التي كانت تغذي الجيوب الإقليمية، والدولية المتعاطفة مع حقوق الجنوبيين. وهكذا ظلت غير قادرة على كبح جماح هذه التدخلات من موقع ابتزاز الدنوبيين بها. ولعل الذين نظروا إلى جهد الدكتور سلمان في تحميل القوى الشمالية وزر انفصال الجنوب باعتبار أنه جزء من عادة جلد الذات يعبرون عن منهجية تحمل الضحية، وهم الجنوبيون، مسؤولية فصلهم لإقليمهم، وليست القيادات الشمالية التي ارتكبت من الحماقات السياسية في التنافس فيما بينها حول شأن الجنوب ما جعلها تحمل مناظير متعددة لرؤيتها للمشكلة بينما كان المنظور الجنوبي متسقا في رؤيته لعناصر الحل منذ وقت باكر.
-3-
ولما كانت مشكلة الجنوب لها جذورها الثقافية العميقة فقد أولى الدكتور سلمان الأمر الثقافي بعضا من أهميته من خلال ثلاثة فصول في الكتاب وهي “الجغرافيا والتاريخ السياسي لجنوب السودان” و”تعبيد الطريق لاندلاع الحرب الأهليّة” و”التصعيد الحربي والدمج الثقافي”. فتعامل الجانبين مع المشكلة كان مشبعا بنظرة لتصارع هويتين ثقافيتين متضادتين. فبخلاف العامل الديني بكل متعلقاته الروحية، والثقافية، المؤثر الإقليمين فإن الثقافة الشمالية من خلال توطنها على تاريخ عريض من استرقاق الآخر الجنوبي، وغير الجنوبي، قد فرضت نفسها على عقل من فكروا، وأداروا الأزمة منذ بداياتها. إنه الاحتراب ذي الصلة بتعارض هاتين الهويتين: العربية الإسلامية في مقابل الهوية الأفريقية ذات التأثير المسيحي. ولعله من هذه الزاوية فإن تعامل النخب الشمالية المتعنت مع الأزمة، منذ مرحلة السودنة التي أشار المؤلف إلى أنها كانت ظالمة لعدد من الكفاءات الجنوبية آنذاك، يمكن أن يساعد على تقصي جذور تصنيف الآخر في الثقافة الشمالية بوصفه تابعا لهوية وطنية أكبر أكثر من كون أن له رصيده من الوعي بذاته كمجال للاعتزاز بالمكون الروحي والثقافي الذي لم يتذوقه الآخر الممسك بآليات السلطة، والثروة، والنفوذ. ولذلك يجوز رد الإخفاق الشمالي في التعامل الموضوعي، والحصيف، مع مشكلة الجنوب إلى الانجرار إلى التاريخ، والتسربل به عوضا عن التخلص من سلبياته من أجل بناء دولة الأقوام التي تتقوى بمختلف تياراتها الثقافية التي لا بد أن تخلق في قابل الأيام مشتركا ثقافيا معززا بأجمل ما في هذه الثقافات من إسهام.
والحقيقة أن مباحثنا الثقافية في النظر إلى أزمة الجنوب بحاجة إلى ابتدار تحليلاتها، وخلاصاتها، في ظل هدوء العاصفة، وذلك مراجعةً لهذا التاريخ وتنقيته من شوائبه التي لا تسهم في البناء الوطني. وصحيح أن كتاب الدكتور سلمان لم يكن معنيا بالدرجة الأولى توطين أدوات البحث الثقافي لاستقراء، أو رصد، أو تحليل، المشكلة من جوانبها المتعلقة بتراث التعايش والتواصل بين الإقليمين. وإنما كان يرصد الظاهرة من خلال اصطدامها بالمنظور السياسي للقائمين بأمر الدولة. وهذه الحاجة لبحث التأثير الثقافي في المشكلة نفسها تكمل نظر الدكتور سلمان الذي وضحا جانبا موثقا من الإخفاق الشمالي من حيث أراد، وحدد مسار بحثه فيما يتطلب الأمر معرفة هذه الأبعاد الثقافية التي لعبت دورا في فقدنا لهذا التنوع الإثني الثقافي، وثراء تعدده البيئي، والجغرافي. بل إن الحاجة ضرورية لمباحث أخرى محايدة تفند التأثير الإقليمي الأفريقي، والدولي بمطامعه المتعددة، والكنسي أيضا، في مقابل التأثير الإقليمي العربي والإسلامي، حتى تكتمل الصورة الذيول التي ارتبطت بقضية الجنوب.
لا بد أن كتاب “انفصال جنوب السودان ـ دور ومسئولية القوى السياسية الشمالية” سيساعد، من ناحية أخرى، على إعادة النظر بهدوء إلى المشكلة التي انتهت بانفصال الجنوب، أو استقلاله. فمن ناحية يعيد الكتاب العلاقة التاريخية بين الشمال والجنوب إلى دائرة الضوء في ظل الأوضاع الحرجة التي تواجه دولتي السودان وجنوب السودان معا. ولعل الدكتور سلمان منح نخبة البلدين مجالا جديدا للحوار بعيدا عن أجواء التخوين، والاتهامات المتبادلة، وكراهية الخطاب، والاستعلاء الأجوف، والعنصرية المتبادلة. ويمكن لهذا الكتاب، والدكتور سلمان نفسه، أن يساهم في موصالة الحوار حول الاستفادة من أخطاء الماضي، والحاضر، للطرفين. وذلك بعد أن أدرك كل طرف حاجته إلى جوار آمن تظلله التبادلات الاقتصادية، والتجارية، والزراعية، وغيرها من راهن التطورات الجيوبوليتيكية التي تفرض نفسها بقوة على أرضية الحكم في البلدين. ولهذا نأمل أن يعمل مؤلف الكتاب على ترجمته للغتين الإنجليزية والفرنسية، على الأقل، ليكون أيضا عونا للباحثين الغربين الذين كثيرا ما يفتقدون إلى المعلومات الوافرة التي ضمها هذا الكتاب الإنجاز.