نيويورك – صوت الهامش
ربما لا يجود الحظ على كل الجديرين بـ نوبل أن يحصلوا عليها. لكن ثمة أشكالا أخرى للتكليل منها، الفوز بجائزة “أورورا” للصحوة الإنسانية.
لكن حتى لو لم يحصل الطبيب توم كاتينا عليها، فإن أقل ما يمكن أن يكرّم به المجتمع أيادي هذا الطبيب البيضاء، هو أن ينتج فيلما وثائقيا عن تلك الأيادي.
(قلب النوبة) … هو فيلم وثائقي عن عمل الدكتور كاتينا كـ مدير وطبيب متفرغ بمستشفى وحيد في قلب أهوال وفظائع لا تنقطع بالسودان. في جبال النوبة، ثمة نحو مليون إنسان أو 50 قبيلة أفريقية.
يريد الديكتاتور الحاكم للبلاد، ذلك العنصري عمر البشير أن يستولي على وطنهم “لكنه يريده بلا مواطنين”.
يضطلع الدكتور كاتينا بمستشفى “أم الرحمة” الكاثوليكي بعلاج آلاف المصابين المدنيين المحاصرين في قلب منطقة حربية بل منطقة إبادة جماعية مستمرة. حفنة من الأجانب وطاقم متزايد من المحليين يقومون بعملهم النضالي، ويختبئون في حفائر الثعالب إبان الغارات الجوية المتواترة، بينما العالم منشغل بما (لا) ترتديه كيم كارديشيان ونظيراتها.
إنغريد ريفوغ، التي تجمع التمويلات لصالح المستشفى أثناء عملها الميداني، تقول إن “الإنسانية ليست شيئا تفعله في العمل، إنها أسلوب حياة”… ريفوغ وكانتون أفضل مثالين على تلك الأخلاقيات ممن يمكن للمرء أن يلتقي في حياته.
وفي كل غارة يشنها نظام البشير ويقذف فيها بالبراميل المتفجرة على القرى ويستهدف مبنى المستشفى ذاته، يسارع الدكتور كاتينا إلى الاطمئنان على مرضاه من كافة الأعمار وهو متأكد أن الغارة إنما تستهدف شخصه هو.
نعم يستهدفه البشير؛ وذلك لأنه (كاتينا) يتحدث إلى المرضى بلسانهم ويلتقط صورا لكل ضحية للأعمال العسكرية كـ “دليل” يدخره لمحاكمة مستقبلية على جرائم حرب يرتكبها البشير.
وإذ يشير إلى سكان القرى، يقول الدكتور كاتينا إنه من الأهمية بمكان رعاية هؤلاء البشر، إن “كل حياة لها قيمتها. كل حياة تنطوي على وعد بالأمل”.
كينيث كارلسون، مخرج الفيلم الوثائقي (قلب النوبة)، يبدأ فيلمه بمشهد للرحى تدور وتطحن الحبوب وتعد الطعام في أكواخ إحدى القرى بجبال النوبة، بعد ذلك تلتقط الكاميرا أزيز طائرة حربية وصرخات أطفال بينما الجميع يهرولون فرارا من الموت صوب حفائر يختبئون بها قرب أكواخهم.
ومن هذا الواقع المعتم والعمليات الجراحية الدامية ولحظات اليأس بشأن حيوات شابّة، يأخذنا المخرج كارلسون إلى ماضي رجل يفتتح الفيلم بكلمة قالها وهو لم يزل في ال 18 من عمره: “كل واحد منا ملتزم بتحسين أحوال هذا العالم”… هذا الرجل هو نفسه الدكتور توم كاتينا.
ويشير الفيلم إلى أن كاتينا كان يدرس الهندسة في نيويورك، وهو من أسرة كاثوليكية. ثم حوّل اهتمامه إلى الطب. وقد لعب كرة القدم بجامعة بروان، والتحق بالبحرية ثم ذهب إلى كلية الطب في جامعة ديوك.
لكن شيئا ما في كاتينا شدّه إلى أعمال المهمات والبعثات. وبعد صقل مهاراته الجراحية في كينيا، سمع كاتينا في نفسه نداءً من أصعب مكان يمكن للإنسان أن يعيش فيه على وجه الأرض.
ولقد يعييه العمل أحيانا، وذلك لأن ثمة الكثير والكثير جدا من العمل يحتاج إلى الإنجاز، وإذا لم يقم به هو فإن أحدا غيره لن ينجزه.
ويستعين المخرج كارلسون بمقاطع فيديو من الشبكة الإخبارية الوحيدة التي تغطي هذه المنطقة من مناطق الصراع، شبكة الجزيرة، والتي تدين الديكتاتور البشير الذي نعتته المحكمة الجنائية الدولية بالوحشية.
لكن في معظم مشاهد الفيلم، يركز المخرج بالكاميرا على الدكتور توم وفريقه الصغير بمستشفى أم الرحمة. إنه اختيار مثير وملهم.
من المؤكد أن فيلما ملهما مثل “قلب النوبة” يبدو كما لو كان توثيقا لحياة قديسين، لكن من الصعب أن يجد المرء أحدا يشتكي من الدكتور والمعالج كاتينا، باستثناء عمر البشير.
وحتى الآن على حد علمنا، لم يسبق للأم تيريزا والقديس ألبرت شفاتزر أن يكونا شهودًا محلفين. لكن أيا منهما لم يكن يوما عضوا برابطة “أول أيفي ليج” بجامعة براون. وهذا ما يجعل من الدكتور كاتينا شخصية ملهمة للتمعن والنظر، وهذا ما يفعله فيلم “قلب النوبة”.
هذا ما قالته مدونة (موفي نيشن) … وقد بثت شبكة (سي إن إن) تقريرا مصورًا عن فيلم “قلب النوبة” مستضيفة كلا من الطبيب توم كاتينا والمخرج كارلسون وعمر إسماعيل من منظمة كفاية الأمريكية، ونيكولا كريستوف الصحفي بالنيويورك تايمز.
وألقى تقرير (سي إن إن) الضوء على ما يبذله الدكتور كاتينا من مجهود فائق كونه الطبيب الوحيد في مساحة 200 ميل ويخدم نحو مليون إنسان منسيّين يعانون إبادة جماعية.
ونوه التقرير عما يعايشه كاتينا من مخاطر تتعلق بحياته الشخصية وسط هذا الرعب اليومي بينما يتنقل بين كوخه الصغير ومستشفى أم الرحمة أو لعيادة المرضى في أكواخهم. حيث أكد الدكتور كاتينا أنه لن يترك عمله في جبال النوبة.
وعرض التقرير لقطات من الفيلم تصور فظائع إجرامية يقترفها نظام البشير بطائراته الحربية تقصف العزل ببراميل متفجرة بينما يهرول هؤلاء للاختباء في حفائرهم.
ونوه المخرج كارلسون عن صعوبة الوصول إلى تلك المناطق بجبال النوبة، موضحا أنه غير مسموح بالحركة للصحفيين أو صانعي الأفلام. وأكد كارلسون حياة الرعب والذعر التي يحياها شعب جبال النوبة.
وأشار التقرير عن حوار أجراه كارلسون مع الرئيس البشير شخصيا، سأله فيه عن تعليقه على ما يتعرض له أهالي جبال النوبة العزل وما يتعرض له مستشفى أم الرحمة من قصف وعمّا إذا كان قد سمع عن الدكتور توم كاتينا؟ وأجاب البشير بأنه “لا يمكن لإنسان أن يستهدف مستشفى” ولكن ضرورة الحرب قد تقتضي أشياء غير مقصودة بـ”نيران صديقة”.
وأكد البشير أنه سمع عن الدكتور كاتينا.
وأكد المخرج كارلسون أنه بفيلمه (قلب النوبة) إنما يؤسس لدعوى قضائية ضد رئيس السودان الذي مثَل دور الشرير في الفيلم.
ومن جانبه، أكد عمر إسماعيل، أن البشير لا يكترث بجبال النوبة ولا بالدكتور كاتينا؛ وأن ما يهمه عبر ظهوره في هذا الفيلم -الذي يعرف تماما أنه سيحظى بمشاهدة عالمية- هو أن يستغل هذه الفرصة لكي يبرئ نفسه من التهم المحدقة به.
وقال نيكولا كريستوف إننا كإعلاميين يجب أن نعوض النقص الذي يعتري الطاقم الدبلوماسي الأمريكي في أفريقيا؛ وذلك بتسليط الضوء على معاناة الإنسان في مناطق الصراع أمثال جبال النوبة ودارفور وجنوب السودان وغيرها.