بقلم عثمان نواي
شغل حميدتي الساحة السياسية السودانية فى الأيام الماضية لدرجة ان اسمه أصبح يذكر اكثر من البشير نفسه الذى قامت عليه ثورة وقتل فيها العشرات منذ ديسمبر وعشرات الالاف خلال الثلاثين عاما الماضية. وبينما تتعالى المطالب الان بإسقاط حميدتي كما سقط البشير ،فان الجميع يتناسون ان حميدتي ليس سوى رجل مجرم واحد وربما تنتهى اسطورته باى شكل كان سواء بالسقوط او بالحساب على جرائمه. لكن مأساة وجود حميدتي هى فى عشرات الالاف من نسخته الذين يرون فيه قدوتهم من جنوده وأتباعه . وللأسف ان إرث حميدتي الموجود الان له دلالات وجذور عميقة تعود مباشرة بنا إلى الخلل المنهجى فى بناء الدولة السودانية.
ان الأزمة الحقيقة هى ان شخصية حميدتي تتجلى فيها كثير جدا من أزمات الدولة السودانية. وصعوده المتواصل إنما هو نتيجة السقوط المتواصل لمنظومة القيم للمجتمع ومنظومة المبادئ التى يجب ان تحكم الدولة والمجتمع الصحى والحديث. ان القيم التى يبنيها حميدتي فى داخل المجتمع السودانى عبر صعوده هى قيم تناقض كل ما يتم الدعوة له من خلال الثورة الان من دولة القانون المدنية لتحقيق أهدافها من كرامة انسانية ومن سلام وعدالة إجتماعية وحرية شخصية . فما يكرس له حميدتي هو العسكرة والارتزاق و العمل المسلح كوسيلة للحصول على حقوق المواطنة والكرامة الإنسانية. حيث ان المال والمعيشة يتم كسبها بحمل السلاح وليس الأقلام ولا الطورية والمنجل وليس الكمبويترات او السماعات الطبية او حتى النضال السياسى بكل أنواعه لنيل الحقوق . كما ان الوضعية الكريمة فى المجتمع والدولة يتم الحصول عليها بالعنف والنهب والسلب واخذ الحق باليد . فلماذا يختار الطالب ذو ال ١٧ عاما ان يجلس لامتحان الشهادة، هذا ان كان اصلا فى منطقة ووضعية تسمح له بذلك، اذا كان يمكنه الحصول على عشرات الملايين فى شهور قليلة، وتغيير كامل حياة أسرته؟ بينما سيحتاج ربما لعشرات السنوات من العمل والتعليم للوصول لذات النتيجة، هذا اذا سنحت له الفرصة اصلا عبر حواجز الامتيازات والاستبعاد.
ان حميدتي يكرس للعدالة الاجتماعية التى تتحقق عبر القبلية والعلاقات الأسرية والولاء قبل كل شئ، إضافة الى الحرب والقتل والابادة والازاحة لكل منافس على السيطرة علي القبيلة او السلطة او الثروة. بينما يظل القانون الفاعل هو قانون البقاء فقط للاقوى ولذوى القربى والولاء. وعلى صخرة حميدتي أيضا تتحطم احلام السلام، لأن كل ما سبق لن يصنع سوى المزيد من عدم الاستقرار فى كل المجتمعات السودانية. فالرجل لا يعرف السياسة ولكنه تاجر بشر بارع للغاية. فهو الان يلعب السياسة بعقلية التاجر، وبالتالى فهو يتوسع فى هذا الفراغ السياسى عبر صناعة قوة بشرية مسلحة، تتمدد من دارفور الى كردفان والنيل الأبيض ونهر عطبرة عبر البطانة وصولا الى شرق السودان. عبر عمليات شراء واسعة تمولها اموال الخليج وتهريب الذهب. وهذا التسليح المستمر هو الطلقة التى تقتل مدنية المجتمع ككل وامال مدنية الدولة.
ان سقوط القيم على يد حميدتي يدوس على قيم العمل والكسب واحترام القانون وحرية الضمير والتعايش السلمى وكل إمكانية إقامة الدولة السودانية المدنية الحديثة. تلك الدولة المدنية الحديثة التى فشلت النخب منذ الاستقلال فى صناعتها، والا لما كان هناك الان مكان لامثال حميدتي فيها. ولكان له وللاطفال الذين يبيعهم مصير مختلف. لكن كما ان حميدتي يخشي على سلطانه من الدولة المدنية وحكم الشعب الحقيقي ،كذلك كانت تخشي تلك النخب ولازالت على فقد هيمنتها على الشعب السوداني وبالتالى ظلت تعوق حقه فى حكم نفسه بكل السبل وأولها الانقلابات والحروب. ولذلك فإن المسؤول الأول عن كارثة الوطن التى لا يمثل حميدتي كشخص سوى رمز لها، هم تلك النخب الحاكمة منذ الاستقلال ،والتى هى فى ذاتها تحمل ذات قيم وعقليات حميدتي ولكن تحت كثير من الأقنعة والالقاب العلمية والأسرية والدينية والرتب العسكرية. فالقبليةوالطائفية والمحاباة وبيع الوطن فى أسواق النخاسة الى الأعراب والخليج لم يبدأه حميدتي. ان حميدتي ليس سوي اخر مراحل سقوط الأقنعة لفشل الدولة السودانية ونخبتها ، وصعوده بدون الحاجة لكل زيف الالقاب العلمية او الرتب الأسرية والعسكرية معتمد على قبيلة ونظام الكيزان المجرم ، ليس سوى إعلان وصول هذه النخب لسدرة منتهى الفشل حتى ظهرت على حقيقتها فى شخص حميدتي الجاهل تاجر البشر والحمير المرتزق. فالقبلية والطائفية والعنصرية والابادة قد بداتها النخب التى درست فى أكسفورد والسوربون وغيرها من كبرى الجامعات منذ الاستقلال.
وحتى بيع السودانيين للخليج والعرب بدأته النخب التى طمعت فى انتماء عربى بدونية مريضة بدلا عن انتماء أفريقي بعزة وكرامة. فحينما احتاج الخليج الى الرعاة والمدرسين بعثت لهم النخب السودانية الحاكمة رعاة بشهادات جامعية ومدرسين يخدمون تحت أقدامهم بكل انواع العقود المذلة للكرامة تحت نظام الكفيل الذى تعتبره منظمات حقوق الإنسان من أكثر نظم العمل خرقا لحقوق الإنسان، والذى صنع أزمة الاغتراب فى المجتمع التى صنعت كثيرا من المشاكل فى أخلاق وتركيبة المجتمع السودانى. والان عندما أراد الخليج المرتزقة لحمل السلاح للدفاع عنهم، فهى النخب ذاتها قبل حميدتي هاهى ترسل السودانيين مرة أخرى . فمن وافق على بيع الشعب السوداني لم يكن حميدتي فقط، بل كان البشير والبرهان وبقية قادة الجيش وسماسرة البزنس من الكيزان وطبقة رجال الأعمال الطفيلية التى تنهب ثروات البلاد منذ عقود بشراكة مع اعراب الخليج .
ان حميدتي تطور من تاجر حمير الى تاجر بشر، ويحسب له تطلعه الى التقدم والترقى فى سلم الكائنات الحية. ولكن الأزمة هى فى النخب التى تاجرت عقودا فى مصير الشعب السوداني وباعت له الاوهام وباعته فى كل أسواق النخاسة، و انتزعت منه حقه فى ان يتحرر كافراد وشعوب. فكبلت الشعب السوداني بقيود القبلية والطائفية والتشدد الدينى والعنصرية والجهل والفقر، حتى لايستطيع هذا الشعب ابدا ان يتخذ قراراته ويحرر نفسه منها وينتزع حريته فى تقرير مصيره. ان إسقاط حميدتي ضرورة لكن يجب الوعى انه مجرد عرض ظاهر لمرض كامن وقاتل. وان تحرر الشعب السوداني عبر هذه الثورة من كل وصاية ومن كل قيود واوهام النخب الفاشلة هو الذى سينقذ البلاد من الهاوية. والأمل معقود على هذا الشباب الذى يعى معظم الحقيقة والان عليه ان يعمل بما يعلم وان لا يسلم قراره بعد اليوم لاحد. وليحتفظ بصوته عاليا حتى كسر كل قيود الماضي نحو سودان حر ومستقل.
[email protected]