كم تدهشني هذه الأيام الجلبة التي تصدر من المهتمين والمختصين وخبراء الإقتصاد إزاء التراجع الرهيب لقيمة الجنيه السوداني أمام الدولار والعملات الصعبة الأخرى، فالجنيه قد إنهار منذ أن وطأت الإنقاذ أقدامها غير المباركة في البلاد، وقد نبه وقتذاك الحادبون على مصلحة البلاد من مغبة إنهيار العملة الوطنية ولكن لا أحد أصاخ السمع وهو موقن، لست أدري ماذا دهانا، نحن أهل هذا الوطن وبالتأكيد ليس ضمن هذه “النحن” أهل الإنقاذ وتابعيهم من غير إحسان لأنهم مع سبق إصرارهم وترصدهم سبب البلاء الذي نكتوي بناره اليوم، ماذا دهانا ونحن نري بوادر كل السوء الذي حاق بالبلاد منذ بواكيره وقبل أن يستفحل ولم نفعل شيئاً وبعد أن يسبق السيف العزل نبدأ بالعويل و” السكليب”، ليست العملة وحدها التي إنهارت بل إن الإنهيارقد عم كل أوجه الحياة في الوطن.
لن تُفلح كل السمنارات والندوات الإقتصادية في انتشال العملة الوطنية من الهوة التي تردت فيها، لأنها ما تردت جرّاء سوء إدارة النشاط المالي في البلاد فحسب وإنما أيضاً تردت تبعاً للإنهيار الشامل للدولة السودانية، هذه المعالجات التي أرفدنا بها النشاط المحموم للناقدين والمنظرين هذه الأيام لن تجدي فتيلاً وأصبح الحل يكمن فقط في تغييرٍ جذري يوازي حجم الكارثة التي تعيش البلاد في أتونها الساعر، تغييرٍ يستهدف مركز صنع القرار في قمة قيادة الدولة السودانية وكل أذرعه الأخطبوطية ومؤسساته الوهمية، ومن ثم يستتبع ذلك ملاحظات وروشتات الخبراء التي همت مثل المطر الغزير هذه الأيام.
العملة الوطنية هي أحد أهم مقدسات الوطن والضامن الأهم للنشاط الإقتصادي والمستودع الآمن لقيمة الأشياء ورمزاً من رموز السيادة والكرامة الوطنيين، يشرف عليها البنك المركزي هي والسياسات النقدية التي تنظمها من أجل تحقيق الأهداف السياسية والإقتصادية للوطن ولكن نظام الإنقاذ إختصر كل الوطن في حزبه اللاوطني ومنسوبيه وسخَّر العملة وراعيها المركزي من أجل خدمة مصلحة منسوبية ومصلحة بقائه في سدة السلطة، وماذا يتوقع الناس من نظامٍ جعل البنك المركزي الممثل الشرعي للسلطة النقدية في البلاد عبارة عن أمانة من أمانات حزب المؤتمر الوطني غير هذا الإنهيار الماثل للعيان؟ فلا يُمكن أن تزرع حصرماً ثم تتوقع أن يكون الإنتاج عنباً!!.
كلنا يدرك، ما ظل يحدث منذ صبيحة يوليو 1989م وحتى اليوم، وكيف سارت الامور نحو الهاوية في كل شيء إطلاقاً، ومن ضمن تلك الأمور ما حاق بالعملة الوطنية من ماحقٍ ساحق، بدءً من مصادرة أموال المواطنيين وإعدامهم مروراً بالعبث والمغامرة بتبديل العملة الوطنية عدة مرات وحذف الأصفار الثلاث والسعي لطباعة العملة في داخل السودان، كل هذه الخطوات التي تم إنفاذها من قبل نظام الجبهة الإسلامية لم يكن الهدف منها حماية العملة الوطنية وبناء إقتصاد قوي وإنما كان الهدف هو السيطرة علي النشاط الإقتصادي بالطريقة التي تخدم أهدافهم وحماية نظامهم وتُجيير إقتصاد البلاد لصالحهم، ولما كانت مثل هذه التصرفات لا تمت إلي الطرق العلمية المعروفة في حماية العملة وتعزيز مركزها المالي وقوة إبراء ذمتها تضعضعت وانهارت.
أليس غريباً أن يستهل نظام عهده بإعدامات لمواطنيين لأنهم يملكون عملات صعبة بحجة حرصهم على الإقتصاد الوطني وبعد 27 عامٍ يكون الحصاد المر هو إنهيار عملة البلاد وقيادات ذات النظام تكتنز تشكيلات متنوعة من عشرات الآلاف من العملات الصعبة ( سرقات منزل قطبي المهدي ومكتب صابر محمد الحسن ) هذه السرقات أثبتت بما لايدع أي مجالٍ للشك أن كل قيادات النظام تحتفظ بمعظم العملات الصعبة في مكاتبها ومنازلها أو في حسابات خارج السودان، والعملات الصعبة التي سُرقت من هذين القياديين بكل تأكيد هي فوائض متبقية أصلاً من ما أنفقوه منها، فكيف والأمر هكذا أن يسيطر بنك السودان على العملات الصعبة وهي إحدى أدوات السياسة النقدية التي يتبعها في ضبط ميزان المدفوعات وضبط ميزان المدفوعات بدوره يحافظ على قوة العملة الوطنية وعملات البلاد الصعبة تقبع في خزائن البيوت والمكاتب الخاصة أو في حسابت شخصية خارج البلاد تخص قيادات النظام؟.
صمتنا وصمت خبراء الإقتصاد على العبث بالعملة الوطنية والتي استهلت به الإنقاذ عهدها المشئوم، ففي عام 1992م عندما تم إستبدال الجنية بالدينار الذي أصبح يساوي عشرة جنيهات وكان قد صاحب هذا التغيير خداع وغمط لحقوق المواطنيين الشرفاء، أذكر أنهم حددوا مواعيد نهائية لإستبدال العملة وإمعاناً في الغدر وأكل أموال الناس بالباطل لم يذكروا الكيفية التي سيتم بها إستبدال العملة، وفي صبيحة اليوم المحدد ذهب أهل السودان من غير منتسبيهم إلى البنوك لإستبدال العملة إلا أنهم فوجئوا بشروطٍ للإستبدال ما أنزل الله بها من سلطان، منها أن تودع المبالغ التي تحملها كلها في البنك فتُسلم دينارات تُعادل فقط 5 ألف جنيه مهما كانت عدد الجنيهات التي معك، أما من يملك أموالاً طائلةً في حسابات في البنوك المختلفة فلا يستطيع أن يسحب منها إلا في حدود ذلك الرقم المحدد أو أقل منه، والهدف لم يكن العملة وتحسينها، شكلاً وموضوعاً، دعماً للإقتصاد، إنما كان همهم هو منع التجار والرأسماليين الوطنيين من العمل لمدة معينة وترك تجار التنظيم ورأسماليه من العمل بحرية في السوق دون منافسة، وكانو قد كشفوا، قبل مدةٍ طويلة، لأعضاء تنظيمهم خطة تغيير العملة والمقيدة برقم محدد وأن التغيير لا يشمل الأوراق من فئات ال 10 جنيه و ال 5 جنيه، فطفق تجار النظام وحتى الذين لم يُمارسوا التجارة يوماً، وقبل وقتٍ مبكر، في سحب هذه الفئات الصغيرة من الأوراق من الأسواق ومن البنوك والبقية من أهل السودان لم يكن لهم أي علم بهذه الترتيبات ولذا بعد تنفيذ السياسة أُفقر الكثير من الرأسماليين الوطنيين وأثرى العديد من منسوبي التنظيم الذين كانت السيولة من العملات المعفية من الإستبدال في أيديهم فانفردوا بالأسواق وسامو الناس العذاب.
أما مهزلة تبديل العملة للمرة الثانية فهي تلك التي بموجبها تم إعادة العملة لإسمها الأول وهو الجنيه بدلاً من الدينار، ولكن هذه المرة الخدعة التي كانوا يستهدفونها هو إخفاء التضخم الذي إستشرى في جسد الإقتصاد وإنخفضت بموجبه العملة الوطنية إلى أدنى مستوياتها فقرروا حذف ثلاث أصفار من الشكل الذي يبدو عليه الجنيه السوداني، ولكن الأمر الذي لا تستطيع سياسات الخداع إخفاءه، وهل تستطيع الأصابع حجب شعاع الشمس ؟ حقيقة إقتصادية يعلمها حتى طلاب الإقتصاد في المدارس التجارية ألا وهي أنه لا يُمكن لأي عاملٍ من العوامل الخارجية أن يحذف صفراً واحداً من عملة ما ناهيك عن ثلاث أصفار !! إلا بإتباع السياسات النقدية التي يعرفها الإقتصاديون وليس بقرارٍ سياسيٍ مخاتل ومخادع مثلما فعل شياطين نظام الإنقاذ يوم ذاك، فماذا فعلنا لنوقف مثل هذا العبث بسيادة البلاد؟.
لقد كان سعر الدولار عندما سطا هؤلاء على السلطة يساوي 12 جنيهاً وعندما قرروا حذف الأصفار الثلاث كان سعره قد وصل إلى 1200 جنيه وهذا يعني أن الجنيه السوداني ومنذ تسلم هؤلاء للسلطة وحتى لحظة الإستبدال قد سقط مائة مرة أمام الدولار، فماذا تتوقعون من إقتصاد تترنح عملته الوطنية أمام عملة الإحتياط الأولى في العالم مائة مرة؟ وإمعاناً في الإستخفاف بكل ما هو معلومٌ بالضرورة قرروا حذف الثلاث أصفار بدلاً من مواجهة الكارثة بصدق وتطبيق التدابير والإصلاحات الإقتصادية المتعارف عليها من أجل إستعادة بعضاً من قوة العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية لا سيما عملة الإحتياط الأولى، وإنساق الناس بكامل رغبتهم لتصديق هذه الكذبة البلقاء، فسلم بعضهم وأصبح يسمي الألف جنيه بالجنيه وآخرون كان عقلهم الباطني يرفض ذلك التشويه فأصبحوا يحددون القيمة قائلين ( بالجديد ولا القديم) ومثل هذا السؤال الذي يتبادله المتعاملون في الأسواق يعكس حجم المأساة منذ ميلادها ويثبت خطل ما فعله هؤلاء المجرمون بالعملة الوطنية، فمن، بالله عليكم، من هو جديرٌ بأن يُعدم هل هو مجدي محجوب ورفاقه المغدور بهم أم هؤلاء الذين دمروا النظام النقدي في البلاد وأفقدوا ثقة الآخرين فيه؟.
المسئولية، كاملةً غير منقوصة، يتحملها الشعب السوداني لأنه ظل ينظر لهؤلاء الغرباء يعبثون بحياته ولم يُحرِّك ساكناً، الآن لن تنفع توصيات ونصائح الخبراء الإقتصاديين لأنه في ظل هذا النظام القائم اليوم قد فات آوان الإصلاح، فضلاً أن ما ينصحون به لن يجد الأذن التي تستمع إليه في مطبخ صنع القرار في السودان خاصة وأن الإصلاحات النقدية ستُطيح بالمراكز المالية لأهل النظام أولاً، وثانياً أن إستمرار بقاء النظام في سدة السلطة مرهون بالكثير من الإنفاق على الأوجه التى تحقق له هذا الهدف مثل الرشاوي التي يدفعها من أجل شراء ذمم الإنتهازيين والطفيليين، داخل السودان وخارجه، مثل الدفع بالعملات الصعبة للأفارقة حماية لرأس النظام من القبض عليه أو لأفراد من الإدارات الأهلية أو قيادات في المجتمع المدني أودستورييِّ الترضية من وزراء ومعتمدين وغيرهم بالإضافة إلى الصرف على المليشيات الأجهزة القمعية الأخرى وهي جملة أمور تزيد الإنفاق الحكومي المتضخم أصلاً ولاينجح مع مثل هذا الإستنزاف المالي أي إصلاح نقدي، الأزمة الحقيقية الآن في السودان هي أزمات شاملة سببها نظام مشوه لا تصلح معه أي محاولات جزئية لحل هذه الأزمات، الحل يكمن في توحيد الجهود بعزمٍ صادق من أجل تغيير هذا النظام وتنظيف الفوضى التي خلقها وبعد ذلك يأتي دور روشتات العلاج لكل قطاع من القطاعات الإقتصادية التي تضررت من سوء إدارته للبلاد.