بقلم عثمان نواى
فى ذكرى استقلال السودان ال62 والذكرى السابعة لاستفتاء تقرير مصير جنوب السودان , هذا مقتطف من كتابى بعنوان السودان بين العنصرية والتطهير الاثني والذى حاول التوثيق لمراحل مسكوت عنها من تاريخ السودان . هذا المقتصف من الفصل الخامس بعنوان الاستقلال : انكشاف المستور.
لم يكن للادارة البريطانية رؤية واضحة حول الجنوب حتى عام 1945, وكان الاداريون البريطانيين محتارين حول خيارات الجنوب بين الانضمام الى دول شرق افريقيا او الانضمام الى شمال السودان. والذى اعتقد البريطانيون انه ذو ميول شرق اوسطية عربية مختلفة تماما عن الجنوب. كما ان مبررات الادارة البريطانية لسياسة المناطق المقفولة, وضعت على اساس حماية الجنوبيين الافارقة من التاثر بالعرب والمسلمين الشماليين . وحمايتهم من تجارة الرق والاستغلال الذى كان يجرى من قبل الشماليين قبل قدوم الانجليز. وبناء على هذه المسببات كان الجنوب منفصلا اداريا عن الشمال. ولكى يتم تحقيق مخرجات مؤتمر ادارة السودان قررت الحكومة اقامة مؤتمر فى جوبا لاستطلاع راى الجنوبيين فى المشاركة فى الجمعية التشريعية, وذلك بعد ان غضب الاداريون الانجليز فى الجنوب من ان مخرجات مؤتمر الادارة التى قررت انشاء جمعية تشريعية لكل السودان لم يتم فيها استشارة الجنوبيين. ونتيجة لهذا الموقف من الاداريين الانجليز فى الجنوب والملقبين ببارونات المستنقعات, ومطالبتهم بضمانات خاصة بالجنوب, تم عقد مؤتمر جوبا بين 12 و13 يونيو1947 .
كان مؤتمر جوبا نقطة تاريخية فاصلة اسهمت فى تغيير شكل ومصير الدولة السودانية. فقد تم اقرار ان السودان دولة واحدة فى الجنوب والشمال وحسم الخيارات الاخرى المتعلقة بمصير الجنوب. ولا يزال قرار الادارة البريطانية حول توحيد السودان امرا يستحق المزيد من البحث. ولكن كانت السياسة البريطانية كما يبدو حائرة حول الجنوب ومتعجلة تجاه تهيئة الشمال للاستقلال. ورغم ان الجنوب كمنطقة مقفولة لم يحظى بالاهتمام اللازم الا انه لم يكن هناك مخرج من ان يشارك مع الشمال على قدم سواء فى الخطوات المتسارعة نحو الاستقلال. فحتى السير سايمز المتحمس للتعليم لم ينجح فى ان ينشىء نظام تعليمى قوى موازى للذى انشىء فى الشمال, ويعزو روبرت كولينز الباحث البريطانى فى شئون السودان موقف سايمز المتحيز ضد الجنوب الى انه:” كان متشككا فى قدرة التنمية الاقتصادية وحدها على قهر التخلف المزمن لجنوب السودان” هذه النظرة ذات الطابع العنصرى , والتى اتسم بها اكثر الحكام البريطانيين تقدمية, كانت سببا فى ان يبقى الجنوب غارقا فى حالة ” التخلف المزمن” دون ان يتم انتشاله منها ابدا.
وعندما اتى مؤتمر جوبا كانت الحكومة فى الخرطوم قد اهملت الجنوب لسنوات وتركت التعليم فيه للارساليات ولم تقوم فيه اى نظم ادارية قوية. وبالتالى كان فى مرحلة تنموية واقتصادية متأخرة للغاية عن الشمال خاصة فى جانب الادارة والعمل السياسى. “ففى اليوم الاول للمؤتمر كان راى جميع ممثلى الجنوب من الادارات الاهلية والمتعلمين انهم غير مستعدين للمشاركة فى الجمعية التشريعية… لكن القاضى الشنقيطى ظل طوال المساء يستخدم قدراته الشخصية الاقناعية والترهيبية من اجل اقناع ممثلى الجنوب المتعلمين بتغيير تفكيرهم محذرا اياهم من انهم باصرارهم على رايهم ( لن تكون لهم كلمة فى حكومة المستقبل)” والشنقيطى المشار اليه هو القاضى محمد صالح الشنقيطى الذى شارك مع شماليين اخرين فى مؤتمر جوبا, من بينهم حسن الكد وسرور رملى وحبيب عبد الله . وكان الاداريون البريطانيون من الخرطوم يمارسون ضغوطا ايضا لاقناع الجنوبيين. فلقد اوضح السير روبرتسون ان السياسة منذ 1945 ترمى الى ان يتجه الجنوب نحو شمال السودان وليس الى الكونغو او يوغندا. ” وذكر روبرتسون ان الشماليين يأملون باخلاص فى ان تساعد مشاركة الجنوبيين فى الجمعية التشريعية فى الاسراع بتوحيد شطرى البلاد. واكد روبرتسون ان الدوافع وراء هذه التوصيات نبيلة ولا ترمى الى استغلال قبائل الجنوب.” وبالاضافة للسير روبرتسون كان الشنقيطى قد لعب كما ذكر المؤرخون دورا هاما فى اقناع الجنوبيين وترهبيهم كما اشار كولينز, وقد كانت احدى حجج الشنقيطى لاقناع الجنوبيين هى ان الجنوب ليس وحده المتأخر على الشمال بل ان هنالك مناطق اكثر تاخرا منه فى الشمال. اذ قال الشنقيطى حسب رواية اوردها الدكتور فيصل عبد الرحمن على طه :” ان الحكومات المحلية على وشك ان تبدأ فى مناطق البجة والفونج وجبال النوبة ودارفور, وان هذه المناطق متأخرة ووضعها كوضع الجنوب تماما بل ان عدد المتعلمين فى الجنوب يفوق بعض المناطق.” وهنا نرى هذا المشهد التاريخى المتواصل للتهميش المستمر الذى جمع الجنوب ببقية المناطق المهمشة فى الشمال منذ نشأة الدولة السودانية. فهاهو الشنقيطى محفزا الجنوبيين يؤكد لهم انهم ليسوا هم فقط المتأخرين و المهمشين والمستبعدين , بل لكم زملاء هم اسوأ حالا منكم, انها حجة يجب ان ينظر اليها فى ضوء الوضع الحالى ايضا.
فبعد اربعين عاما من مؤتمر جوبا قامت الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق, على ذات رؤية الشنقيطى التى توحد مهمشى السودان المتأخرين سوية مع بعضهم البعض. ولكن هذه المرة ليقاتلوا الدولة السودانية المستقلة التى بنيت منذ البداية على هذا الترهيب, وهذا الانقسام والتهميش المرتبط بالجانب الاثنى ايضا. والشنقيطى والنخب فى تلك الفترة لم تكن تفكر فى ان يتم توحيد السودان على اسس وضمانات تؤكد على امكانية المساواة فى المستقبل بين الشمال وتلك المناطق المتأخرة. حيث كان المنطق المستخدم من قبل تلك النخب منذ البداية, يشير الى التوحد بين المناطق المتأخرة لانها متشابهة , دون امل مستقبلى فى توحدها او مساواتها مع الشمال الاكثر تقدما. حيث تمت عملية اقناع الجنوب بمفهوم ملتوى يثبت انه لا يتعرض لتمييز وحده , ولكن هناك مناطق اخرى تتعرض لذات التمييز والتهميش. وعدم انضمامه للجمعية التشريعية سيعنى عزله مستقبلا , فى الوقت الذى لم ترفض المناطق المهمشة الاخرى الانضمام.
كانت تلك اللحظات التاريخية فى مؤتمر جوبا تمثل مرحلة فارقة فى مسيرة السودان السياسية. حيث لم يجد خلالها الجنوبيين بدا من السير خلف التيار الجارف الذى كانت الادارة البريطانية على رأسه. فلقد اراد البريطانيين حسم وضع الجنوب باكبر سرعة ممكنة , فمارسوا كل الضغوط المتاحة. كما انهم وضعوا ضمانات وتعهدات بان يتم المزيد من العمل على الحاق الجنوبيين برصفائهم فى الشمال على مستوى التعليم والخبرة الادارية والسياسية. كما ان الشماليين ايضا صادقوا على تلك التعهدات, و لكنها سرعان ما طويت فى صحائف النسيان , بعد ان قامت الجمعية التشريعية. يقول كولينز :” كان واضحا ان المتعلمين الجنوبيين فى طريقهم الى جنى فوائد شخصية من تاييدهم سياسة روبرتسون القائلة بالسودان الموحد… وكانت النقطة الاكثر اثارة للجدل تتعلق بالضمانات الضرورية لضمان تطور صحى للشعوب الجنوبية. فبدون هذه الضمانات سيتعرض الجنوبيون للطغيان ويظلون مجرد مصادر للاخشاب والمياه لما تعتبر ارستقراطية شمالية اعلى رتبة.” للاسف ان ما توقعه كولينز هو ما حدث بالفعل. فالارستقراطية الشمالية المتعالية لم تنظر للجنوب ابدا خارج كونه ذلك الافريقى الوثنى الذى يجب تعريبه واسلمته ان امكن, والا فهو هدف مستمر للاستغلال ونهب الثروات كبقية المناطق المهمشة والمتأخرة التى ذكرها الشنقيطى.
وقد ساعد الشماليين كما يذكر كولينز وجود نخبة جنوبية على ضعفها وقلة وعيها , الا انها كانت قابلة للمساومة فى اطار مصالحها الشخصية فى الترقى الاجتماعى والسياسى. ولكن كما هو واضح فان السياسيين البريطانيين لم يكونوا مستعدين ابدا لاى خيار اخر لجنوب السودان سوى الانضمام للشمال. فلقد قال احد الاداريين البريطانيين لكولينز فى لقاء معه عام 1962 , معبرا عن قلق البريطانيين وقتها :” لو قال الجنوبيون انهم لا يريدون السير مع الشمال لاصبحنا فى وضع لا نعرف فيه فعليا ماذا سنفعل بالجنوب.” ويبدو ان هذه الحيرة هى التى قادت البريطانيين لان يؤخروا تقرير مصير الجنوبيين لاكثر من 50 عاما. فبعد الاستقلال وقيام الحرب الاهلية ظل العالم تحت مظلة السيطرة الاستعمارية. ولم يؤيد العالم الغربى بقوة انفصال الجنوب الا بعد ان اصبحت الثروة البترولية فى الجنوب واقعا تتنافس عليه الصين مع الشركات الغربية المتعطشة للنفط, الامر الذى سرع من انجاز اتفاق سلام شامل سمى بنيفاشا برعاية دولية غير مسبوقة. رغم ان ظلال دولية اخرى كانت تخيم على تلك اللحظة التاريخية الا ان لعبة السيطرة الدولية على النفط والصراع بين الغرب والصين لم يكن بعيدا عن مصير جنوب السودان الذى تقرر بعد نزيف غزير للدماء.
ولكن ذلك القرار فى 1947 فى مؤتمر جوبا بضم الجنوب للشمال دون الضمانات الكافية , ودون الحرص على تحقيق تلك الضمانات كان احد الاسباب الرئيسية لتلك الحرب وذلك النزيف. فلقد علم البريطانوين جيدا ان الشماليين لن يوفوا باى التزمات تتعلق بضمانات لتنمية متوازنة للجنوب ليلحق بالشمال. اذ يقول روبرت كولينز :” ورأى السودانيون الشماليون والمصريون انه لا يجوز تحت اى ظرف ان يلقى الجنوبيون اى معاملة استثنائية من قبيل الحديث عن الضمانات . كما اقتنع روبرتسون بان ادراج ضمانات خاصة فى مرسوم الجمعية التشريعية سيعنى الحكم عليه بالفشل, ومن ثم فان سلطة نقض القرارات لدى الحاكم العام تعد كافية تماما لحماية مصالح الجنوبيين. بيد ان مسالة الضمانات قد اضحت بحكم الميتة تماما بحلول مايو 1948 .” ويعزى كولينز السبب فى موت المطالبة او تنفيذ اى ضمانات لصالح الجنوب الى ان :” السودانيون الشماليون كانوا متماهين تماما فى الدفاع عن وحدة او استقلال وادى النيل بشكل جعلهم لا يعيرون انتباها يذكر لجعل بناء سودان موحد حقيقة واقعة.” وهذا بالضبط ما حدث, فهذا الصراع حول وحدة وادى النيل هو فى الحقيقة صراع المصالح الطائفية ورغبات وطموحات السيدين التى كان المتعلمين ادوات التعبير الحديث عنها. والتى ترجع الى الانقسام الذى حدث منذ المهدية بين السودانيين فى الشمال النيلى والشرق وبين اهل الوسط والغرب المناصرين للمهدى ووقتها.
وبذلك ظل السودان الذى لم يخرج من عباءات السيدين يتقاتل عبر المتعلمين , من خريجى اكسفورد وكلية غردون على ذات الصراعات التى تقاتل عليها اجدادهم. وذلك فى سبيل ضمان الحماية الكاملة للسيطرة الاثنية الطائفية والقبلية, والتى لا علاقة لها ببناء دولة حديثة وديمقراطية. والاهم ان العنصرية التى كانت تطبع تلك النخبة, جعلتها لاترى سوى نفسها وصراعاتها تلك حول مصالحها الضيقة فى انتظار وراثة السيطرة وحكم السودان من المستعمرين منتظرين فى تحفز تام. ودون اى رؤية حول امكانية بناء دولة تعبر عن السودان المتنوع وتتخذ من ذلك التنوع تحديا يغنى مقدرات التطور المفتوحة الافاق فى تلك اللحظة الجنينية من مراحل بناء الدولة السودانية. فبدلا عن التعنت فى اعطاء الجنوب ضمانات خاصة , كانت تلك اللحظة مؤهلة الى ان تكون لحظة فارقة كان يمكن للنخب الحديثة ان تمحو فيها كامل تاريخ الرق المدمر , عبر الاصرار على ان تتم تنمية فى الجنوب مماثلة للشمال وان يتم انتظار الجنوب وبقية الاقاليم المتخلفة ولو لخمسة سنوات قادمة حتى يتم لها التطور اللازم للالتحاق بالشمال. بل كان من الممكن ان يكون فتح الجنوب وانهااء قانون المناطق المقفولة فرصة لمد اواصر الترابط والتعاون , وتسريع عملية التنمية فى الجنوب اضافة الى المناطق المتأخرة الاخرى. لكن هذا لم يحدث, و لم تستغل تلك اللحظة التاريخية بل تم استغلال بعض النخب الجنوبية التى تريد تلبية مطامع شخصية, اضافة الى استغلال جهل الجنوبيين, حتى يتم فرض الوحدة .
ومن تلك اللحظة الفارقة بدأت الاخطاء التاريخية للدولة السودانية الحديثة. فالنخب الشمالية كما يورد كولينز لم يكن ينقصها الادراك او الوعى بتأخر الجنوب, ولكنها كانت تصر, وبالتحالف مع مصر على ان الجنوب لا يجب ان يحصل على ضمانات تضمن له تطور اسرع. وهذا الحكم الواعى والرفض المدرك لنتيجة هذا الموقف, لا يحتاج تفسيره سوى للنظر لما جرى بعد الاستقلال من حرب اهلية ضروس لم تتوقف الا بعد 50 عاما. فالنخب الشمالية كانت مصرة فى الحقيقة على الحفاظ على الجنوب ارضا بلا بشر, او على الاقل دون يهتموا بمصير اولئك البشر. فقد كانت الموارد والمياه هى التى تهمهم وتسير خططهم السياسية خاصة ما بعد الاستقلال. ولقد عبر عن ذلك خالد الكد اذ قال:” انه منذ 1954 فان تاريخ الطبقة الحاكمة والمسيطرة من العرب والمسلمين كانت سلسلة من الانتهاكات المستمرة فى جنوب السودان.” وفى النهاية كان الطريق نحو الاستقلال, هو تلك العملية التى اشرك فيها الجنوبيون ترهيبا وترغيبا فى السنوات السبع او الست قبيل الاستقلال, حتى يكتمل شكل السودان الموحد. ولكى يتخلص البريطانيون من عبء الافارقة الذين لا يمكن التغلب على تخلفهم المزمن. ولكن هذا العبء سيظل يحمله الشماليون الذين سيحاربون حروبا دامية مستقبلا للحفاظ على مكاسبهم فى حكم الدولة التى اورثهم اياها الاستعمار.
*مقتطف من كتابى السودان من العنصرية الى التطهير الاثنى المنشور 2017 بالقاهرة عن دار النخبة للنشر والتوزيع.