صلاح شعيب
من الواضح أن الثورة السودانية مواجهة بين الفينة والأخرى بمطبات عويصة. وهي الآن بين أن تصل إلى غاياتها عبر التفاوض مع المجلس العسكري وبين أن تتخطاه وتنفتح على خيارات التظاهر حتى إسقاط السلطة الحالية. والحقيقة أن الخيارين محفوفان بمخاطر تتفاوت في المقادير. والأوضح أكثر أن الثوار منقسمون بين ذينك الخيارين المرين. فقسم يرى أن المجلس لا موثوقية فيه. هذا بخلاف أنه لا يستحق بمكونه الحالي أن يكون شريكا بأهلية بائنة. أما القسم الآخر فيرى أن مجزرة فض الاعتصام، وحادثة الأبيض، مبرران كافيان لإيقاف التفاوض، والعودة إلى منصة التاسيس: الشارع. والملاحظ أن كل طرف من صناع الثورة له حجته القوية. فلو كان المعارضون للتفاوض يرون أن بعض أعضاء المجلس العسكري هم جزء من اللجنة الأمنية للبشير، والبقية كانوا سيفه البتار الذي يبطش عبر الأمن، والجيش، فإن الواجب يتحتم ألا تمنح الشرعية لخصم الثورة. وهذه الوضعية تفرض ألا يكون المجلس جزء من التغيير. هذا بخلاف دور عضوية المجلس في دعم العنف ضد الثوار في الخرطوم، وأجزاء أخرى من القرى، والمدن، وآخرها الأبيض. فضلا عن ذلك فإن الرافضين للتفاوض كانوا حتى قبل استهلاله يرون – مبدئيا وأخلاقيا – أن من تورطوا في مجازر ضد المدنيين، وصاروا عملاء لدول في الإقليم، ينبغي ألا يكونوا طرفا من السلطة الجديدة، وهم فوق كل هذا ساهموا في جرائم قتل قبل وبعد الثورة.
أما المؤيدون للتفاوض فيرون أن استلام السلطة التنفيذية، والتقوي بها، مقدمة ضرورية لمحاسبة كل المجرمين، وضمنيا يعنون بعض مكوني المجلس العسكري. ويضيفون أن الاستناد على هذه السلطة التي يفرزها التفاوض تتيح التخلص من حاضنة الإسلاميين، وبمساعدة الطاقم الدبلوماسي الجديد في البلدان العربية، والأفريقية، والأوروبية، والمنظمة الدولية، تكون هناك مساحة لحكومة الثورة أن توظف هذا الوجود لمحاصرة المجلس في تلك المحافل العالمية. وكذا تكون محاصرته ممكنة – كما ينظر المؤيدون للتفاوض -لو أن السيطرة على الإعلام الرسمي قد آلت إلى المنتمين لقوى الحرية والتغيير. بل يرون أن وزارة الإعلام الجديدة ستوقف الصحف، والقنوات الخاصة، التي يمتلكها بعض فلول النظام لتحل محلها مؤسسات إعلامية داعمة للثورة.
-٢-
الحقيقة أن مع هذين الخيارين اللذين يواجهان مناصري الثورة فإن المجلس العسكري لا يملك – بناء على ضعف الأرضية التي يستند عليها – إلا خيار التفاوض حتى يضمن شرعيته. ولكن نسبة لتأثير الخاضنة الإسلاموية في الدولة، واختراقها للازمة الناشبة بين المجلس، وقوى الحرية فإن أمنيات أعضاء المجلس الراغبين للتعامل مع قوى الحرية تهتز في كل منعطف. والملاحظ أن المجلس العسكري ما قبل الثلاثين من يونيو الماضي كان على وشك حل الأزمة من طرف واحد عبر تجاوز قوى الحرية وإعلان حكومة تجمع بعض شتات الجهات التي تدعمه. ولكن مع مثول المبادرة الأفريقية الإثيوبية لم يبق خيار أمام المجلس إلا الرضوخ، والعودة إلى الاتفاق الأول الذي منح قوى الحرية اعترافا منه بتكوين مستويات السلطة الثلاثة، مع التحفظ على الغالبية المدنية للسيادي لحفظ ماء وجه برهان الذي لغى الاتفاق.
ومع الخيار الأحادي للمجلس العسكري فإن قوى الحرية والتغيير لا تملك كروت ضغط في التفاوض حول الإعلان الدستوري ليستوعب ما لم تتضمنه وثيقة الاتفاق السياسي الذي خلا من أهم بند يريد الثوريون تضمينه، وهو إعادة هيكلة الجيش، والدعم السريع، وحل جهاز الأمن. وكما نعلم هو الجهاز الذي ما يزال يتبع للحركة الإسلامية. إذ إن كوادره تم انتقاؤها بواسطة حكومة الترابي ثم البشير. بل إن الإسلاميين هم الذين أسسوه، ودربوا عددا من الكوادر في إيران، وهو من أكثر الأجهزة الأمنية تأثيرا في المنطقة، وغالبية ضباطه حلفوا – كما فعل هاشم عبد المطلب – لحماية الحركة الإسلامية والولاء لها قبل الوطن. وفضلا عن ذلك فإن جهاز الأمن، والدعم السريع، لديهما مواردهما المالية خارج ميزانية الدولة، ولم يمسسهما أي قرار حل حتى الآن.
الأمر الآخر أن قوى الحرية والتغيير في تجاذباتها المستمرة مع المجلس العسكري بدت تشاكس بعضها بعضا في أكثر من واقعة من خلال البيانات المتضاربة. وهذا أمر مفهوم بالنظر لطبيعة التحالف الجبهوي، كما أشرنا من قبل، ولكن على المدى البعيد فإنه إذا لم تتفق على تقريب وجهات النظر داخلها بشأن بطلان التفاوض أو النزول إلى الشارع فربما يحدث الشقاق الذي ينعكس على الراهن السياسي سلبيا، ويقوي من ثم فرص المجلس العسكري في المراوغة في عدم تقديم التنازلات.
-٣-
خلف كل هذه المشهد الذي فيه تتنازع قوى الحرية والتغيير مع المجلس العسكري تسعى الحركة الإسلامية، وفلولها الانتهازيون، وجهات إقليمية، إلى صب الزيت في نار العلاقة بين الطرفين اللذين يتفاوضان حول كيفية التعامل مع راهن البلاد. وسواء استمر التفاوض لأجل أن يثمر، أو كان البديل هو استئناف التظاهر لإسقاط المجلس، فإن الحركة الإسلامية بشقيها الوطني والشعبي لن تتوقف في استثمار المناخ السياسي المضطرب.
المشكلة الكبرى التي تواجه حكومة الحرية والتغيير إذا أثمر التفاوض هي أنها ستواجه بحرب شرسة من الحواضن المختبئة للحركة الإسلامية في الجيش والأمن، هذا إذا تمكنت من تنظيف الخدمة المدنية من الإسلاميين الرافضين للتغيير.
وحتى إذا عاد الثوار للشارع فإن الإسلاميين سينشطون في مضاعفة تحريك خلاياهم النائمة، لكونهم لا يريدون ميلاد حكومة قوى الحرية والتغيير، ومن ناحية أخرى سيستفيدون من فرص وجودهم داخل الجيش، والأمن، والإعلام الرسمي، وكذلك الخاص الذي يسيطرون عليه لتعويق التغيير كما ظلوا يفعلون حتى الآن.
إذن نخلص إلى أن خيارات قوى الحرية والتغيير لا يمكن الاستهانة بمخاطرها على الجهتين: الاعتماد على التفاوض كوسيلة للتغيير الممرحل، أو بطلان التفاوض والاحتكام إلى الشارع حتى يحدث التغيير الراديكالي. وفي ظل هذا الوضع يصعب البحث عن طريق ثالث لتخفيف مخاطر التغيير. ولكن العزاء هو أن الأجيال الثورية الناهضة من أجل بناء الدولة الوطنية قدمت تضحيات كثيرة ما بعد الاستقلال، وما تزال أمامها تحديات جمة تحتاج إلى تضحيات متواصلة، سواء في حال السلم، أو في حال حرب الجيوب العسكرية، والأمنية، والمليشية، ضدها.
ومهما يكن نوع الخيار الذي فضلته قوى الحرية والتغيير إزاء التعامل مع المجلس العسكري فإن الطريق للدولة الوطنية ما يزال طويلا. بل إن التحديات الضخمة التي يواجهها الراغبون في التغيير نحو الديموقراطي ستكون أصعب من التحديات الحالية التي حتما لن تثني السودانيين من الانتصار على قوى التجهيل السياسي، وداعمي الاستبداد المتطرفين، وطفيلية السوق الانتهازية. وهذا هو الثالوث الشرير الذي يتحمل مسؤولية دماء فض الاعتصام، وحادثة الأبيض. بل هو الثالوث الذي وأد أحلام السودانيين منذ الاستقلال.