التلاقح العسكري مع الجار الشمالي ليس أمراً جديداً، في حرب النكسة كان لقواتنا المسلحة قدح عالي من العطاء والمواجهة البريّة، لكن وكعادة هذا الجار الممسك بتلابيب رقابنا لا يعترف للجندي السوداني الا بدور الحارس الأمين للباب الخلفي للحديقة، كما هي النظرة النمطية لابن مصب النيل تجاه (شقيقه) الجنوبي، تلك النظرة المؤطرة والمنمّطة لهذا الشقيق – البواب عثمان – السائق محمد صالح – النادل نقد، هذا الاطار المرسوم ليدور بداخله الشقيق السجين غير مسموح بخروجه منه دون إذن، أو بالأحرى دون ثورة، الفعل التراكمي الثقافي والاجتماعي والأمني والأقتصادي منذ غزوة محمد علي باشا القاصدة الى جمع المال والرجال (العبــــــيد) قبل مائتين عام، هذا التراكم حوّل مواطن جنوب الوادي لتابع هيّن ليّن ومطيع لا يدري أنه لا يدري، وهذا المواطن الجنوب – نيليبالضرورة هو المنتج الحقيقي للحاكم الذي لن يكون بأفضل حال منه في خصيصة توطّن هذه التبعية التراكمية، لذلك رأينا هزال رأس الدبلوماسية الجنوب – نيلية في المحفل المقام خصيصاً لحسم معضلة مشروع المياه النهضوي للجار الجنوب – شرقي، تأثير دولة محمد علي باشا طال جذور منبت سكان النيل الجنوبي، لذا لا غرابة في استمرار الدور المرسوم بعناية ودراية لهذا الحارس الأمين.
انقسام الوجدان الشعبوي هو نقطة الضعف الأكبر المُستغلة من قبل الطامعين، وتعدد الهويّات الصغرى وتشاكسها وتباريها في ميادين السبق الحضاري، فتح الباب واسعاً أمام الغزاة ليلعبوا لعبتهم المفضّلة ويمارسوا هواياتهم المحببة، والفوبيا الهستيريةللمكونات المجتمعية لهذه الهويّات وخوفها من بعضها البعض كشف المسرح لكل من يريد أن يشاهد، وفتح شهية الجيران والعربان لخوض غمار رحلات الصيد الجائر، كيف لا والجار الشمالي قد عبث بوجدان الهويّة المركزية عبر تدمير وتكسير سلم التعليم، وملأ خواء العقول بمنتجاته الثقافية (المحليّة) الرخوة فسوّقها لأبناء جنوب النيل على أساس أنها المحصّلة النهائية لما توصّلت اليهالانسانية، لا عجب إن قرأت صحف الخرطوم ورأيتها مكتسيةبالسواد حداداً على موت سمير غانم وخلو صفحات الجورنال القاهري من كلمة عزاء في يوم رحيل الفاضل سعيد، الأستتباع الحضاري منهج علمي تدعمه مراكز البحوث وترصد له الميزانيات العملاقة، الكيزان رغم سوءاتهم الكثيرة إلا أنه يحمد لهم سودنة فرع الجامعة المركزية للجار الشمالي الكائنة بقلب مقرن النيلين.
الانعتاق الوطني ثمنه نفيس جداً وقد كلّف رواندا ملايين الرؤوس والجماجم البشرية، فالذي استمرأ أن يدوس بحذائه على ظهرك لعشرات السنين وأنت تئن لا يسمع نواحك، ولا يعير بالاً لصياحك ولا يكترث لشكواك ورجاءاتك ما لم تستعدل انحناءة ظهرك بيدك لا بيد الدائس، ولكي يحدث ذلك لا مفر من توسعة ماعون الهويّة الوطنية الجامعة المستوعبة لشتات وتناثر الهويّات المتعددة، وهذا لن يتم الا باستئصال فوبيا عدم قبول الشريك الداخلي، والثورة على عملاء المحاور الثلاث الذين ما يزال وزرائهم يفعلون ما يريدون غير مرتكزين على مؤسسية الهم الوطني، رأس السيادة يطبّع ووزير مجلس الوزراء يبرطع وحادية ركب الخارجية تجعجع وأمين الماليمعمع، والكل يعمل على شاكلته وليس على شاكلة الوطن المستباح من جميع الجهات، وهل هناك وطن بالأساس؟، أم أنه حظيرة وحاكورة ملكيتها الحصرية تعود لورثة محمد علي الألباني؟، العائد مجدداً بهيئته الجديدة التي تحمل ذات الأجندة القديمة – نبيذ قديم في قناني جديدة – الهادفة هذه المرة لحماية منبع الماء، جدل الهويّة ليس ترفاً فكرياً ولا حواراً فلسفياً يمتع به المثقفون أنفسهم، وإنما هو محاولة صادقة للأجابة على السؤال المحوري (من نحن؟) للخروج من قبضة الباشوات.
الحل في الخرطوم وليس في باريس أو القاهرة، والحل لن يكون الا بأيدي وطنية خالصة غير ملوثة بريال التبعية ولا بجنيه الباشوية، سمعت حديثاً لبول كاقامي رئيس رواندا في احدى المنتديات الافريقية فيه يعيب على زعماء القارة السوداء اذعانهم لقبول دعوات حضور المؤتمرات الأوروبية التي يكون شعارها حل المشكل الأفريقي، وحثه للقادة الأفارقة لأن يحكوا جلودهم بأظفارهم وأن يعقدوا اجتماعاتهم ببلدانهم، لأنه وبحكم وجهة نظر كاقامي أن الاستجابة لمثل هذه الدعوات في حد ذاتها انكسار واستسلام لأجندة مقدمي الدعوة، صدق الزعيم الأفريقي الرواندي محرر شعبه من سيطرة الفرانكفونية القاتلة، الانهزام النفسي هو القاتل الصامت للشعوب الافريقية الغارقة في غيبوبة التبعية الحضارية، كيف يقبل من يملك الأرض والماء والرجال والذهب أن يُقاد بجهاز التحكم من بعد (الريموت كونترول) مثله مثل الروبوت؟، التحية لشعب النجاشي الوسيم والقوي الذي عرف طريقه فاشرأب منافحاً عن جذره الحضاري منبت الأنسان الأول، ويا ربنا هب لنا من لدنك وطنيين شرفاء لا يعبدون الدرهم ولا يركعون للدولارويعرفون قدر نفسهم وقدر الأرض وحرمة العِرض.
اسماعيل عبد الله
22 مايو 2021