عثمان نواي
مما لاشك فيه ان وقف الحرب هو الاولوية الرئيسية لما يجرى الان من مفاوضات. لكن كما ذكرنا مرارا، فإن وقف الحرب لا يعنى الوصول الى سلام. فقد عاش السودان فى علاقة مع اطرافه حالة من اللاسلام واللاحرب لفترات طويلة. وهى حالة أخطر من الحرب بشكل مباشر. لأنها تولد فى النهاية حالة من الاحتقان التحتى الذى يتحول الى انفجارات عنيفة مع عدم انتزاع أسباب المظالم التاريخية. هذه الحالة تظهر بشكل أوضح فى دارفور وشرق السودان ،فرغم ان الحرب بدأت فى دارفور متأخرة نسبيا مقارنة بالجنوب وجبال النوبة، الا انها كانت الاعنف وجرت فيها ابادة ومذابح فى ظرف أشهر ربما استغرقت سنوات فى المناطق الأخرى. والسبب هو ان دارفور عاشت سنوات طويلة منذ الاستقلال حالة من الإهمال وحالة اللاحرب واللاسلم مع الدولة المركزية. حتى انفجرت بشكل دموى فى ٢٠٠٣ حرب ضروس وحركات مقاومة شعبية واسعة، قابلها النظام السابق بقمع وصف بانه جرائم ضد الانسانية.
لذلك فإن ما يبعث على الأمل هو ان اتفاقيات التفاوض الإطارية وآخرها ما تم اليوم بين الجبهة الثورية والحكومة ،كلها أكدت على مخاطبة الجذور التاريخية. هذه المخاطبة رغم أنها عملية صعبة ومعقدة ولكنها ضرورية للغاية لتحقيق سلام مستدام. اى عملية تفاوض لا تعمل على استعادة التوازن بين مكونات السودان الاجتماعية ، وقواه السياسية والاقتصادية ، لن ينتج عنها سوى سلام مؤقت لا يرقى الا الى انه مجرد وقف للحرب ولكن ليس سلام حقيقي . حيث ان التوازن المفقود بين مكونات السودان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ،هو الذى أدى الى عملية سوء توزيع مخلة ومستمرة للسلطة والثورة والقدرة على الوصول الى الموارد وحقوق المواطنة.
ان النظرة الى الاستبعاد والتهميش وقضايا الهوية وغيرها على أنها أجندة اصيلة فى عملية مخاطبة أزمات الصراع هى من أهم منجزات الثورة الأخيرة. وفى الطريق الى تشكيل اطار منهجى للخروج من كل تلك الإشكالات، فإن التركيز فى عملية التفاوض والإنتقال الى السلام يجب ان يتجه نحو صناعة توازن مستدام وعضوى بين كل مكونات السودان الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. اخذ فى الاعتبار كل التحديات المتعلقة بالتاريخ وأخطاء النخب منذ الاستقلال فى بناء دولة ثقلها مرتكز على محور مركزى، دون اى اعتناء بالاطراف التى أصبحت خارج دائرة الضوء. لذلك فإن التفاوض على السلام يجب ان يكون على قدر من المسؤولية لوضع خارطة جديدة لموازين القوى الاجتماعية والسياسية. حيث ان التعليم المنتشر فى كل السودان، جعل درجات الوعى بالحقوق واسعة ولذلك فإن المطالب بمواطنة متساوية وبمعايير مرتفعة أيضا لن تتوقف الا اذا تحقق ضمان توازن شامل بين كل مكونات السودان بما فى ذلك الفئات العمرية والنوعية مثل الشباب والنساء.
وربما ينسي الكثيرون ان أجيال كاملة ولدت وعاشت فى معسكرات النزوح واللجوء، لذلك فإن التعامل مع تطلعات ومطالب المتاثرين بالحرب وكذلك المتطلعين للحياة الأفضل من الاجيال الجديدة خارج مناطق الحرب ، تتطلب رؤية واقعية ولكنها شاملة للماضي والمستقبل أيضا. حيث ان اى سلام مؤقت، اى مجرد عملية وقف الحرب والاتفاق شكليا على مصفوفات اقتسام جزئى للسلطة وبعض الثروة لن يكون سوى إنذار بأن الغليان الاجتماعى سيظل موجود على مستويات تحتية والتى سوف تصعد الى السطح فى انفجار واسع ربما لا يكون بعيدا. عليه فإن السلام المستدام لن يتحقق سوى بنظرة شاملة لا تنحصرفى الان ولكنها تستجيب لتحدياته، تستوعب جذور الأزمة وتستطلع حلول مستقبلية ولكنها تبدأ من اليوم، وهناك امل فى ان ما يجرى الان من تفاوض حسب الاتفاقيات المعلنة ربما يقود الى طريق مختلف عن ما سبق من اتفاقات نحو صناعة توازن مستدام بين كل قوى السودان ومكوناته الاجتماعية والسياسية والثقافية.
[email protected]