الضامن الأوحد لأتفاق نيفاشا كان جيش قرنق، ظلت القوة العسكرية تمثل طاقة دفع رباعي لحركات الكفاح المسلح بأطراف البلاد، لأن الخرطوم منذ دخول محمد علي باشا حتى سقوطها بيد الإمام محمد احمد المهدي لا تمكّن كائن من كان من نفسها الا بعد أن يعلن عن فحولة مدعومة بفياجرا السلاح، هكذا أخبرنا تاريخ هذه المدينة الفاضلة العصيّة على التطويع، فالتداول السلمي للسلطة فيها مهدد بطموحات النخب السياسية التي لا تفضل الدخول في مغامرات ديمقراطية غير مأمونة ولا مضمونة النتائج، وكل صفوة جهوية من الأفندية تختبيء خلف جنرال يملك السطوة العسكرية، حتى أن الانتفاضات الشعبية التلقائية الثلاث لم تخترق جدار الحلف المدني العسكري القديم المتجدد، وفي كل هبّة ثورية يبيع القادة المدنيون اتباعهم السذج الحالمين بوطن المحبة والسلام والوئام والحكم المدني الراشد للبزة العسكرية، والزواج الكاثوليكي بين ضباط الجيش والأفندية مايزال يقضي شهور وسنوات من العسل المرير، فلا الشعب ارتوى من عطش الديمقراطية ولا الجنرالات قد أشبعوا نهمهم من جوع السلطة، وبين رغبات العسكر وشهوات المدنيين تحتفظ صحف البلاد بنفس العناوين العريضة الشاكية لطوب الأرض غلاء أسعار السلع الأستهلاكية والوقود منذ ستينيات القرن الماضي.
الجيوش الكثيرة المنتظرة لعمليات الدمج والتسريح اصابها الملل، وبند الترتيبات الأمنية مازال يراوح مكانه ولا يخضع للتنفيذ، وفوبيا شيطان الآخر ما برح مكانه المتوسط لعقول النخب السياسية السودانية الشرقية والغربية والشمالية، وتقسيم سلطة الأمن والجيش والشرطة فيما بين هذه النخب هو المحك والأختبار الحقيقي لحسن النوايا وسوءها، ودخول جيش الجار الشمالي تحت غطاء التناور العسكري ينبيء عن وميض نار مخبوء تحت الرماد، والصياح يعلو باصوات شهيرة لبعض الناشطين المحسوبين على مركزية الدولة، ليقولونها صراحة أنهم لا يرحبون بوجود هذه الجيوش الكثيرة القادمة من الأطراف البعيدة، حالة من التشكك والتحسس والرفض تشوب العلاقة بين قادة جيش الحكومة ورتب عليا بالقوات العسكرية التي كانت متمردة على سلطة الخرطوم طيلة عهد الرئيس المخلوع، التوتر يزداد يومياً ونذر انفجار الوضع الأمني السائل محتملة والاحتقان الاجتماعي وشظف العيش يزيدان هذا التوتر توتراً، فهل تترك الخرطوم غنجها ودلالها المستفز لخاطبي ودها وعشاقها؟، أم أنها مازالت على عهدها وضلالها القديم مثيرة لحفيظة غيرة عاشقيها بمغازلة الأجانب والغرباء البيضان المستميتين طمعاً من أجل نهب ثروات وخيرات ارض السودان؟.
الخطر الداهم على وحدة الجسد الوطني تعكسه الزيارات الماكوكية لرموز الحكم، والرحلات الجوية المتكررة للقاهرة وقطر وتركيا والرياض وابوظبي والمانيا، هذه الهرولة المستمرة منذ عهود الانظمة السابقة دافعها الأساس هو الضعف والوهن الداخلي لرموز السيادة الوطنية، وولاءهم لموجهات الأجندة الأقليمية والدولية دون أي اعتزاز أو ايمان بالاجندة الوطنية، وأخطر ما في الأمر هو الولاءات الموزعة بين حكومات دول الشرق والغرب من جانب وبين العسكر الحكوميين ومعهم المكافحين المسلحين الذين كانوا متمردينمن الجانب الآخر، هذا الضعف وذلك الهوان نابع من الارتهان للحلول الخارجية وتبخيس الجهود الوطنية، عبر التاريخ الحديث للدولة السودانية عاثت مكاتب المخابرات الاجنبية تخريباً وافسدت النزعة القومية لدى الفرد والحاكم، فتجد الحاكم والمحكوم يعلقان آمالهما العراض على السفن المحمّلة بالأرز والقمح الآتية من العواصم التي تدير هذه الأجهزة المخابراتية، ولن يكون تنجيماً ولا ضرباً على الرمل لو قال شخص أن تأخير بند الترتيبات الأمنية جاء نزولاً عند رغبة مؤسسات الاستخبار المتفيئة لظلال اشجار اللبخ بعاصمة اللاءات الثلاث، وليس غبياً ذلك الذي يدير هذه الملفات أن يقبل بتكوين جيش قوي في الاقليم وعلى أرض النيلين.
الثورة المهدية تفجّرت من أجل تخليص الشعوب السودانية من اعباء الضرائب الباهظة التي كان يفرضها عليها نظام الأستعمار التركي، فالتحم المهدي وتورشين ودقنة وزلزلوا اركان أرض السودان تحت أقدام الغزاة وحرروا الخرطوم، فهل من مهدي آخر لهذا الزمان يخرج لنا من قمقمه ليعيد التاريخ نفسه ويقتلع العملاء والمأجورين والمرتزقة والمتواطئين وحراس الاجنبي؟، لا نريد لوطننا أن يستباح للمرة الثالثة وفي الألفية الثالثة حتى لا يرث احفادنا عقدة الحفاوة المبالغ فيها بالأجانب، وحتى لا يبغضوا بعضهم بعضاً كل هذا البغض، العقدة التي اقعدتنا وأوهنت عزم اجسادنا واحبطت اعمالنا وحطت من همتنا ومكنت القنوط في وجدان الأجيال المتعاقبة، انها الفرصة الاخيرة لبناء الوطن الذي يسع الشرق والغرب والشمال والجنوب الجديد، لقد أرهقت هذه الشعوب جراء افعال ابناءها المرتمين في حضن الغير وسئمت الوحدة الاجبارية والعيش في عش زوجية مليء بكل اسباب البغضاء والشحناء والتنابز بالألقاب، فاما امساك بمعروف واما تسريح باحسان، لقد كره الناس هذه الحسناء – الوحدة – المغتصبة والمجبورة، إنّهم يتوقون الى أن يعيشوا في سلام حقيقي ولو على قمم جبالهم أوعلى سفوح مرتفعاتهم وبين سهول ووديان مزارعهم منفصلين عن هذه الحسناء الكذوب اللعوب.
اسماعيل عبد الله
28 مايو 2021