(1)
على خلاف الأحزاب العقائدية، فإن التجنيد لعضوية الحركة الإسلامية يَتّخذ مدخلاً مغايراً. فبينما تكون أُطروحات الحزب ونظرته للتاريخ والمستقبل، ومقارباته للاقتصاد والاجتماع والثقافة والمنهج، هي محور للتفاكر والنقاش مع العضو المُحتَمَل، تعتمد الحركة الإسلامية مدخلاً اجتماعياً صِرفاً. تبدأ، في الغالب، بصداقة؛ ثم تتطور فتصبح علاقة أسرية، تتسع لتشمل حتى أفراد الأُسرة الممتدة، ما يشبه التطويق أو الاحتواء الاجتماعي،لتضحى علاقة الفرد بالتنظيم هي قضية حياة متكاملة:تتقاطع فيها حياته الشخصية ونشاطه السياسيّ وخُطط مستقبله. بل تتشابك أكثر بالمصاهرة، فيبدو الخروج عن التنظيم كانتزاع الظفر من الإصبع، إذ لا حياة للفرد خارج التنظيم، الذي يضم أصدقاءه ومعارفه وزملاء دراسته. ببساطة يعني التنظيم للفرد محيطه الذي يعيش فيه.
المدخل لهذه العلاقة يتم عبر مفهوم الإخاء في الله، الذي يستمد جذره من آيات القرآن الكريم (إنما المؤمنون إخوة) (الآية 10 سورة الحجرات)، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) (103 آل عمران) وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-وما أُثِر من الصحابة، ليغدو الإخاء في الله أكثر مفاهيم الحركة رسوخاً، وأرضية سهلة لاستقطاب الأعضاء الجدد.
عندما ينخرط العضو الجديد في التنظيم، يبدأ حياته في أصغر الوحدات التنظيمية، خليَّة بالحي، أو المدرسة، أو الجامعة، لكنّها هنا تُسَّمى أسرة، إمعاناً في تأكيد قيمة الإخاء والترابط.
(2)
ما يحدث بـ(الأُسرة) هو إعداد للأعضاء الجدد، بالاطلاع وجلسات النقاش وحلقات التلاوة، والدروس الدينية، التي ترتكز على ما يُسمى بالكتيبات الحركية، والتي تُعدُّ لتزويد الأعضاء بجرعات معرفية على سنة حسن البنا وسيد قطب، وأبو الأعلى المودودي في مراحل أكثر تقدماً، فتصبحُالعلاقةُ بين الفرد والأُسرة التنظيمية غاية في المتانة. لذلك،عندما يُراجع عضو الحركة الإسلامية فِكرَهُ، أو يطرأ خلاف تنظيميٌّ يستدعي ابتعاده، يجد نفسه مواجهاً بغير قليل من الضغط، ضغط نفسي بأنه سيفارق (أسرته التنظيمية) التي عاش بينها حياةً متكاملة، وبمفارقتها عليه أن يبدأ حياته من جديد، بعيداً عن أصدقائه وإخوته ومجتمعه الذي شكَّل نظرته للحياة. فوق ذلك، يتعرض لضغط تنظيمي ممن حوله، يبتدئ بالمراجعة، ولا ينتهي بضغوط المقربين. وإذا نجح أحدهم في الابتعاد فإنه هنا يُسمى “متساقط”، أي “مفارق للطريق القويم”، فيصبح الوصم بالـ”تساقط” أوقع أثراً على العضو، من انحيازه لقناعاته الجديدة. لذلك يصبح التنظيم كالطريق ذو الاتجاه الواحد، تستحيل العودة عنه إلا بعد لأيٍ وشقىً، وتوطين للنفس على الصبر على المفارقة الكاملة.
منذ انقلاب 1989 الذي جاء بالحركة الإسلامية إلى السلطة، ظلت تخضع لاختبارٍ مستمرٍّ لكلّ ما تؤمن به من قيمٍ ومبادئ، كان أهمها مفهوم “الإخاء في الله”، عَظمُالظهر الذي تقوم عليه الحركة، امتُحنَت فيه منذ أيامها الأولى، وظلت تسقط في كل مرة. فمنذ ليلة المصاحف التي أحال فيها الدكتور حسن عبد الله الترابي، قدامى أعضاء الحركة للمعاش، بـ(شكر الله سعيكم)، بدأ حينها يتكشَّف زيف إخاء الأخوان، وربما أدرك شيوخ الحركة الإسلامية،الذين أفنوا عمرهم في خدمة دعوتهم وانتظار لحظة تمكينها، بأن بالدعوة لله إحالة للمعاش الإجباري، بذريعة (تعاقب الأجيال وتبادل الرايات)، كما أوضح لهم شيخهم الترابي، وأن عليهم الاختفاء من فضاء الحركة، التي لم تمكث، وقتها، سوى عامٍ ونصف بالحكم.
وماذا عن الإخاء في الله، أُس وأساس دعوتهم؟ هل يُحال للمعاش أيضاً؟ في الحقيقة أنه، وبقدر ما لاقت الحركة من امتحانٍ لفكرها، ومدى جوهرية مبادئها؛ فإن قيمة الإخاء في الله، بعد انقلاب الإنقاذ، تعرضت لزلازل أبانت خطل ما تدعيه الحركة. فالعلاقة بين السلطة وغايات مشروع الإسلاميين، تبدو في غاية الالتباس: هل قام مشروع الإسلاموين السودانوين لأجل الوصول للسلطة كغايةٍ في نفسها؟، أم كان السعي للاستيلاء على السلطة من أجل تحقيق مشروعهم الحضاري؟. بمعنى؛ هل وظَّف قادة الحركة قدرات تنظيمهم لأجل الوصول للسلطة، انطلاقاً من قناعتهم بأفضليتهم على الآخرين؟، وبالتالي أحقيتهم في حكم السودان؟، أم أنهم وظفوا السلطة لخدمة مشروعهم وتحقيق حلمهم بإقامة دولة الحركة الإسلامية في السودان؟.
(3)
بدا هذا الالتباس واضحاً في تعاطي الإسلاميين مع السلطة، وفي المعايير التي تحكم علاقتهم مع بعضهم البعض -كإخوان مسلمين- بعد وصولهم للسلطة. ففي جانب، يتم التستر على الفساد والإفساد بحكم (الزول ده أخونا)، بل وتُفصَّل القوانين التي تتساهل مع (الأخوان)المتورطين في سرقة أموال الدولة، فيُحاكموا بقانون “التحلُّل”، أو لا يُحاكَموا. والفيصل هنا هو أوضاعهم داخل التنظيم، التي تحميهم من المحاسبة الجنائية، وتُظهِر أطواق نجاة كـ(أخونا لديه كسبه ومجاهداته في التنظيم) أو (أخونا من قادة المجاهدين) وحتى (ديل أخوان الشهداء) وغيرها الكثير من الصيغ التي تُوجب البراءة في عُرف الإسلاميين.
لكن، بالمقابل، عندما تتعرض سلطتهم لتهديدٍ من أحد إخوتهم، فإن المصاحف، التي أحال بها الترابي شيوخ الحركة للمعاش، تتحوَّل لرصاصٍ لا يخطئ هدفه؛ كما حدث في حالتي داؤود يحيي بولاد وخليل إبراهيم. وهنا يجدر بنا الحديث عن خلاف الإسلاميين الذي قاد لانقسامهم فيما عُرفَ بمفاصلة رمضان 1999، وما أعقبه من استخدام للقوةٍ المفرطة بين الإخوة: من تشريد من الخدمة المدنية، وإحالات للمعاش من القوات النظامية، بل واعتقالات وتعذيبٍ، وصل حد الموت جراء التعذيب، من قبل جماعة المؤتمر الوطني ضد مجموعة المؤتمر الشعبي.الضحية والجلاد هم أخوان مسلمون. ربما جمعتهم خلية عملٍ واحدة في يومٍ من الأيام، أو كتيبة قتالية واحدة في مناطق العمليات بالجنوب، أو ضمَّتهم ذات الغرفة بسكنٍ جامعي. حينها، بعد الخلاف، تراجعت عُرى الإخاء في الله، ضمرت حد التلاشي، فصعدت روح عبد الرحمن المهيب إلى بارئها، على أيدي إخوته تحت التعذيب، واُعتقل وأُهِين قائد (المجاهدين) الناجي عبد الله، وصُفِّي علي أحمد البشير أمام بيته.
هنالك ملفٌ مسكوتٌ عنه، يحكي عن كيف يكون الإخاء في الله، عندما يأخذ الخلاف منحىً شخصيّ، فقد دار حديث متواتر عن تصفيات جسدية وقعت في مناطق العمليات بالجنوب بين الأخوة، وهنا، على المرء أن يتصور، أن المكان الذي حدث فيه ذلك هو ساحة (للجهاد في سبيل الله)،حيث من المفترض أن (المجاهد) قد ترك الدنيا، بمتاعها وخلافاتها وحظوظ النفس فيها وراء ظهره، بيد أن هذا الملف، الذي يُثارُ بحذرٍ في أوساط (المجاهدين) يعكس كيف أن السلطة قد تُجرِّد الإسلامي من كل ما يؤمن به -إن آمن بشيءٍ- في لحظة الانتصار للنفس.
عندما اُعتقل الترابي في العام 2011م، وأُغلقت أبواب الرئيس ونائبه في وجه الراحل الأستاذ ياسين عمر الإمام،لم يجد ما يتشفَّعُ به لديهما سوى الإخاء في الله،فصرَّح، للصحف حينها، أنهم، أي هو والبشير وعلي عثمان، لم تكن بينهم في الماضي، حواجز تحول دون بذل النصح وتبادل وجهات النظر، وذلك (التزاماً بمبدأ الإخاء في الله) كما قال. لكن الإمام بدا أكثر اتساقاً في تعامله مع هذا المفهوم؛ إذ انتقد تصريحات الترابي بضرورة تسليم البشير نفسه للمحكمة الجنائية، قائلاً لصحيفة الرائد في الأول من أبريل 2009م، (إن اختلاف المواقف السياسية لا يعني تجاوز قيم الإخاء)، فهو يرى أن الإخاء أعظم قيمةً من تحقيق العدالة، والالتزام بأمر الله في حرمة دماء المسلمين، فهو يعتقد، وفقاً لتصريحه، أن الالتزام بالإخاء أهم من الامتثال لأمر الله، والانحياز لجانب ضحايا البشير بدارفور، وكلهم مسلمون.
(4)
هذه الأيام يتجسد أمامنا مثالٌ حيٌّ لكيف تتساقط قيم الإسلاميين أمام أعينهم، وكيف تُنحر قيمهم، الواحدة تلوالأخرى، في معبد السلطة.
يمرُّ الآن عامٌ على مأساة إبراهيم ألماظ، الأخ المسلم منذ نعومة أظافره، وتقول سيرته إنه كان قائداً إسلامياً طلابياً،وقد تدرَّج في الهياكل حتى بلغ منزلة القادة بين الكوادر الوسيطة، في قطاعات الشباب والطلاب. بعد المفاصلة انحاز للترابي، سنوات ثم انضم لحركة العدل والمساواة،ليصبح نائباً لرئيسها، أُسِر في العام 2011، ولم يمضِشهرٌ على ذلك حتى أُعلنت نتائج استفتاء الجنوب، ليصبح ألماظ في خانة الأسير الأجنبي، في بلده الذي عاش فيه كل حياته، وفي ظل دولة الحركة الإسلامية التي حلم بها مع (إخوته). ومنذ أن أُطلق سراحه، مع عددٍ آخرٍ من الأسرى، العام الماضي، أصبح يعيش تعقيدات كونه جنوبي في شمال السودان؛ فلا يحق له البقاء، وذلك بموجب قرارٍ رئاسي سابق يقضي بإبعاد الجنوبيين من السودان. تعقيدٌ آخرٌ يواجهه، في ظل توجهات المجتمع الدولي الحالية، بالتضييق على حَمَلَةِ السلاح السودانيين،لذلك، عندما فكر ألماظ في التقديم للجوء السياسي، لم تستجب عددٌ من الدول الغربية التي قصدها. يقول ألماظ،من محبسه، إنه العائل الوحيد لأسرته التي تقيم بالخرطوموتعاني الكفاف؛ يتخرج أبناؤه من الجامعات ولا يُسمح لهم بالعمل، لأنهم مواطنون من جنوب السودان، ليبقى سجين بلا اتهام، وحريته معلقة بتوقيعٍ صغيرٍ من أخيه في الله رئيس الجمهورية، ليعيده لأسرته وينهي سنوات معاناته داخل وخارج السجن. يحدث هذا وسط صمتٍ مخزٍ من “إخوته” في المؤتمرين: الوطني والشعبي.
ما يقودنا، بالنتيجة، إلى أن السلطة أصبحت هي المرتكز الأوحد للإسلاميين، والمحور الذي تنبني عليه مواقفهم، في ظل تلاشي مبادئهم وقيمهم التي قالوا أنهم جاءوا للسلطة لأجل إرسائها، ويضحى مشروعهم مشروع سلطة، بعد أن تحولت أن أصبحت هي عقيدتهم الوحيدة، ما يدعو للتساؤل: هل كانت لهم مبادئ بالأساس؟ هل آمنوا بها؟ وهل كان لهم مشروع سوى الحكم؟.
يقول محمد سرور زين العابدين، المفكر الإسلامي السوري، والإخواني السابق، في دراسةٍ له عن فكر الترابي، وبخاصةً عن دعوته إلى الإخاء الديني وتكوين جبهة أهل الإيمان، لتشمل اليهود والمسيحيين والمسلمين؛يقول: (كيف نُصدِّق أن هذا الذي يبطش بزملائه وإخوته الدعاة، واحداً بعد الآخر؛ كيف نصدق لمن لم يتسع صدره لجماعته يريد أن يوحد اليهود والنصارى والإسلام؟).
سلمى التجاني