اليوم 15 يناير يوافق تاريخ ميلاد ايقونة الدفاع عن الحقوق المدنية , والناشط السياسي المناهض للتميز العنصري , الذي مارسه البيض ضد السود في الولايات المتحدة الامريكية في ستينيات القرن الماضي , فهذه الايام ذات التوقيت صادف موجة الانتقادات التي وجهها الاعلام الداخلي الامريكي و الخارجي العالمي , للرئيس دونالد ترامب في اطلاقه للاساءة العنصرية لشعوب الدول الافريقية و الشرق اوسطية , مما حدا بترامب ان يستعجل معالجة الموقف الحرج الذي ادخل نفسه وحكومته فيه بعنجهيته المعهودة , بان يطرح مشروع العطلة السنوية تخليداً لذكرى ميلاد داعية الحقوق المدنية الحائز على جائزة نوبل للسلام , مارتن لوثر كنج , حقيقة ان شهداء الحق و الحرية احياء يمشون بيننا في حلنا وترحالنا , فبرغم غياب الاسطورة مارتن عن مسرح الحياة لمايقارب الخمسين عاماً , الا ان وجوده ما يزال ماثلاً في عالمنا وذلك برمزيته والهامه للمضطهدين حول العالم حتى لحظات سكب هذا المداد , فلم تبارح مقولاته المأثورة عقول الثائرين من اجل الكرامة الانسانية يوماً , فاصبحت مقولته ان لا احد يستطيع امتطاء ظهرك ما لم تكن انت في حالة الانحناء , هي السراج المنير للمقهورين في عالمنا المسكون بالظلم و القهر و الاضطهاد , وخطبه العصماء التي احدثت انقلاباً عظيماً في اوساط المجتمعات الامريكية , ما فتئت تتداول عبر الوسائط الالكترونية مرسخة لمعنى واحد لا ثاني له , الا وهو حتمية خلود اسماء صناع المجد والتاريخ , اذ لم يزل ذلك الخطاب المليء باالعنفوان ولهيب الثورة الحارق , تتردد اصدائه بين مسامع جيل اليوم , وتلك العبارة الثائرة المحفّزة لكل من في قلبه نبضة من نبضات الانتصار للضمير و الحق و الانسانية , محفورة في وجدان شباب الالفية الثالثة , والتي يقول فيها اذا لم تستطع العدو فهرول , و اذا لم تتمكن من الهرولة فامشي , و اذا لم يحالفك الحظ في المشي فازحف , ولكن لا تتوقف بل و واصل في الزحف , وهو يعني السير في طريق النضال و الثورة.
ان اكبر هزيمة تلقاها الرجل الابيض في القرن الماضي , هي انتصار الزنوج الامريكان عليه , وذلك بانتزاعهم حقوقهم المدنية و الدستورية بكل ثقة واقتدار من سطوة جبروته وقوته الظالمة , إنّهم احفاد اولئك الافارقة الذين جيء بهم كعبيد على السفن العابرة للاطلسي مصفدين بالاغلال , لتحط بهم تلك السفن في ارض الهنود الحمر , التي استوطنها واستعمرها الاوروبيون البيض , فالقاريء لتاريخ القارة الامريكية الشمالية يلحظ ان المكوّن العرقي الاوحد الذي ناطح الرجل الابيض , و ارغم انفه , وجعله يقر ويعترف بحقوقه وحقوق الاعراق الاخرى , وتساويها معه في المنشط و المكره , هو هذا الرجل الافريقي الزنجي , فبرغم تواضع نسبة مشاركته في العدد الكلي لسكان الولايات المتحدة الامريكية , الا ان دوره في المصادمة كان هو الاكبر , بالمقارنة مع الهنود الحمر السكان الاصليين للقارة , وهذا ان دل على شيء انما يدل على عراقة و اصالة المنبت الذي أنبت مثل هؤلاء القوم , و علامة من العلامات المؤكدة على صمود الرجل الاسود , و حتمية انتصاره في المعارك المصيرية التي تستهدف كينونته وكرامته وعزّته , هذه العزة التي تشبعت بها روح الثائر مالكوم إكس و البطل الراحل محمد علي كلاي , وهي نفس الروح التي دفعت بثلة نيرة من الزنوج الامريكان , الى اعلى مراتب الهرم الحكومي الامريكي الذي يمثله البيت الابيض , ومن هذه الثلة وزيرة الخارجية الامريكية السابقة كوندوليزا رايس , الطفلة التي حلمت بدخول البيت الابيض عندما كانت شافعة لم تتجاوز العاشرة من عمرها , حيث كانت بمعية والدتها وهما تتجولان بقرب سياج هذا البيت الرئاسي , حينها , تلك الام الزنجية الافريقية المنبوذة من مجتمع البيض العنصري لم تكن تعلم , ان احلام صغيرتها سوف تصبح في يوم ما حقيقة , ومعها حلم الرئيس السابق باراك اوباما الذي يعتبر المقتطف الاكبر لثمار المجاهدات و التضحيات , التي قدمها مارتن لوثر كنج والذي اختصرها في عبارته الشهيرة (لدي حلمٌ).
ما يزال الذين تابعوا فوز باراك اوباما في انتخابات الرئاسة الامركية في اواخر العام 2008, يستحضرون لحظات انهمار دموع القس الامريكي الزنجي الاصل جيسي جاكسون , عندما تم الاعلان عن فوز اوباما , ان تلك الدموع العصية على النزول و التي انجرفت وسالت على تجاعيد وجه ذلك الرجل الستيني , كانت بمثابة التعبير الاصدق على انتصار ثورة الزنوج الامريكان , التي بدأها الشاب الثلاثيني مارتن لوثر كنج في العام 1964 ميلادي , فتتويج باراك الرجل الاسود أميراً بالبيت الابيض , كان رسالة نفسية للداخل و الخارج الامريكي , بان اي شعب من شعوب الارض ان اراد ان يحيا حياة كريمة شريفة فما على الاقدار الا الاستجابة , استلهاماً لمقصد ابيات قصيدة الشاعر التونسي ابي القاسم الشابي , فالحياة التي ينعم بها الامريكيون السود في عصرهم هذا , هي من ثمار نضال اجدادهم الاوائل و تضحياتهم النفيسة , ولولاها لما سنحت لهم سانحة في ان يبدعوا في فنون الرياضة و الغناء و السينما , وهذا هو ديدن الحياة , فالاسلاف الذين لم يقدموا مهراً لحاضر اجيالهم , سيشقى جيلهم الحاضر ويبقى تحت حطام وركام نفايات العوالم المتحضرة.
إنّ شبح مارتن لوثر كنج قد أرعب الرئيس الامريكي دونالد ترامب , فجعله يصحوا من غفلته التي نسي فيها التاريخ النضالي العريق للزنوج في امريكا , فانتفض ليعلن يوم ولادة الزعيم لوثر عطلة رسمية في بلاده التي طالما تباها في ربوعها باحاديثه العنصرية الفاضحة , فالشعوب الزنجية لها تاريخ موثوق وموثق في رفضها للظلم و عدم الاستسلام للغزاة البيض في مهد الحضارات (ماما افريكا) , فقد كان باتريس لوممبا المناضل الكنقولي العظيم الذي هزم المستعمر البلجيكي , بقوة شكيمته وهو الاعزل المنزوع السلاح , فلم يستطع جبابرة الاستعمار الاوروبي شفاء غلهم و غليلهم منه , حتى بعد ان ذوبّوا جثمانه في المحاليل الكيميائية , ونثروه رماداً في الهواء , وتوماس سينكارا ذلك الشاب و القائد الملهم الذي سعى لاستقلال بلاده اقتصادياً , فارتعب منه الفرنسيون فقضوا على حلم امة وضعها هذا الشاب , في اول قائمة الدول الافريقية المحققة للاكتفاء الذاتي , ففي سنينه القلائل التي جلس فيها على سدة حكم دولة بوركينا فاسو (ارض الرجال النزهاء) , وخاتمة المطاف في سلسلة عظماء السود الذين مروا عبر بوابة القرن الماضي , رمز الانسانية و التسامح و قاهر الصلف العنصري الابيض بالاخلاق الآدمية الرفيعة , نيلسون ما نديلا , او كما يطلق عليه احبائه في القارة السمراء (ماديبا) , هذا المناضل الخلوق الذي قدم للبشرية دروساً في النضال السلمي المسلح بقوة الخلق الانساني النبيل , وكان معه الحق في رفضه زيارة الولايات المتحدة الامريكية , فمات و عشم زعماء امريكا ان تطأ قدم ماديبا ارض تمثال الحرية , وما درى هؤلاء ان وازع مانديلا الانساني الفطري , يأبى ان تمشي ارجله الطاهرة على تراب اكتسى بجلود اجداده التي بترتها سياط الجلاد الابيض.