لقد أصدرت السفارة الأمريكية في السودان بياناً أبدت فيه قلقها من حالة تردي حقوق الإنسان في السودان، وقالت في بيانها إن( الولايات المتحدة تظل قلقة للغاية حيال سجل حقوق الإنسان في السودان، بما فيه استمرار حظر المجال السياسي، والقيود على الحريات الدينية، وحرية التعبير بما فيها حرية الصحافة) لقد جاء البيان مخيباً لآمال حكومة البشير التي لا تفتأ تحلم بأن يتم رفع العقوبات الأمريكية عنها، وتستدر عطف العالم وهي تلبس قناع براءةٍ زائفة وتتقمص شخصية الضحية التي جنت عليها العقوبات وهي تتناسى أن أياديها ملطخة بدماء الأبرياء وأن سجلها في حقوق الإنسان لتنوء بحمله العصبة من الرجال وأنها قد إرتكبت أسوأ الجرائم في حق الشعب السوداني بمختلف إثنياته وجهاته الأربعة.!، وفي وقتٍ سابق ذكر القائم بالأعمال الأمريكي في الخرطوم السيد ستيفن كوتسيس إن الغرض من فرض العقوبات هو إنهاء الدعم السوداني للارهاب وإحلال السلام بدارفور، ولكن نظام البشير لا يُريد للسلام أن يحل في دارفور ولا يُريد أن يُنهي دعمه للإرهاب، وفي الوقت ذاته يستخف بعقول الآخرين وينتظر أن ترفع الولايات المتحدة العقوبات دون أن تتحقق الأسباب التي من أجلها تم فرض العقوبات.
تمر هذه الأيام الذكرى الثامنة والعشرين لإستيلاء نظام البشير على السلطة، فمنذاك اليوم المشئوم والتعدي على حقوق الإنسان مستمر لا يُوقفه صدور قرار من الأمم المتحدة ولا فرض عقوبات على نظامٍ أول ما استهل به عهد ما بعد الحكم السليب أن دق مسماراً في رأس طبيبٍ أعزلٍ وبرئ ألا وهو الدكتور علي فضل لتصعد روحه إلى بارئها بعد أن سامه العذاب ثم أردفه بإعدام الشاب مجدي محجوب والشاب آركانجلو والشاب مساعد الطيّار جرجيس، ليواصل إزهاق الأرواح الولوغ في الدماء وإنتهاك الحقوق حتى بلغ عدد ضحاياه الملايين من القتلى وأضعاف هؤلاء هُضمت حقوقهم في العمل والحياة الكريمة شُردتهم من وظائفهم وتركتهم يهيمون على وجوههم، فمن ذا الذي يدلني على سجلٍ لحقوق الإنسان أكثر سوادٍ وقتامةٍ من سجل هذا النظام الدموي والمتجاوز؟ إنه سجل يندى له الجبين خجلاً وتتطاير له النفس حزناً.
.
في دارفور مثلاً ومنذ أكثر من عشرين عام لم تشرق الشمس قط إلا وهناك جرائم تُرتكب تطال حقوق الإنسان في دارفور، صباح مساء، قتلاً للأبرياء وسلباً لأموالهم وإغتصاباً للنساء حتى ضاقت الأرض بإنسان الإقليم بما رحبت، ولازالت هذه الإعتداءات مستمرة حتى لحظة كتابة هذا المقال وستظل الأوضاع المزرية هكذا طالما ظل مرتكبيها بمنأى من أن تطالهم يد العدالة.
لقد ورد في تقريرٍ لحركة تحرير السودان قيادة مناوي أعده فريق الشئون الإنسانية بالحركة والذي نُشر في موقع الأمم المتحدة” أوشا” بتاريخ 12/6/2017م سجلاً حافلاً بإنتهاكات حقوق الإنسان في دارفور للفترة من 15 ديسمبر 2016م وحتى 15 مارس 2017م وقد حوت قائمة من الإنتهاكات المرعبة، وقد حوى التقرير بالإضافة إلى رصد الحركة رصداً لفريق الأمم المتحدة، بقراءة متأنيةٍ للتقرير نُدرك أن العنف وإنتهاكات حقوق الإنسان لم تتغير لا في نسبة إرتكابها ولا في نمطها في إقليم دارفور وقد تصاعدت وتيرة إستخدام الإغتصاب كسلاح لإذلال المجتمعات في إقليم دارفور، وتأتي الصدمة من فداحة الأرقام أنها رصداً للإنتهاكات التي تمت فقط في خلال مدة لا تتجاوز الأربعة أشهر.
إن كثرة التعدي على حقوق الإنسان السوداني والتمادي فيه هو مبررٌ منطقي ومعقول لحالة الإفلات من العقاب التي ظل يتمتع بها النظام ومنسوبيه فهم يدركون جيداً أن لا أحد سيُحاسبهم على الجرائم التي ظلوا يرتكبونها، فكيف يرتدع ويكف عن الولوغ والجوس في حقوق الإنسان؟ ماذا نتوقع من نظام إستولي على السلطة الشرعية في البلاد بقوة السلاح وقوَّض كل المؤسسات التي كانت تسهر على حفظ حقوق الإنسان واستبدلها بمؤسساتٍ مشوهةٍ ووضع على رأسها قيادات مأزومة نفسياً وفكرياً وإنسانياً غير القتل وإنتهاك الحقوق؟.
منذ أن بدأت حكومة البشير في إرتكاب جرائمها ضد الإنسان السوداني وإنتهاك حقوقه، ظلت كل منظمات حقوق الإنسان والمدافعين عنها ينادون بإسترداد حقوق ضحاياها، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه كيف تُسترد حقوق الضحايا وقد تجاوز عددهم الملايين ومنهم من مات وقد مضت سنوات طوال وكل يومٍ يزداد هذا السجل قتامةً وفظاعةً في ظل وجود هذا الحكومة في دست السلطة؟ لعّل الإجابة الصادقة على هذا السؤال هي السبيل الوحيد الذي سيكفل وضع حدٍ لمسلسل إنتهاك حقوق الإنسان والذي بدا وكأنه ليلٌ بلا نهاية ولعّل أكثر الأمور إيلاماً هو أننا كشعب أصبحنا ننسى كل الجرائم التي أُرتكبت أمس ونجعلها من الماضي ونحاول المضي قُدماً في الحياة وكأن شيئاً لم يحدث لننتظر من سيكون الضحية التالي الذي سيُضاف إلى سجل النظام القاتم؟ لن ينصلح الحال ولن يسلم الناس في بلادنا إذا لم نترك هذه السلبية المدهشة وردود الأفعال المحيرة إزاء جرائم النظام والخروج إلى الشوارع والتظاهر والإعتصام حتي يرحل ومن ثم محاسبة كل من إرتكب في حق الإنسان جريمة وإسترداد حقوق الضحايا ومواساتهم، وعند ذلك اليوم فلا عاصم من العقاب سوى الموت الذي يحول دون تقديم المجرم إلى منصات العدالة.
أما المناشدات بتحسين حقوق الإنسان في ظل وجود مثل هذه الحكومة في السلطة فهي لا تعدو سوى حرثٍ في البحر طالما ظلت ترتكب هذه الجرائم لمدةٍ تُقارب الثلاثين عاماً ولم يُعاقب أحد من جلاوزتها وسفَّاحيها جرّاء إرتكاب هذه الجرائم حتى أصبح سفك الدماء طبعاً أصيلاً من طبائعها ومنهجاً من مناهج إدارتها للبلاد وشئون العباد.