الخرطوم : صوت الهامش
زعيم متبصّر حوّل بلده من أمة غافية في غرب أفريقيا إلى دينامو تقدّم. تولى تنفيذ أحد أكثر البرامج الإصلاحية طموحا في أفريقيا. برامج سعت إلى محو الفوارق الاجتماعية الموروثة من النظام الاستعماري.
زعيم وجّه الموارد المحدودة في بلاده إلى الأغلبية المهمشة في الريف. وبينما معظم الدول الأفريقية كانت تعتمد على الاستيراد والمساعدات الخارجية للتنمية، عمدت بلاده في ظله إلى الاكتفاء الذاتي واستهلاك المنتجات المحلية.
زعيم كان يؤمن بإمكانية أن تصبح بلاده، بالعمل الجاد والحراك الاجتماعي التعاوني، قادرة على حل مشاكلها.
زعيم، في ظله لم يستعلي أحد على فلاحة الأرض أو تمهيد الطرق – لا ولا حتى هو ولا الوزراء ولا ضباط الجيش.
زعيم، في عهده كان التعليم التثقيفي والمدني متكاملا مع التدريب العسكري، وكان الجنود يعملون في مشاريع تنمية المجتمع المحلي.
زعيم ازدرى أبّهة المناصب وسدّ كل السبل لتعظيم شخصه؛ زعيم كان يُرى سائرا في الشوارع أو مهرولا أو منضما إلى حشد في فعالية عامة.
زعيم خطيب مفوه يتحدث بصراحة ووضوح نادرين. لا يتردد في الاعتراف علانية بالأخطاء أو في توبيخ رفاقه أو الإعراب عن أوجه اعتراضه بحق قادة دول قوية، حتى ولو عرضه ذلك للخطر.
زعيم لم يكن مجرد شخصية مفعمة بالحيوية من الماضي أو مناضلا في سبيل الحرية ممن تذكرهم كتب التاريخ، إنما هو “أسطورة حية”.
زعيم سبق بأفكاره وأفعاله التقدمية عصرَه في القارة الإفريقية فيما يتعلق بحقوق المرأة التي تبوأت في ظله مناصب الوزيرة والقاضية والمديرة لمشاريع قومية والمفوضة سامية.
زعيم حارب الهيمنة الخارجية، وبنى دولة منتجة مكتفية بذاتها رافعة شعار الاقتصاد في الإنفاق والنزاهة.
زعيم حارب الفساد وأبقى أبناءه في مدارس عمومية ورفض أقرباءه الباحثين عن وظائف حكومية رفيعة.
زعيم جعل التعليم من الأولويات؛ فمحا الأمية على الصعيد الوطني؛ وعزّز الصحة العامة عن طريق تطعيم 2.5 مليون طفل ضد مرض التهاب السحايا والحمى الصفراء والحصبة.
زعيم بوركينا فاسو، أو أرض الشرفاء، أو الرافعين رؤوسهم، كما سمّاها هو بدلا من اسمها الاستعماري “فولتا العليا”.
كان ضابطا بالجيش وفي أكتوبر 1983 وثب -ولم يكن قد تجاوز الـ 33 ربيعا- إلى الحكم هو ومجموعة من رفاقه وبجعبته أدوات للنهضة ببلاده وتغيير حاضرها آنذاك تمثلت في سياسات يسارية راديكالية.
وفي أربع سنوات فقط، استطاع تغيير الكثير من ذلك الحاضر التعِس على نحو ملموس وعصيّ على النسيان أو المحو من ذاكرة بلاده وضمير العالم الطامح إلى التغيير والحرية.
وفي أكتوبر 1987 اغتيل على أيدي رفقاء السلاح وهو لم يزل في الـ 37 من عمره.
إنه الزعيم الخالد، توماس ايزيدور نويل سانكارا، المولود في الـ 21 من ديسمبر عام 1949، والذي عاش ثائرا ذا شخصية كاريزمية جعلت الكثيرين يلقبونه بـ “تشي جيفارا” أفريقيا.
اعتنق سانكارا فكرا يساريا ماركسيا وآمن بوحدوية أفريقيا ضد الامبريالية الاستعمارية. وقد نشأ سانكارا إبان فترة الخمسينيات والستينيات التي شهدت اختمار اضطرابات وصراعات ونزعات استقلالية عصفت بالقارة الأفريقية.
وفي سن مبكرة، التحق سانكارا بجيش فولتا العليا (بوركينا فاسو قبل سانكارا) وكانت خدمته في مدغشقر حيث تسنى له أن يشهد ثورة شعبية يسارية الميل تطيح بنظام استعماري عام 1970.
وفي حقبة السبعينيات، تدرج سانكارا في الرُتب العسكرية حتى تولى الإشراف على برنامج تدريبي للجنود؛ وفي عام 1972، ذهب إلى فرنسا ليتلقى مزيدا من التدريب.
وفي فرنسا، تعرّف سانكارا على أفكار ماركسية كانت تنظيماتٌ يسارية تنشط في الترويج لها هنالك في تلك الحقبة.
لقد كانت هذه الفترة تمثل مرحلة حرجة من مراحل استغلال المستعمر وقمعه للدول الأفريقية الناشئة ومنها فولتا العليا. في تلك الآونة كانت لسياسات المنظمات المالية العالمية -كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما- تبعات وآثار تمثلت في صراعات اجتماعية وسياسية في المستعمرات الأفريقية.
وبحلول الثمانينيات، كانت الاضطرابات التي تعج بها فولتا العليا قد وصلت إلى نقطة الغليان؛ حيث دخلت النقابات والطلاب في اعتصامات وأحداث تمرد جماعية. وشهدت البلاد سلسلة من الانقلابات العسكرية اعتُقِل سانكارا إبانها مرتين على الأقل.
وفي الـ 4 من أغسطس عام 1983، قامت عناصر يسارية داخل الجيش مدعومة بإرادة شعبية، بتحرير سانكارا من معتقله ونصبته قائدا للمؤتمر الوطني للثورة؛ وقد استطاع هذا التغيير الذي بدأه ضباط صغار في الجيش، اجتذاب دعم قطاعات عريضة من الطبقة العاملة والشباب والمزارعين .. وكان أن وصل سانكارا للحكم في أكتوبر 1983.
وفي أكتوبر عام 2014، انتفضت جماهير بوركينا فاسو ثائرة ضد بليز كومباوري، رفيق سانكارا الذي خلفه في حكم البلاد غداة اغتياله وعمد إلى تقويض برامجه وطمس آثاره الإصلاحية.
وخلال تلك الثورة كشفت حشود الشعب البوركينابي عن أنها لم تنسَ سانكارا أبدًا. لقد خرج مئات الآلاف منهم يجوبون الشوارع مطالبين بإسقاط كومباوري، ومعظم هؤلاء هم من الشباب والعمال كانوا يحملون لافتات ويرتدون قمصانا مرسوم عليها صورة سانكارا، الذي قال قبل بمقتله بأسبوع واحد: “قد يقتلون الثوار لكن فكر الثورة باق لا يموت”.