الرفع المشروط، والجزئي، للعقوبات الأميركية، والذي أعلنته إدارة أوباما، أوجدته أسباب متباينة شتى. ولكن هذا القرار ينبغي ألا يكون مدعاة لفرح الحكومة أو غضب المعارضة. فموضوع العقوبات برغم وضوحه، من حيث جينات تخلقه، فإن أسباب احتفاظ الإدارات الأميركية بعصاته وجزرته شائك جدا، خصوصا أن الأولويات تجاه السودان والمنطقة التي ينتمي إليها، ويتأثر بها، تختلف بين إدارة وأخرى. فالإدارات الأميركية المتعاقبة هي مزيج من مدارس فكرية، واقتصادية، ودينية، وأيديلوجية، وأكاديمية، تمتد إلى عمق التراث الأميركي. فبرغم ما يتراءى للكثيرين بأن الإدارات الأميركية تحمل فكرة صلبة محددة عن المنطقة والسودان إلا أن لكل إدارة نمط تفكير يختلف عن سابقتها حتى في إطار المراوحة والغدو بين الرئاسة الديموقراطية والأخرى الجمهورية. وأبسط دليل يمكن قوله إن أمريكا واجهت خلال عشرة أعوام ثلاثة إدارات متباينة. ولدى كل إدارة نصيب من الفشل الناتج من السياسة الحربية أو ادعاء الحل الدبلوماسي المدروس.
فإدارة كلينتون كانت تميل إلى الوسطية، وجاء بوش الذي تبنى نظرية المحافظين الجدد الراديكاليين، ثم أوباما الذي تبنى الدبلوماسية الناعمة كسبيل لإثبات القوة الأميركية، والآن يخطو ترامب نحو البيت الأبيض ليتخذ سياسة راديكالية أيضا ذات ذيول متأثرة بصراع الحضارات، وربما قد يكون أكثر تطرفا من بوش الابن. صحيح منطق من يقول إن المصلحة الأميركية العليا تتقاطع بين هذه الإدارات الثلاثة، ما يعني أن لا فرق بين أحمد وحاج أحمد.
غير أن الأصح أيضا أن أكثر ما يضر بالمصلحة الأميركية هذه هو تباين سياستها الخارجية في المنطقة. فأمريكا التي حكمها كلينتون لم تجن شيئا من ضرب مصنع الشفاء، بل إنها خسرت ملايين الدولارات كتعويضات. وهي أيضا لم تكسب شيئا من ثأرها الديني المحافظ في أفغانستان والعراق لمحاربة الإرهاب في المنطقة، بل خسرت مليارات الدولارات. فمن ناحية أخرى ساهمت الولايات المتحدة في تقوية عدوها الإقليمي، وعدو حليفتها إسرائيل، ألا وهي إيران. سوى أن هوج الحل الدبلوماسي قد فجوة أمنية ملأتها داعش التي باتت تهدد مصالح أميركا في الخليج على وجه التحديد.
ونحن ندرك أن الروس قد أخذوا لاحقا زمام المبادرة، والفائدة، في كل حدث سياسي نوعي في المنطقة. أما إدارة أوباما فلم تكسب شيئا من قيادة حلف الناتو لتحطيم دولة العقيد القذافي والتي بنيت على أطلالها ثلاث دويلات خلاف إهدار مليارات دافع الضرائب الأميركي. فضلا عن ذلك فإن سعي إدارة أوباما إلى ضغط النظام السوداني لتحقيق انفصال سلسل للجنوب نظير التخلي عن الشأن الدارفوري لم يجن شيئا للمنطقتين، ولأميركا نفسها. إذن لم تحقق هذه الإدارات المصالح العليا للأميركان لا على المستوى الإقليمي، أو الإسلامي، أو السوداني.
إن الحقيقة التي لا جدال حولها أن تنفيذ ما قرره أوباما حول العقوبات المفروضة على النظام يقع على عاتق الإدارة الجديدة بقيادة ترامب. ولكن المدهش أن الرئيس القادم صرح لصحيفة “ذي وال إستريت جورنال” في ذات يوم رفع العقوبات عن نظام الخرطوم إنه ربما سيرفع العقوبات أيضا عن روسيا لبعض الوقت. وقد ربط ترامب هذا الأمر بقدرة روسيا على مساعدة الولايات المتحدة لأداء أهدافها الرئيسية التي تتمثل في معركتها مع الإرهاب. وقد جاء رد الفعل الجمهوري نتيجة العقوبات التي فرضها أوباما على الروس الذين اتهمهم بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في البلاد.
إن الثيمة الرئيسية التي ساهمت في انتخاب ترامب تمثلت في تلويحه للغالبية البيضاء بالدفاع عن أمن أميركا عن طريق ضرب ما يسمى الإرهاب الإسلامي الذي تنشط فيه داعش وبعض الجماعات المنتمية للإخوان المسلمين، والمنشقة عنها كذلك. وحين بدأ المشرعون الأميركيون في مجلس الشيوخ يستجوبون مرشحي ترامب للأمن القومي، والدفاع، والخارجية، أبانوا جميعا تعطشهم لمواجهة من سموهم الإرهابيين انطلاقا من موقف مخدمهم المتطرف. وقد قال ركس تيلرسون المرشح لوزارة الخارجية بالنص أمام جلسة الاستماع التي عقدتها لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ لمباركة ترشيحه إن “جماعة الإخوان المسلمين هي وكيل لتنظيم القاعدة”، وأضاف أن الإسلام الراديكالي يمثل “الخطر البارز على استقرار الأمم.”. أما مستشار الأمن القومي للرئيس الجديد مايكل فلاين فقد اتهم هيلاري كلينتون بأنها ساهمت في اختراق الإخوان وزارة الخارجية، وأشار إلى أن مديرة مكتبها الباكستانية هما عابدين عضو سري في التنظيم الإخواني. والأهم من كل هذا أن مستشار ترامب للشؤون العربية والإسلامية، وليد فارس، المعروف بعدائه للحركات الإسلامية، وحكومة السودان التي هاجمها أكثر من مرة، صرح بأن الرئيس الجديد سيدعم مشروع السيناتور الجمهوري تيد كروز القاضي بإعلان حظر جماعة الإخوان المسلمين بوصفها منظمة إرهابية، والذي كان قد حفظ في الأضابير بناءً، كما قال فارس، على تقارب إدارة أوباما مع تنظيمات الإخوان المسلمين في المنطقة.
ضمن هذا الإرهاصات المصاحبة لقرار أوباما القاضي برفع الحظر الاقتصادي الجزئي، والمشروط، عن حكومة البشير فإن المتوقع مثلما يقول مراقبون أن يقوم ترامب بمراجعة قرارات أوباما الأخيرة كافة كما صرحت جهات جمهورية وإعلامية. وربما يبقي من الوارد تعامل الحكومة الأميريكية الجديدة مع نظام البشير بشراسة في حال إجماله ضمن منظومة الإخوان المسلمين، فوقا عن تضييق حركة البشير الخارجية التي كانت تتم تحت سمع إدارة أوباما، ورضائها. ولعل حالة الغبن التي تكسو أعين ترامب، ووزراء خارجيته، ودفاعه، ومستشاره للأمن القومي، حين يتحدثون عن الإسلام الراديكالي ستضع نظام البشير في وضع حرج خصوصا أن قرار أوباما لم يشطب النظام الإسلاموي من قائمة الأنظمة الراعية للإرهاب. ومن المتوقع أن يعمل فريق ترامب المتطرف أكثر من بوش الابن، عقب حادثة الحادي عشر من سبتمبر، على توظيف سعي نظام البشير للتطبيع لاستنزافه بالابتزاز من أجل التعاون الاستخباراتي، ومد “CIA” بمعلومات في هذا الصدد، خصوصا أن النظام الذي وفر سابقا لإدارة بوش معلومات نوعية عن القاعدة، وسلم حلفاءه من الجماعات الإسلامية المتطرفة لدول في المنطقة، أغرى خارجية كلينتون وكيري بابتزازه لثمانية أعوام. وذلك عبر الضغط على البشير، ومعتنقي فكر الإخوان المسلمين الأمنيين، على تقديم وثائق “أمنية مثمرة” عن هذه الجماعات المتطرفة التي يتعاونون معها لاستلام السلطة في بلدانها. وعلى المستوى الإقليمي سوف تعمل حكومة السيسي التي فرحت بفوز ترامب على إعادة العلاقات القديمة المميزة مع الولايات المتحدة باعتبار أنها الأكثر قدرة على سند التعاون في مشروع حظر الإخوان المسلمين في المنطقة. وإذ إن حكومة السيسي هي المستفيد الأول من الخطوة فإنها أيضا ستعمل خلال التعاون مع ترامب كمرجع في تعريف الجماعات والأحزاب التي تنشط بلافتات تخفي استنادها على فكر الإخوان المسلمين. فضلا عن ذلك فإن السيسي الذي تقارب مع ترامب بعد أن التقاه في نيويورك سيعمل من جانبه أيضا على ابتزاز النظام السوداني، خصوصا بعد أن نشرت صحف مصرية معلومات عن انعقاد أكبر مؤتمر في الخرطوم للجناح العسكري لجماعة الإخوان المصرية تحت رعاية النظام.
إن فرحة نظام البشير بقرار أوباما الجزئي والمشروط القاضي برفع بعض العقوبات كانت أمرا طبيعيا في ظل بحث النظام عن انتصارات كاذبة يخدر بها الشعب بأن هناك انفراجا اقتصاديا آتيا. ولكن الحقيقة أن استمرار وضع النظام في قائمة الإرهاب بالتصنيف الأميركي سيظل عقبة كؤود أمام استفادته من تطبيع العلاقة مع خصم حضاري ضد الإسلام، كما عرفته هكذا أدبيات الإخوان المسلمين. ولا بد أن تمزيق كرت الدين والاعتماد على السياسة الشمولية أنسيا قادة النظام المهرولين لكسب ود دولة “الشيطان الأكبر”، والتي حُرق علمها يوما في وسط الخرطوم المجاهدة، وأُعلن أن عذابها قد دنا. ولعل هذه الفرحة برضا حكومة الولايات المتحدة الأوبامية تعكس تفاهة فكرة الإخوان المسلمين حين يبقى عدوهم الحضاري، والذي يصفونه بأنه ناشط ضد الإسلام، طوق نجاة للإسلامويين المجرمين الذين تتلطخ أياديهم بدماء المسلمين من أبناء جلدتهم.