نشاط رئيس وزراء اثيوبيا الجديد و رحلاته الماكوكية في الاقليم , و سعيه الدؤوب من اجل احلال السلام والاستقرار في المنطقة , يعيد الى ذاكرتنا سيرة النجاشي , ذلك الملك الذي لا يظلم عنده احد , لقد حسم ابو احمد العديد من الملفات العالقة بين حكومات دول المنطقة , في اقل من ثلاثة اشهر من توليه رئاسة وزراء الحكومة الاثيوبية , فهل يعتبر مجيئه في هذا الوقت يعتبر بمثابة البشرى السارة للشعوب القرن – افريقية والعربية , وايذاناً ببدأ عهد جديد تسود فيه المحبة والسلام والوئام فيما بين شعوب هذه البلدان ؟, لا سيما وان ثورة الشباب واعتلائهم مقاعد القيادة في بلدانهم قد اصبحت هي السمة الغالبة في هذه السنين الحاضرة , وصارت ظاهرة عالمية شهدناها في كوريا الشمالية وفرنسا و زيمبابوي ثم اثيوبيا , فالشباب هم الاكثر مواكبة لاحتياجات المرحلة والانسب استشعاراً وتتبعاً وانشغالاً بالازمات والتحديات التي تواجهها شعوبهم وحكوماتهم , و هم الاقدر والاكفأ لخوض تجربة التغيير الجذري المفضي الى تحقيق الامن والرفاهية والنمو و الازدهار الاقتصادي في اوطانهم , ففي هذا الخصوص لابد لنا من التعرض للمداخلة التي ادلى بها احد رجال الاعمال السودانيين , في احدى الفعاليات الاقتصادية في واحدة من العواصم الافريقية , عندما قال : ماذا نرجوا من زعمائنا ورؤساء بلداننا الذين تجاوزت اعمارهم الثمانين , و الى اين سوف يقودوننا ؟ هل سيقودوننا الى القبر ؟ , لقد انتاش هذا المليونير النابه بسهمه كبد الحقيقة , فمع تقدم سن الانسان تتواضع مقدراته و امكانياته العقلية و البدنية , وتتباعد المسافات بين ما يطمح ويتطلع اليه الجيل الصاعد و بين هزيان وضعف جيل العجزة و المسنين من قادة بلداننا , لقد عاد بنا ابو احمد الى العهد القديم الذي لجأ فيه صحابة الرسول الكريم الى الحبشة , حيث كان النجاشي الملك العادل و الحاكم المسالم والمحب للسلام , والذي اوصى رسولنا العظيم محمد بن عبد الله صحابته بالهجرة اليه , وحثهم على الاحتماء به طلباً للسلامة من بطش وملاحقة كفار قريش لهم , واليوم ها هو الحفيد يعيد التاريخ النبيل للهضبة الاثيوبية , و يعيد تفعيل دورها المحوري في اشاعة الطمأنينة والامن و السلامة بين الناس.
يوم امس كانت هناك تظاهرة وطنية عارمة بين الشعبين الشقيقين , الاثيوبي و الارتري , عندما قام الرئيس الارتري اسياس افورقي برد زيارة رصيفه رئيس الورزاء الاثيوبي , وذلك بوصوله السريع الى العاصمة الاثيوبية الجميلة اديس ابابا (الزهرة الجديدة) , فانهارت الحواجز الحدودية و الهواجس النفسية بين الاشقاء , و تلاقى الاحبة من بعد مفاصلة دامت عقدين من الزمان , كان من اسبابها التمترس و التقوقع و التحجر العقلي لدى قدامى الساسة و عواجيز الفكر وكهول المفكرين من الجانبين , الى ان أطل هذا الشاب الطموح والمشرئب نحو السلام و البناء و التعمير , فبادر بخطوة شجاعة جعلته يمشي واثق الخطى على ارض مطار اسمرا لملاقاة شقيقه الاكبر , في جرأة مسنودة برابطة الدم و الهم الواحد و المصير المشترك , مؤكداً بفعلته النبيلة تلك انه ومهما طال زمان الخصام فان الدم لن يصير ماء , وان الاحتقانات المرسومة بعناية فائقة من قبل الدوائر ذات الغرض لا تدوم طويلاً , فهذه النقلات الكبيرة في رحلة العلاقات السياسية بين بلدان المنطقة التي احدثها هذا الفتى , قد وضعت الاجيال المعاصرة في الطريق الصحيح و شيدت في مخيلتهم الآمال العراض , وجعلتهم يرنون الى المستقبل بنظرة ملؤها الامل والتفاؤل و الاشراق , فحكمة ابي أحمد هذه قد تطابقت مع احد المواقف النبيلة لحكيم العرب , عندما حدثت المنازعة بينه وبين جاره حول بضعة كيلومترات مربعة من المساحة الحدودية الفاصلة بين بلديهما , فقام بطرح الورقة التي رسمت عليها خارطة جغرافيا الحدود المتنازع حولها على الطاولة قائلاً لجاره : (حدد لي المساحة التي تريد و انا على استعداد لكي اتنازل عنها لان سكانها شعب واحد , ولا ضير ان صاروا تحت امرتك او اختاروا البقاء تحت ادارة بلادي) , هكذا هم الكبار دائماً عندما يكونون كباراً بحق وحقيقة.
لقد طاف هذا الملاك الاكسومي بجميع الملفات التي عرقلت مساعي تحقيق الانسجام والتوافق بين دول المنطقة , واول هذه الملفات هو ذلك المتعلق بازمة مشروع انشاء وقيام سد النهضة الاثيوبي , و ما احدثه من تربص وتربص مضاد بين الدول الثلاث (اثيوبيا – مصر – السودان) , المعنية اولاً واخيراً بالامر و المتأثرة بهذا المشروع التنموي العظيم , فقد حوّل ابو احمد هذه العلاقة المتوترة والمبنية على فقدان الثقة بين هذا الثلاثي المتشاكس , الى علائق وروابط تسعى الى تحقيق وتبادل المنافع الاقتصادية , وذلك بتبنيه لنهج الشفافية والوضوح , وترسيخه لمبدأ المصداقية في تناوله لهذا الملف الشائك , فقام ببذر بذور الطمأنينة بين هذه الاطراف واقناعها بحتمية استنفاعها جميعها من مخرجات هذا المشروع العملاق حال انجازه , و الملاحظ ان رعاية رئيس الوزراء الاثيوبي الشاب لمشروع سلام دولة جنوب السودان , ايضاً يعتبر جهد ايجابي يصب في مصلحة المعادلة الصعبة التي ما لبث يقوم بتفكيك طلاسمها هذه الايام , والتي توحي بان لا رخاء و لا استقرار و لا سلام يمكن ان يتم في دول هذا الاقليم , ما لم يتحقق الوفاق السياسي و التفاهم الاقتصادي بين حكومات هذه الشعوب , وكما هو معلوم ان العالم باسره مهدد بزلزال الصراعات و التنافسات التجارية والاقتصادية , بين الكتلتين الاقتصاديتين الكبيرتين في الغرب و الشرق , فاذا لم يلطف الله على الشعوب الافريقية بأمثال كل من بول كيقامي رئيس جمهورية رواندا وابي احمد رئيس الوزراء الاثيوبي وآخرين , فانه سوف تعصف بهم رياح صراعات العمالقة هؤلاء .
على الشعب الاثيوبي ان يحرص على سلامة رسول السلام حفيد النجاشي , الذي منحتهم اياه العناية الالهية , في وقت جدب و جفاف و تصحر وضياع لمعاني القيم الانسانية النبيلة , فلقد شمل هذا الجفاف الانساني جميع بقاع الكرة الارضية , وما الحادثة الارهابية التي استهدفته في احدى المحافل الشعبية في سابق الايام , الا واحدة من الدلالات القوية على ان قتلة الانبياء , و ضاربي اعناق الهداة و المرشدين ما زالت تتقطر من انيابهم دماء المصلحين , وان الشيطان ما هو الا امراة او رجل يمشي بين الناس في الاسواق وياكل الطعام وما عليهم الا اجتنابه , و الحؤول بينه وبين حفيد الملك العادل حتى لا ينتزعه منهم هذا المارد الطريد واللعين , فالمنطقة في حاجة ملحة لامثاله من الوطنيين الخلص , حتى يكونوا هم الأشرعة التي تدفع سفنهم الرابضة و الساكنة منذ اعوام على مرافيء اليأس و الخنوع و الاستسلام , وتحثها على الابحار و الرسو على موانيء الامن و السلام والرفاه الاقتصادي .
اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com