د.بخيت أوبي
المتأمل للواقع فى السودان على امتداد التأريخ المنظور ما بعد الاستقلال، يجد جملة من تعقيدات المجتمعات منها التعصب للقبيلة وادعاء النقاء العرقي والتفاخر بالانساب والجذور والتعالى المتوهم، وعدم الاعتراف بالاخر، فمثلا معظم القبائل تنتسب الي الجزيرة العربية، وللتدليل على ذلك تجد الكثير من اشجار النسب عند القادة التقليدين، وقد صيغت كثير من الاحاجي والاساطير والروايات وان كانت كاذبة للتبرير والاحساس بالتفوق، وحفظ مساحة بينهم وبين غيرهم من المجتمعات، وتبرير كذلك السلطة المتوارثة والتقليدية، وكذلك اختلاق نزاعات مع المجتمعات المجاورة من حين الى اخر للتثبت من ولاء افراد ذلك المجتمع للزعيم والملهم وصاحب السلطة المطلقة والحكمة الممدودة، علاوة على ضمان التفاف مجموع المجتمع حول ذلك الزعيم المطلق.وفي ظل هذا الوضع المتوالي عبر امتداد السنون اكتسب القادة التقليديون الشرعية في البت في امر القبائل بسن قوانين محلية تناسب متطلبات ذلك المجتمع البدائي في تكوينه واحتياجاته وتفكيره وانفتاحه، ولكن حينما بدأ ظهور الدولة بشكلها المعروف وتحولها من دويلات الممالك وسلطان الاثنوجرافي والتقاليد الى دولة لها سلطات سياسية وحدود جغرافية واعتراف دولي، ظلت السلطات التقليدية كالجبال الراسيات لا يحركها رياح المدنية وموجات التعليم وتلاقح الثقافات والتداخل والتواصل السكاني والاجتماعي وسلطان الدولة، لقد اتبعت دولة ما بعد الاستعمار المماحلة والمهادنة والتحالف واقتسام السلطة مع السلطات التقليدية، تارة بالامتيازات وتارة اخري باعطائها مهام الدولة في الدفاع وتطبيق القانون، وتارو اخري باستخدامها ورقة رابحة في السياسة والتنافس السياسي، فكان لدولة الانقاذ نصيب الاسد في ارجاع المجتمع السوداني كله للجاهلية الاولي قبل الاسلام فكان الولاء والانتماء للقبيلة واقعا لا تخطئه العين في الحصول على الامن وخدمات الدولة وفتتات السلطة، ما ادي الى تفكك لحمة المجتمع، وتقوقع المستنيرين والمثقفين الى خانة الملاحظة والتعليق لا موقع الفعل والتغيير الاجتماعي، ما عمق من تغلغل القبيلة والتعصب الاثني والاستعلاء الثقافي الى مؤسسات الدولة، بحيث صارت عاجزة عن تغيير الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية الى الافضل، فصارت دولة بلا اسنان ولا انجاز، ففقدت ثقة المجتمع والفرد.
بعد ثورة ديسمبر العملاقة رفع الثوار الكثير من الشعارات وكان الخطاب يتجه نحو تجاوز اشكاليات الماضي، والعبور بسلاسة فوق الجراحات، وتوحيد الافئدة نحو السودان كبلد متعدد يحترم التنوع ويحترم حقوق الفرد وحقوق الانسان حقيقة لا مجازا، فكانت بداية جيدة لميلاد دولة جديدة في شكلها ومضامينها وقيمها.
انه لامر محزن للغاية كلما خطينا خطوة للامام تقهقرنا خطوات للوراء، بفعل الثقافة والخلفيات الاجتماعية والافكار المتوارثة والتقاليد التي ظلت مسيطرة على مدي قرون من الزمان، وان كانت غير ناجحة في عملية الادماج الاجتماعي والتمدن الحديث، وضرورة ظهور واحلال سلطان الدولة مكان السلطات التقليدية وقيم الثورة واهدافها مكان القيم التي تشجع على تصدع العلاقات وافراغ الطاقات والمجهود والزمن في مشكلات لاتخدم تطور البلاد وتحوله الى المدنية المرجوة، ظل الساسة يكررون ذات السيناريوهات منذ الاستقلال والى يومنا هذا مؤتمرات الصلح القبلي ولجان الصلح القبلي ودفع التعويضات والديات بمنظور الانتماء القبلي، فى حين ان الجاني يتسلل بجرمه من ورا القبيلة والزعامات التقليدية ويدفع البسطاء الثمن سواء ان كان حربا او تقتيلا او تشريدا او قيمة مالية، السؤال المهم هنا ما حجية هذه المعالجات المختلة وغير المنطقية وغير المنصفة في ظل دولة مدنية يجب ان تكون دولة القانون والمؤسسات وليست دولة القبيلة والترضيات، وما يدهش لماذا يحاسب المجموع بجريرة الفرد الواحد؟ لماذا لا يحاسب الفرد على جرائمه ويتحمل عواقب فعله، وما فائدة القوانين السودانية والمحاكم، وجهاز القضاء ووزارة العدل؟ اذا كانت هذه هى العقلية التى تتحكم في مصائر الناس في القرن الواحد وعشرين لماذا اذا يحتاج السودانيون الي دولة مدنية؟
لا ريب في ان الناظر بعين العقل ونور البصر والبصيرة يجد ان الامر لا يستقيم الا بالاتي:
اولا: اعمال مبدأ المحاسبة الفردية والقانونية لكل شخص ارتكب جرما، وانفاذ العقاب وفق القانون، وعدم الاعتراف بمبدأ المحاسبة الجماعية، وعدم الاعتراف كذلك بالانتماء القبلي والسلطة القبلية امام القانون.
ثانيا: تعزيز وتمكين دور القانون في المجتمعات المحلية وتنويرها وتثقيفها قانونيا، ونقل كافة السلطات الى مؤسسة القضاء وعدم الاعتراف بسلطات الزعامات التقليدية من ناحية قانونية.
ثالثا: الغاء مؤتمرات الصلح القبلي ومسألة الاتفاقيات القبلية واحلال مؤتمرات الثقافة القانونية والمسئولية الفردية بدلا عنها وقوانين حقوق الانسان.
ملاحظات:
لماذا تتجدد النزاعات القبلية رغم كثافة مؤتمرات الصلح القبلي، مراجعة تاريخ المصالحات القبلية في السودان.
لماذا لا توجد نزاعات قبلية في ولاية الخرطوم وتوجد فقط في اطراف السودان.
لماذا يجب المحافظة علي ارث الاستعمار التركي المصري والانجليزي في الادارة غير المباشرة الى الان
لماذ يحاسب الفرد في السودان الى الان حسب القبيلة ويتحمل تبعات اى فرد فيها، هل الانتماء بحكم الميلاد يعد جرما يحاسب عليه القانون.
هى اسئلة يجب ان تجد الاجابة بكل صدق ومواجهتها بشفافيه حتى يمكن اسراع تحول المجتمع والدولة الى الدولة المدنية المبتغاة.