د. فيصل عوض حسن
وفقاً لعُلماءِ الاجتماعِ، فأنَّ “التَعَصُّبَ” مَرَضٌ يُفضي للكراهيَّة المُجتمعيَّة/الشخصيَّة، سواء على الصعيد السياسي أو العقائدي/الدِيني والمَذْهَبي، أو العِرقي والطَبقي والرياضي، وهناك من يتعَصَّب لدولته أو إقليمه/منطقته أو نَّوعه (أنثى/ذكر) وغيره. وللتَعَصُّبِ أسبابٌ عديدة أهمَّها تَضَخُّمِ الذَّات، والإحساس بالنقص/الدُّونِيَّة، والجهل ونقص المعرفة، والغُلُو في تقديس البشر، والانغلاق وضيقِ الأُفُق. فضلاً عن التنشئة القائمة على التمييز وفق اللون أو الجنس أو القبيلة أو الفكر، والفهم الخاطئ للنصوص الدينيَّة، وضياع الهدف أو القضيَّة، وغياب آداب/أخلاقيات الحوار والتعامل مع الآخر، وانعدام العدل والمساواة، وغَلَبَة المصالح الشخصيَّة، وسيادة ثقافة القُوَّة/العنف وافتقاد القدوات، وتَرَاجُع الدور التربوي للأسرة والمُؤسَّسات التعليميَّة.
رغم تَصاهُراتنا والتقاء جذورنا الوراثيَّة وتَدَاخُلِها، وتَشَابُه سُحْناتنا وتَقَارُب مُستوياتنا الثقافيَّة/المعرفِيَّة، وعدم وجود (مزايا) تفضيليَّة حقيقيَّة بين بعضنا البعض، لكننا نحيا في السُّودان جميع أنواع التَعَصُّبِ، سياسياً وعِرقياً ودينياً وثقافياً/فكرياً وغيره، وبلَغَ بنا التَعَصُّب حَدَّ الافتخار بـ(الأحياء السَكَنِيَّة)، وقد نَتَشَابك/نَقْتَتِل في هذا الأمر دون تَردُّ/تَدَبُّر! وما زادَ حالتنا تعقيداً، مُساهمة غالبيَّة النُخَب السُّودانِيَّة في صناعة/تغذية هذا الاصطفاف/التَعَصُّب، بدلاً عن التوعية بأخطاره وأبعاده المُدمِّرة! ويُمكن القول بأنَّ التعصُّب مُتَجَذِّر ويتحكَّم في تَوَجُّهات غالبيَّة الشعب السُّوداني، خصوصاً التعصُّب القَبَلي/الجَهَوي وهو الأخطر والأكثر شيوعاً، ونَتَجَت عنه صراعات دَمَوِيَّة مُتطاوِلة ومُؤلِمة، أدَّت لانقسام السُّودان وتُهدِّد بانقساماتٍ جديد، إذا لم نَتَّعِظ من (فِتَنْ/أطماع) النُخَب/الجماعات، الذين ينقلونا من صراعٍ لآخر، حتَّى أصبحنا على شَفَا حربٍ أهلِيَّةٍ مُدَمِّرة، سنكون نحن (عَامَّةُ الشعب) ضحاياها الحصريين.
بالتأمُّل في صراع دارفور، وهو الأكثر دَمَوِيَّةً ودمار، فقد بدأ منذ سنواتٍ بعيدةٍ بين الرُعَاةِ والمُزارعين، بسبب مصادر المياه والأراضي الزراعِيَّة/الرَعَوِيَّة، ثُمَّ انتقل الصراع من الموارد ليأخذ الطابع العِرقِي/القَبَلي، بإيعازٍ وتحريضٍ من بعض الجماعات والنُخَب المُنحدرة من (جميع) مناطق السُّودان، بما في ذلك دارفور نفسها، وشَكَّلَ (بعضهم) كياناتٍ تَدَثَّرت ظاهرياً بالنضال، بينما كان هدفها المُسْتَتَرْ السُلطة والثروة، بعيداً عن مُعالجة جذور و(جوهر) الأزمات، التي ساهموا في صناعتها وتأجيجها. ساعدهم في ذلك، غياب الوعي والتنمية، وانتهازِيَّة الحكومات المركزِيَّة المُتكوِّنة أيضاً من كل مناطق السُّودان، فضلاً عن تَدَفُّق الأسلحة والجماعات والأفراد من الخارج!
ازداد الأمرُ سوءاً في حِقبة المُتأسلمين، الذين خَصًّصُوا مُؤسَّسات بعينها لتعميق الاصطفاف/التَعَصُّب، خاصَّةً الديني والجَهَوِي، كوزارة التخطيط الاجتماعي، التي تولَّى أمرها علي عثمان، ووَضَعَ لَبِنَاْتْ الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، ورَسَّخَ لثقافة الاختيار والتعيين استناداً للقَبَلِيَّة/الجَهَوِيَّة، وقام بتصنيف النشء وتمييزهم في المدارس وفق القبائل، بتنسيقٍ عالٍ مع وزارة التعليم (آنذاك). وهناك مُؤسَّسة الخدمة الإلزامِيَّة، التي مَارَسَت غَسْلَ الأَدْمِغَة في أبشع صوره، وأفرغت دواخل شبابنا من القيم والمبادئ، واستبدلتها بالتَوَجُّهات الإسْلَامَوِيَّة القائمة على التَعَصُّب، والمُتقاطعة مع الفطرة الإنسانيَّة السليمة، والطبيعة السُّودانية المُتسامِحة والمُسَالِمة. ويُمكن القول إجمالاً، بأنَّ المُتأسلمين انتهجوا سياسة (فَرِّق تَسُدْ)، بتقسيم الدولة لولاياتٍ ومحلياتٍ وقطاعاتٍ ومُؤسَّسات، رغم تكاليف هذا التقسيم وأعبائه على الاقتصاد المُتراجِع، واستبعدوا الشعب السُّوداني وانفردوا بثرواته، وأنهكونا فكرياً/روحياً وبدنياً واجتماعياً.
رغم (الخُبث) الإسْلَامَوي، حافظ السُّودانِيُّون على تَمَاسُكِهِم وارتباطهم الوجداني، وظلَّ التضامُن والتَلَاحُم السُّوداني النبيل والمُدهش شاهداً وحاضراً دوماً. ولنسترجع مَلاحِم الحِراك الشعبي بدءاً بديسمبر 2018، وصولاً لاعتصام جميع السُّودانيين، بعَفَوِيَّةٍ واجتهادٍ شعْبيِ خالص، وبعيداً عن جميع الكيانات (مَدَنِيَّة/مُسلَّحة)، وحماية المُواطنين لبعضهم البعض. لكننا وللأسف، عُدنا لمُربَّع الاصطفاف القَبَلي/الجَهَوِي، وتَصَاعدَت درجات التَعَصُّبِ، وانتشرت التعابير اللَّفظِيَّة العَدَائِيَّة، والأصوات المُنَادِيَة بالكراهِيَّة والتَخَلُّصِ من الآخر! عُدنا للنَهج الإسْلَامَوِي (الخبيث)، بإيعازٍ من الطَّامعين الخارجيين، وتنفيذ (المُرتزقة) وتُجَّارِ الحرب والنضال، حيث ابتدَر هذه العودة المُرتزق حميدتي، حينما أدرك (قُوَّة) الشعب الذي اتَّحَدَ ضد المليشيات الجنجويديَّة المأجورة/المُرْتَزِقَة، فسارع (المُرتزق) حِمِيْدْتي لحَشْد (سَواقِط) الإدارات الأهلِيَّة، الذين استجابوا لفِتات موائده المسمومة، وأشعلوا الفِتَن الجَهَوِيَّة من جديد، وهو أمرٌ حَذَّرتَ منه في مقالاتٍ عديدة، كمقالة (فَلْنُعَجِّلْ بِإيْقَاْفْ تَمْكِيْنْ حِمِيْدْتِي حِفَاْظَاً عَلَى اَلْسُّوْدَاْن) بتاريخ 15 مايو 2019، و(الغَفْلَةُ السُّودانيَّة) بتاريخ 26 مايو 2019، و(اَلْسُّوْدَاْنُ تَحْت اَلْاِحْتِلَاْل اَلْجَنْجَوِيْدِي) بتاريخ 3 يونيو 2019، و(اَلْسُّوْدَاْنِي اَلْأصِيل وَاَلْجَنْجَوِيْدِي اَلْمُرْتَزِق) بتاريخ 5 يونيو 2019، و(السُّودان بين مليشيات المُتأسلمين والجَنْجَوِيْد) بتاريخ 14 يونيو 2019، و(مَنِ اَلْمُسْتَفِيْد مِنْ إشْعَاْلِ اَلْشَرْقِ اَلْسُّوْدَاْني) بتاريخ 31 أغسطس 2019، (مَتى نَحْسِمْ الأفعَى الجَنْجَوِيدِيَّة؟!) بتاريخ 9 أكتوبر 2019 وغيرها.
المُمارسات (المُخزِية) لجماعة قحت، وَأَدَت الدوافع (الجوهريَّة) التي ثار السُّودانِيُّون لأجلها، وساهمت كثيراً في (إحياء/إشعال) القَبَلِيَّةِ/الجَهَوِيَّة من جديد، ثُمَّ جاء حمدوك وأشعلها أكثر، باختياراته غير الموضوعِيَّة للوُزراء، والتي لم تَلتزم بعامل الكفاءة وتَغَافَلت عن تحقيق التَوازُن بين الأقاليم، وهو أمرٌ فَصَّلته في عددٍ من المقالات كـ(إِلَى أَيْن يَقُوْدُنَا حَمْدوك) بتاريخ 24 سبتمبر 2019، و(المُتَلَاعِبون) بتاريخ 24 أكتوبر 2019، و(اِسْتِرْدَادُ الثَوْرَةِ السُّودانِيَّة) بتاريخ 3 فبراير 2020 وغيرها. أمَّا المُجتمعين في جوبا (للتفاوُضِ) باسم السُّودانيين، ورغم تَدَثُّرهم بالنِّضال ودعواتهم المُبَطَّنة والصَّريحة للتَعَصُّبِ القَبَلي/الجَهَوي، لكنهم لا يختلفون عن المُتأسلمين والمهنيين/قحت وأزلامهم، فهم يسعون لمصالحهم المالِيَّة والسُلْطَوِيَّة، ويُنفذون سيناريو أخطر وأكثر انحطاطاً، مما حدث بنيفاشا التي أفضت لفصل الجنوب وحده، بينما يعملون الآن لتذويب/تلاشي السُّودان بكامله، ويتضح هذا التآمُر من التقسيمات (المُفاجئة) لما يُسمَّى مسارات تفاوُض، وإيجاد مقاعد/مسارات وَهمِيَّة للبعض! ولو كانوا صادقين/قادرين فعلاً، لما جلسوا مع المُرتزق حِمِيْدْتِي من أساسه، لأنَّه كان ولا يزال (أداة) الإبادة والإجرام في السُّودان عموماً، ودارفور والمنطقتين والشرق بصفةٍ خاصَّة، وهي المناطق التي يُتَاجر المُتواجدون في جوبا بقضايا ودماء أهلها.
إنَّ الضحايا الحصريين للاصطفاف القَبَلِي/الجَهَوِي هم (عَامَّةَ) السُّودانيين، على اختلاف أقاليمهم ومناطقهم، هكذا رأينا وسنرى الأسوأ لو استمرَّت غفلتنا، أمَّا الجماعات (مدنِيَّة/مُسلَّحة) والنُخَبْ المُتدثِّرين بالقِبَلِيَّة والجَهَوِيَّة والدَّاعين لها، فقد ظَلُّوا على مَرِّ العُهُودِ في مأمنٍ هم وأسرهم، ولا يدفعون تكلفة (فِتَنِهِم) وخياناتهم المُتلاحقة للشعب، ولقد آن للسُّودانيين إدراك هذه الحقيقة التي لا تحتاج لشرحٍ وتفصيل. وبدلاً عن الاصطفاف الجَهَوِي والتَعَصُّب واستعداء بعضنا البعض، علينا التِدبُّر وإعمال العقل، والاتفاق على دستورٍ مُحترم، يكفُل لجميع عرقياتنا السُّودانِيَّة بالتعايش السلمي، دون تمييزٍ/تفضيلٍ، ويضمن حقوقنا الإنسانِيَّة/الاجتماعِيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة/الفكريَّة. ولندعم ذلك، بإعداد استراتيجيَّة وخطط عمل رصينة للتنمية المُتوازنة والمُسْتَدَامة، وتحديد أسباب الاختلاف والانخراط في حواراتٍ مبدئِيَّة، وتهيئة محاور مُشتركة لإعادة البناء المُجتمعي، والاستفادة من التجارُب العالمِيَّة/الإقليميَّة في تطويع وتسخير، التَنوُّع الثقافي والعرقي، ليكون مصدراً للتطوُّر والوحدة الوطنِيَّة.
ما لم نَتسامح ونتعايش سَلمياً، ونتَجاوَز المَرَارات التاريخيَّة التي ساهمنا فيها جميعاً، وحَرَّرنا ذواتنا من العصبِيَّة المُتَجَذِّرة فينا، سنفشل في التَحوُّل إلى مُجتمع مثالي، بل سيتلاشى ما تَبَقَّى مِنَّا ومن بلادنا، التي أضحت خواء من فَرط النَكَبات المُتواصلة. ليتنا نَتَدَبَّر التكاليف الباهظة للتَعَصُّبِ والاصطفاف الجَهَوِي، والنجاحات المُتوقَّعة من تَمازُج تَنَوُّعنا الثقافي والعِرقي، مُستصحبين علاقات الزَمَالةِ في الدراسةِ والعمل، والجِيْرَةِ والمُصاهَرةِ وصِلَاتِ الأرحام التي تربط بيننا، وطَوَّعنا/سَخَّرنا كل ذلك لتعضيد الإتحاد والتَلَاحُمِ وتعزيز وحدتنا الوطنِيَّة، وتَفَرَّغنا لإعادة بناء السُّودان وفقاً لأسُسٍ إنسانِيَّةٍ وقانونِيَّة وعلميَّة سليمة، بعيداً عن المُجرمين والمُرتزقة والطُفيليين، والكيانات الانتهازِيَّة والطَّامعين الخارجيين.