على صدى ذكرى نيفاشا
في التاسع من يناير اطلت ذكرى التوقيع على اتفاقية نيفاشا التي وقعت في العام 2005 وكتبت النهاية لاطول حرب اهلية في القارة الافريقية ونقدم اليوم لقراء الصحيفة نص الكلمة التي القاها مؤسس دولتنا الراحل المقيم الدكتور جون قرنق دي مبيور لنتأمل في اقواله التي كانت قراءة للواقع واستشراقا للمستقبل وهي الاتفاقية التي تعرف باتفاقية السلام الشامل ونقدمها للاجيال لنعرف قيمة الرجال رموز النضال وصناع الاستقلال
الوطن:الارشيف
سيدي الرئيس اسمحوا لي بالادلاء ببضع ملاحظات في هذا اليوم المشهود وامام هذا الحشد المهيب. ان الاعلان الذي فرغت للتو من توقيعه مع الاستاذ على عثمان محمد طه، النائب الأول لرئيس جمهورية السودان يمثل اعلاناً جاداً من جانبنا بان الحرب بحق اقتربت نهايتها. وانني لعلى ثقة تامة بان البروتوكولات الستة التي أشار إليها الاعلان ـ لو طبقت بصدق ووفق ارادة سياسية ثابتة ـ لكفيلة ببعث السودان واحكام وحدته الطوعية وإشاعة العدل والكرامة لكل مواطنيه دون استثناء لأول مرة منذ الاستقلال. وبهذا سيغير الاتفاق وجه السودان للابد، فالسودان لا يمكن ـ بل يستحيل ـ ان يبقى كما كان لان اتفاق السلام سيغمر القطر كله بتحول ديمقراطي جوهري بدلاً من الحروب التي ظلت دوماً تغمره. لقد ظلت رحى الحرب في السودان، كما تعلمون، تدور على مدى ثمان وثلاثين عاماً من سني استقلالنا السياسي الثمان والاربعين منذ 1/1/1956. وبدا لنا في بعض الاحيان ان السودان كله أخذ ينحدر الى هاوية من الصراعات والبغضاء لا قاع لها. هذه الصراعات لم تقف فقط عند الشمال والجنوب بل امتدت ايضاً الى الشرق والغرب. ودعني اشير هنا بأن ليس هناك بين الناس من هو أشد بغضاً للحرب من الذين خاضوا غمارها، وتعرضوا لآلامها، وعاشوا أهوالها ومحنها. ان الاستمرار العبثي للحرب الأهلية السودانية لن يؤدي فحسب الى تخريب موارد البلاد واستنزاف طاقتها، وانما أيضاً الى إفقار روحها وربما الى انهيار اخلاقي كامل يقود، لامحالة، لتفسخ القطر. ولحسن الحظ فانا نضع اليوم كل هذه الحروب وراء ظهرنا لنستشرف فجراً جديداً يطل علينا عبر مشروع سياسي جديد. حقاً ان الذي يجعل هذا السلام سلاماً مبشراً هو أنه جاء نتيجة لتوازن العجز العسكري الذي أنهك الطرفين. تلك هي الحالة التي يستبين فيها أي طرفين متحاربين ان تكلفة السلام اقل تكلفة من الحرب مما يحملهما على البحث عن حل لا خاسر فيه. لقد اصبح السلام ممكناً لأن الطرفين أدركا ان القطر كله قد أخذ في التحلل، وأن الدولة كادت تذوى وتختفي دون المرور بمرحلة التحول التاريخي الذي بشر به ماركس، كما بدأ السودان القديم الذي عرفناه في الانحدار في طريق لا عودة منه الى لُج التشظي. سيادة الرئيس يري الذين اتيح لهم الاطلاع على البروتوكولات الستة التي أشار إليها إعلان نيروبي شبكة معقدة من مؤسسات الحكم، وحساب يربك العقل حول توزيع الثروة خلال الفترة الانتقالية. هذا التعقيد انعكاس طبيعي لتعقيد مشاكل السودان. ولكن خلف هندسة السلطة وحسابات الثروة هنالك معنى آخر للسلام، فما هو هذا المعنى؟ ما الذي يعنيه السلام للحركة الشعبية؟ وما الذي يعنيه بالنسبة لي شخصياً، ليس كقائد سياسي، وانما كأخ وعم ووالد ومخلوق من مخلوقات الله؟ هنالك كثيرون ـ هنا وفي غير هذا المكان ـ يحسبون ان الغاية من السلام هو توزيع الوظائف، واقتسام مواقع السلطة، واكتناز المال عبر استغلال الممتلكات العامة، أو هو الهيمنة على الآخرين. الذين يفكرون على هذا الوجه يقرأون من نص آخر غير النص الذي أحمله. إن أهدافي أكثر سمواً من ذلك، وبدائلي ورؤياي أكثر نبلاً. النص الذي أحمله يقول أن السلام هو تحقيق الأماني التي يترجاها المواطن العادي من سلام يتطلع مشغوفاً لتحقيقه. فالسلام في فكري وفي اعماق روحي هو وعد بتوفير الحياة الفاضلة للصغار والشباب والمسنين، وفي كل بقاع السودان. هو وعد لابناء وبنات جنوب السودان، وجبال النوبة، وجنوب النيل الازرق، ومنطقة ابيي، وشرق السودان وبقية المناطق المهمشة في بلادنا الذين تحملوا في صمت وكبرياء فقدان ابنائهم في حرب التحرير وهم يحسون بالعجز واليأس. هو وعد لهؤلاء أننا لن نخون أبداً الأهداف التي ضحي بارواحهم من أجلها ابناؤهم الشهداء. هو أيضاً وعد لأرواح شهداء الحرب وضحاياها في الجانب الآخر ولذويهم أن السلام العادل المُشَرِّف هو الذي سيبرئ الجراح التي أدمينا بها بعضنا البعض. أيها السيدات والسادة لقد تكرست في مخيلتي منذ اسبوع صورة مازلت عاجزاً عن ازالتها. تلك هي صورة الأطفال من البنين والبنات الذين جاءوا من مركز كاكوما للاجئين في يوم السبت 31 مايو 2004 للغناء أمامي من أجل السلام في قاعة كينياتا للمؤتمرات بنيروبي. وكان ذلك في معرض الاحتفالات التي اقامتها الجالية السودانية في كينيا بتلك المناسبة. فالسلام عندي أيضاً هو ما عناه بالنسبة لاولئك الايفاع، وكما تجلى في عيونهم المتوهجة، أو عبرت عنه كلماتهم التي اخترقت شغاف قلوبنا جميعاً. هذا هو السلام الذي ضحيت من أجله خلال الواحد والعشرين عاماً الماضية. السيد الرئيس استميحكم عذراً لتحديد كفاف هذا الوعد والرؤى التي ترفده. فعلى المستوى القومي سنسعى لوضع استراتيجية تنموية تقوم على الآتي:- 1. معالجة جذور المشاكل التي شجعت على اندلاع الحروب الأهلية المتوالية في كل أرجاء القطر حتى نضع حداً لتلك الصراعات عبر حلول سلمية عادلة، ، بما في ذلك تلك التي تدور في دارفور وشرق السودان. 2. الرؤية التي تعترف بأن التنوع في السودان يمكن أن يكون مورداً ينهل منه التحول السياسي ويغذي التنمية الاقتصادية، وبهذا يصبح مصدر قوة بدلاً من أن يكون عنصر تفرقة وصراع وحروب دامية بين الاجيال. 3. بناء الثقة بين كل أقوام السودان وعلى كل مستويات الحكم، ومحاربة الفقر، والقضاء على أي إحساس بالتهميش أو الاستبعاد في كل أقاليم السودان 4. الالتزام باهداف الألفية التنموية (Millennium Development Goals) عبر برامج اقتصادية نملكها ونرسمها نحن بهدف تحقيق النمو الاقتصادي خاصة بتنمية الريف وتطوير الزراعة التقليدية وربطها بالصناعات الزراعية 5. الاداء الجيد للخدمات الاجتماعية عن طريق لامركزية السلطة وتخويلها للجماهير وتمكينهم من مباشرتها 6. اعطاء وحدة السودان فرصة خلال الفترة الانتقالية بجعلها خياراً جذاباً عند نهاية تلك الفترة ،،،،